الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
أكثر المذاهب إعمالا للرأي:

أكثر المذاهب رأيا هو هذا المذهب الذي ينسب إلى أبي حنيفة -رضي الله عنه- وهو -رحمه الله تعالى- كان مجتهدا، ولم يصنف شيئا في الفقه المبني على الرأي، وإنما جمعت هذه الفتاوى من علوم من كانوا ينسبون إليه، ومن أقوالهم، فزادت كل يوم في الرأي، وبعدت عن السنن بعدا عظيما، وبانت منها بونا بائنا.

وإن أنكر ذلك الاسم والرسم فرقة المذهب الحنفي، ولا يجديهم ذلك، فإن إخوانهم من أهل المذاهب الباقية يذكرونهم بهذا اللقب، وبهذه العلامة.

وعن مسروق، عن عبد الله، قال: لا يأتي زمان إلا وهو شر من الذي قبله، أما إني لا أقول: أمير خير من أمير، ولا عام أخصب من عام، ولكن فقهاؤكم يذهبون، ثم لا تجدون منكم خلفا، ويجيء أقوام يقيسون الأمور برأيهم.

وفي رواية أخرى عنه -رضي الله عنه- قال: ليس عام إلا الذي بعده شر منه، ولا أقول: عام أمطر من عام، ولا عام أخصب من عام، ولا أمير خير من أمير، ولكن ذهاب خياركم وعلمائكم، ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم، فيهدم الإسلام، ويثلم» أخرجه البيهقي بسند رجاله ثقات.

وعنه: قراؤكم وعلماؤكم يذهبون، ويتخذ الناس رؤوسا جهالا، يقيسون الأمور برأيهم.

هذه الآثار لها دلالة على أن أهل الرأي جاهلون، وأن الرأي جهل وسفه في الدين، وليس بعلم، ولا أهله بعالمين، وهذا هو الحق الواضح.

فإنك إذا فتشت عن كتب الإسلام في هذا الزمن، بل في الأزمان الحالية التي كانت بعد القرون المشهود لها بالخير، وجدت أكثرها مشتملة على الآراء والفروع المستخرجة، والأقيسة المستحدثة، والظنون المظنونة، وهي المتعارفة المتداولة بين الناس للإفتاء والقضاء، مع أنها ليس فيها ذكر لآية ولا لحديث، إلا ما شاء الله.

[ ص: 332 ] وما ذكر فيها من الأخبار، فغالبها مما لم يصح عند العارفين بعلم السنة والنقاد له، بل هي ضعاف، أو موضوعات، أو ما فيه علل وشذوذ ونكارة.

تركوا الأحاديث الصحيحة الصريحة المحكمة، التي لا شك فيها ولا ريب، في بطون الإخمال والإهمال، وجاؤوا بما هو في الحقيقة قيل وقال، وهذا واضح بحمد الله المتعال، لا يخفى إلا على أعمى عن حقيقة الحال ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا [الإسراء: 72].

وأما استدلالهم في بعض المسائل الواضحة الصريحة ببعض الآيات والأحاديث، فلا عبرة فيه؛ لأن الأمة اتفقت على ضروريات الأحكام من الإسلام.

إنما الشأن في مسائل خرجوها بوجوه من الأقيسة والظنون، وتركوا فيها الأحاديث الناطقة الدالة عليها، والأدلة العامة الشاملة لها.

وفي حديث أبي ثعلبة الخشني، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله فرض عليكم فرائض فلا تضيعوها، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وعفا عن أشياء رحمة لكم لا نسيانا، فلا تبحثوا عنها».

وهذه الفرق قد بحثوا عنها بحثا شديدا، وخرجوا مسائل كثيرة لا يأتي عليها حصر، وأجابوا عليها بالرأي، ودونوها في كتب الفتاوى والقضايا، مع نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن هذا الفعل، وذمه له.

فتأمل من هذا الذي عصوه في صنيعهم هذا، وأتوا بها على خلاف حكمه، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل وغوى، كما أن من أطاعهما فقد رشد واهتدى.

قال ابن عباس -رضي الله عنه-: إنما هو كتاب الله، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- فمن قال بعد ذلك برأيه، فما أدري، أفي حسناته أم في سيئاته؟

وهذا تصريح منه -رضي الله عنه- بأن أصول الإسلام في القرآن والحديث، ولا رأي معهما لأحد.

[ ص: 333 ] والرأي هو القياس والظن، وهو في سيئات الرائي والظان لا في حسناته.

وقال عمر: السنة ما سنه الله تعالى ورسوله، لا تجعلوا خطأ الرأي سنة للأمة.

