الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 139 ] وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا .

عطف على جملة ويقولون طاعة فضمير الجمع راجع إلى الضمائر قبله ، العائدة إلى المنافقين ، وهو الملائم للسياق ، ولا يعكر عليه إلا قوله وإلى أولي الأمر منهم ، وستعلم تأويله ، وقيل : الضمير هذا راجع إلى فريق من ضعفة المؤمنين : ممن قلت تجربته وضعف جلده ، وهو المناسب لقوله وإلى أولي الأمر منهم بحسب الظاهر ، فيكون معاد الضمير محذوفا من الكلام اعتمادا على قرينة حال النزول ، كما في قوله حتى توارت بالحجاب .

والكلام مسوق مساق التوبيخ للمنافقين واللوم لمن يقبل مثل تلك الإذاعة ، من المسلمين الأغرار .

ومعنى " جاءهم أمر " أي أخبروا به ، قال امرؤ القيس :

وذلك من نبأ جاءني فالمجيء مجاز عرفي في سماع الأخبار ، مثل نظائره ، وهي : بلغ ، وانتهى إليه ، وأتاه ، قال النابغة :

أتأني - أبيت اللعن أنك - لمتني والأمر هنا بمعنى الشيء ، وهو هنا الخبر ، بقرينة قوله أذاعوا به .

ومعنى " أذاعوا " : أفشوا ، ويتعدى إلى الخبر بنفسه ، وبالباء ، يقال : أذاعه وأذاع به ، فالباء لتوكيد اللصوق كما في وامسحوا برءوسكم .

والمعنى إذا سمعوا خبرا عن سرايا المسلمين من الأمن ، أي الظفر الذي يوجب أمن المسلمين أو الخوف وهو ما يوجب خوف المسلمين ، أي اشتداد العدو عليهم ، [ ص: 140 ] بادروا بإذاعته ، أو إذا سمعوا خبرا عن الرسول - عليه السلام - وعن أصحابه ، في تدبير أحوال المسلمين من أحوال الأمن أو الخوف ، تحدثوا بتلك الأخبار في الحالين ، وأرجفوها بين الناس لقصد التثبيط عن الاستعداد ، إذا جاءت أخبار أمن حتى يؤخذ المؤمنون وهم غارون ، وقصد التجبين إذا جاءت أخبار الخوف ، واختلاف المعاذير للتهيئة للتخلف عن الغزو إذا استنفروا إليه ، فحذر الله المؤمنين من مكائد هؤلاء ، ونبه هؤلاء على دخيلتهم ، وقطع معذرتهم في كيدهم بقوله ولو ردوه إلى الرسول إلخ ، أي لولا أنهم يقصدون السوء لاستثبتوا الخبر من الرسول ومن أهل الرأي .

وعلى القول بأن الضمير راجع إلى المؤمنين فالآية عتاب للمؤمنين في هذا التسرع بالإذاعة ، وأمرهم بإنهاء الأخبار إلى الرسول وقادة الصحابة ليضعوه مواضعه ويعلموهم محامله .

وقيل : كان المنافقون يختلقون الأخبار من الأمن أو الخوف ، وهي مخالفة للواقع ، ليظن المسلمون الأمن حين الخوف فلا يأخذوا حذرهم ، أو الخوف حين الأمن فتضطرب أمورهم وتختل أحوال اجتماعهم ، فكان دهماء المسلمين إذا سمعوا ذلك من المنافقين راج عندهم فأذاعوا به .

فتم للمنافقين الدست ، وتمشت المكيدة ، فلامهم الله وعلمهم أن ينهوا الأمر إلى الرسول وجلة أصحابه قبل إشاعته ليعلموا كنه الخبر وحاله من الصدق أو الكذب ، ويأخذوا لكل حالة حيطتها ، فيسلم المؤمنون من مكر المنافقين الذي قصدوه . وهذا بعيد من قوله " جاءهم " وعلى هذا فقوله " لعلمه " هو دليل جواب " لو " وعلته ، فجعل عوضه وحذف المعلول ، إذ ا لمقصود لعلمه الذين يستنبطونه من أولي الأمر فلبينوه لهم على وجهه .