المراد بما سنه الله ورسوله: الكتاب والحديث، وفيه النهي عن جعل الاجتهاد سنة للأمة مع وجود القرآن والسنة.

فرحم الله عمر الفاروق؛ كأنه علم بوقوع ذلك، فحذر منه، لكن كان كما قال.

وكيف لا يكون وهو محدث -بالفتح- من هذه الأمة، ومحدث -بالكسر- من جماعة السنة؟

قال الفلاني: لقد شاهدنا في هذه الأعصار رأيا مخالفا لسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مصادما لما في كتاب الله -عز وجل- قد جعلوه سنة، واعتقدوه دينا يرجعون إليه عند التنازع، وسموه مذهبا.

ولعمري! إنها مصيبة وبلية، وحمية وعصبية، أصيب بها الإسلام، وابتلي بها أهله، فإنا لله وإنا إليه راجعون. انتهى.

وأقول: إني شاهدت في هذه الأمصار والأعصار بدعا كثيرة، وشركا جليا، رأوه دينا قيما، وتوحيدا خالصا، حتى صار المعروف منكرا، والمنكر معروفا، عند طائفة من المتمذهبين، ووجد مصداق قوله تعالى: وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون [يوسف: 106].

دع عنك ذكر بدعة التقليد، فإنها أخف من البدع التي اتخذوها لهم إسلاما، وقاتلوا عليها قتالا شديدا، وهي تزداد فيهم كل يوم، وترفع من السنة مثلها كل زمان، وكان أمر الله قدرا مقدورا.

وأي مصيبة أعظم من أن يكون القرآن والحديث موجودين بين ظهرانيهم، وأهلهما يصيحون في الكتب، وفي المساجد، وعلى المنابر بالدعوة إلى التمسك بهما، وهم عنهما معرضون، وللدعاة إليهما خاذلون، وعلى كتب القوم مقبلون، وبها يفتون ويقضون؟

[ ص: 334 ] عن هشام بن عروة أنه سمع أباه يقول: لم يزل أمر بني إسرائيل مستقيما حتى أدرك فيهم المولدون أبناء سبايا الأمم، فأخذوا فيهم بالرأي، فأضلوا بني إسرائيل.

وقال الشعبي: إياكم والمقايسة، فوالذي نفسي بيده لئن أخذتم بالمقايسة، لتحلن الحرام، ولتحرمن الحلال، ولكن ما بلغكم ممن حفظ من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاحفظوه. يعني بذلك: العمل بالأحاديث.

وعنه -رحمه الله- قال: إنما هلكتم حين تركتم الآثار، وأخذتم بالمقائس.

وعن مسروق، قال: لا أقيس شيئا بشيء. قيل: لم؟ قال: أخاف أن تزل رجلي.

وقال ابن سيرين: كانوا يرون أنه على الطريق ما دام على الأثر. وعن ابن المبارك قال لرجل: إن ابتليت بالقضاء، فعليك بالأثر. وقال سفيان: إنما الدين الآثار.

وعنه: ليكن الذي تعتمد عليه هذا الأثر، وخذ من الرأي ما يفسر لك الأحاديث.

وعن شريح قال: إن السنة سبقت قياسكم، فاتبعوا ولا تبتدعوا؛ فإنكم لن تضلوا ما أخذتم بالأثر، والمراد بالأثر والآثار في هذه الآثار: أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد يطلق الأثر على قول الصحابي، ولكن المراد به هنا: هو الأول.

قال الشعبي: إن السنة لم توضع بالمقائس. وعن الحسن قال: إنما هلك من كان قبلكم حين تشعبت بهم السبل، وحادوا عن الطريق، فتركوا الآثار، وقالوا في الدين برأيهم، فضلوا وأضلوا.

فيا هذا! قل لي -رحمك الله-: هل هذه المذاهب يصدق عليها أنها تشعب [ ص: 335 ] السبل أم لا؟ أليس المذهب الحنفي سبيلا، والشافعي سبيلا، والمالكي سبيلا؟ أم هذه طريق واحدة؟

فإن كانت سبيلا واحدة، فما هذه التفرقة في جماعات الصلوات والمصلات في الحرم الشريف المكي، فضلا عن غيره؟ وما هذه الكتب المؤلفة في مذهب خاص، والتقليد الشخصي في المتمذهبين حتى لا ينظر مقلد المذهب المعين في كتاب المذهب الآخر، ولا يتمسك به في الفتيا والقضاء؟ وإن نظر يوما من الدهر نظر لأجل الرد عليه، والطرد عنه.

التالي السابق


الخدمات العلمية