ويجوز أن يكون المعنى : ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلم ذلك المنافقون الذين اختلقوا الخبر فلخابوا إذ يوقنون بأن حيلتهم لم تتمش على المسلمين ، فيكون الموصول صادقا على المختلقين بدلالة المقام ، ويكون ضمير " منهم " الثاني عائدا على المنافقين بقرينة المقام .

والرد حقيقته إرجاع شيء إلى ما كان فيه من مكان أو يد ، واستعمل هنا مجازا في إبلاغ الخبر إلى أولى الناس بعلمه . وأولو الأمر هم كبراء المسلمين وأهل الرأي [ ص: 141 ] منهم ، فإن كان المتحدث عنهم المنافقين فوصف أولي الأمر بأنهم منهم جار على ظاهر الأمر وإرخاء العنان ، أي أولو الأمر الذين يجعلون أنفسهم بعضهم ; وإن كان المتحدث عنهم المؤمنين ، فالتبعيض ظاهر .

والاستنباط حقيقته طلب النبط بالتحريك . وهو أول الماء الذي يخرج من البئر عند الحفر ، وهو هنا مجاز في العلم بحقيقة الشيء ومعرفة عواقبه ، وأصله مكنية : شبه الخبر الحادث بحفير يطلب منه الماء ، وذكر الاستنباط تخييل . وشاعت هذه الاستعارة حتى صارت حقيقة عرفية ، فصار الاستنباط بمعنى التفسير والتبيين ، وتعدية الفعل إلى ضمير الأمر على اعتبار المعنى العرفي ، ولولا ذلك لقيل : يستنبطون منه ، كما هو ظاهر ، أو هو على نزع الخافض .

وإذا جريت على احتمال كون ( يستنبطون ) بمعنى يختلقون كما تقدم كانت " يستنبطونه " تبعية ، بأن شبه الخبر المختلق بالماء المحفور عنه ، وأطلق يستنبطون بمعنى يختلقون ، وتعدى الفعل إلى ضمير الخبر لأنه المستخرج . والعرب يكثرون الاستعارة من أحوال المياه كقولهم : يصدر ويورد ، وقولهم ضرب أخماسا لأسداس ، وقولهم : ينزع إلى كذا ، وقوله تعالى فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم ، وقال عبدة بن الطبيب :

    فحق لشأس من نداك ذنوب
ومنه قولهم : تساجل القوم ، أصله من السجل ، وهو الدلو .

وقال قيس بن الخطيم :


إذا ما اصطبحت أربعا خط مئزري     وأتبعت دلوي في السماح رشاءها

فذكر الدلو والرشاء . وقال النابغة :


خطاطيف حجن في حبال متينة     تمد بها أيد إليك نوازع

وقال :


ولولا أبو الشقراء ما زال ماتح     يعالج خطافا بإحدى الجرائر

[ ص: 142 ]

وقالوا أيضا " انتهز الفرصة " ، والفرصة نوبة الشرب ، وقالوا : صدر القوم عن رأي فلان ووردوا على رأيه .

وقوله " منهم " وصف للذين يستنبطونه ، وهم خاصة أولي الأمر من المسلمين ، أي يردونه إلى جماعة أولي الأمر فيفهمه الفاهمون من أولي الأمر ، وإذا فهمه جميعهم فأجدر .

وقوله ولولا فضل الله عليكم ورحمته امتنان بإرشادهم إلى أنواع المصالح ، والتحذير من المكائد ومن حبائل الشيطان وأنصاره .

واستثناء " إلا قليلا " من عموم الأحوال المؤذن بها " اتبعتم " ، أي إلا في أحوال قليلة ، فإن كان المراد من فضل الله ورحمته ما يشمل البعثة فما بعدها ، فالمراد بالقليل الأحوال التي تنساق إليها النفوس في بعض الأحوال بالوازع العقلي أو العادي ، وإن أريد بالفضل والرحمة النصائح والإرشاد فالمراد بالقليل ما هو معلوم من قواعد الإسلام . ولك أن تجعله استثناء من ضمير " اتبعتم " أي إلا قليلا منكم ، فالمراد من الاتباع اتباع مثل هذه المكائد التي لا تروج على أهل الرأي من المؤمنين .

التالي السابق


الخدمات العلمية