الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        ثم نقول بعد هذا :

                        إن الحقيقية لما كانت أكثر وأعم وأشهر في الناس ذكرا ، وافترقت الفرق ، وكان الناس شيعا ، وجرى من أمثلتها ما فيه الكفاية ، وهي أسبق في فهم العلماء ؛ تركنا الكلام فيما يتعلق بها من الأحكام .

                        ومع ذلك ؛ فقلما تختص بحكم دون الإضافية ، بل هما معا يشتركان في أكثر الأحكام التي هي مقصود هذا الكتاب أن تشرح فيه ؛ بخلاف الإضافية ، فإن لها أحكاما خاصة وشرحا خاصا ـ وهو المقصود في هذا الباب ؛ إلا أن الإضافية أولا على ضربين :

                        أحدهما : يقرب من الحقيقية ، حتى تكاد البدعة تعد حقيقية .

                        والآخر : يبعد منها حتى ( يكاد ) يعد سنة محضة .

                        ولما انقسمت هذا الانقسام ؛ صار من الأكيد على كل قسم [ ص: 369 ] على حدته ، فلنعقد في كل واحد منهما فصولا بحسب ما يقتضيه ، وبالله التوفيق .

                        فصل

                        قال الله سبحانه في شأن عيسى عليه السلام ومن اتبعه : وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون .

                        فخرج عبد بن حميد وإسماعيل بن إسحاق القاضي وغيرهما عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ؛ قال :

                        قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هل تدري أي الناس أعلم ؟ " .

                        قلت : الله ورسوله أعلم .

                        قال : " أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس ، وإن كان مقصرا في العمل ، وإن كان يزحف على أليتيه واختلف من كان قبلنا على اثنتين وسبعين فرقة ، نجا منها ثلاث ، وهلك سائرها : فرقة آزت الملوك وقاتلتهم على دين الله ودين عيسى ابن مريم حتى قتلوا ، وفرقة لم تكن لهم طاقة بمؤازاة الملوك ، فأقاموا على دين الله بين ظهراني قومهم ، فدعوهم إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم ، فأخذتهم الملوك ، فقتلتهم وقطعتهم بالمناشير ، وفرقة لم تكن لهم طاقة بمؤازاة الملوك ولا بأن يقيموا بين ظهراني قومهم فيدعوهم إلى دين الله [ ص: 370 ] ودين عيسى ابن مريم ، فساحوا في الجبال ، وترهبوا فيها ، هم الذين قال الله عز وجل ( فيهم ) : ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون .

                        فالمؤمنون الذين آمنوا بي وصدقوا بي والفاسقون الذين كذبوا وحجدوا
                        .

                        وهذا الحديث من أحاديث الكوفيين .

                        والرهبانية فيه بمعنى اعتزال الخلق في السياحة ، واطراح الدنيا ولذاتها من النساء وغير ذلك ، ومنه لزوم الصوامع والديارات ـ على ما كان عليه النصارى قبل الإسلام ـ مع التزام العبادة ، وعلى هذا التفسير جماعة من المفسرين .

                        ويحتمل أن يكون الاستثناء في قوله ( تعالى ) : إلا ابتغاء رضوان الله ، متصلا ومنفصلا :

                        فإذا بنينا على الاتصال ، فكأنه يقول : ما كتبناها عليهم إلا على هذا الوجه الذي هو العمل بها ابتغاء رضوان الله ، فالمعنى أنها مما كتبت عليهم ـ أي : مما شرعت لهم ـ لكن بشرط قصد الرضوان .

                        فما رعوها حق رعايتها ؛ يريد أنهم تركوا رعايتها حين لم يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو قول طائفة من المفسرين ؛ لأن قصد الرضوان إذا كان [ ص: 371 ] شرطا في العمل بما شرع لهم ؛ فمن حقهم أن يتبعوا ذلك القصد ، فإلى أين سار بهم ؛ ساروا ، وإنما شرع لهم على شرط أنه إذا نسخ بغيره ؛ رجعوا إلى ما أحكم وتركوا ما نسخ ، وهو معنى ابتغاء الرضوان على الحقيقة ، فإذا لم يفعلوا وأصروا على الأول ؛ كان ذلك اتباعا للهوى ، لا اتباعا للمشروع ، واتباع المشروع هو الذي يحصل له الرضوان ، وقصد الرضوان بذلك .

                        قال تعالى : فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون ، فالذين آمنوا هم الذين اتبعوا الرهبانية ابتغاء رضوان الله ، والفاسقون هم الخارجون عن الدخول فيها بشرطها ، إذ لم يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم .

                        إلا أن هذا التقرير يقتضي أن المشروع لهم يسمى ابتداعا ، وهو خلاف ما دل عليه حد البدعة .

                        والجواب : أنه يسمى بدعة من حيث أخلوا بشرط المشروع ، إذ شرط عليهم فلم يقوموا به ، وإذا كانت العبادة مشروطة بشرط ، فيعمل بها دون شرطها ؛ لم تكن عبادة على وجهها ، وصارت بدعة ؛ كالمخل قصدا بشرط من شروط الصلاة ؛ مثل استقبال القبلة أو الطهارة أو غيرها ، فحيث عرف بذلك وعلمه ؛ فلم يلتزمه ، ودأب على الصلاة دون شرطها ؛ فذلك العمل من قبيل البدع ، فيكون ترهب النصارى صحيحا قبل بعث محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما بعث ؛ وجب الرجوع عن ذلك كله إلى ملته ، فالبقاء عليه مع نسخه بقاء على ما هو باطل بالشرع ، وهو عين البدعة .

                        [ ص: 372 ] وإذا بنينا على أن الاستثناء منقطع وهو قول فريق من المفسرين ؛ فالمعنى : ما كتبناها عليهم أصلا ، ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله ، فلم يعملوا بها بشرطها ، وهو الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ بعث إلى الناس كافة .

                        وإنما سميت بدعة على هذا الوجه لأمرين :

                        أحدهما : يرجع إلى أنها بدعة حقيقية ـ كما تقدم ـ لأنها داخلة تحت حد البدعة .

                        والثاني : يرجع إلى أنها بدعة إضافية ؛ لأن ظاهر القرآن دل على أنها لم تكن مذمومة في حقهم بإطلاق ، بل لأنهم أخلوا بشرطها ، فمن لم يخل منهم بشرطها ، وعمل بها قبل بعث النبي صلى الله عليه وسلم ، حصل له فيها أجر ؛ حسبما دل عليه قوله : فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ؛ أي : أن من عمل بها في وقتها ثم آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد بعثه ؛ وفيناه أجره .

                        وإنما قلنا : إنها في هذا الوجه إضافية ؛ لأنها لو كانت حقيقية ؛ لخالفوا بها شرعهم الذي كانوا عليه ؛ لأن هذا حقيقة البدعة ، فلم يكن لهم بها أجر ، بل كانوا يستحقون العقاب ؛ لمخالفتهم لأوامر الله ونواهيه ، فدل على أنهم فعلوا ما كان جائزا لهم فعله ، فلا تكون بدعتهم حقيقية ، لكنه ينظر على أي معنى أطلق عليها لفظ البدعة ، وسيأتي بعد بحول الله .

                        وعلى كل تقدير ؛ فهذا القول لا يتعلق بهذه الأمة منه حكم ؛ لأنه [ ص: 373 ] نسخ في شريعتنا ، فلا رهبانية في الإسلام ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : من رغب عن سنتي فليس مني .

                        على أن ابن العربي نقل في الآية أربعة أقوال :

                        الأول : ما تقدم .

                        والثاني : أن الرهبانية رفض النساء ، وهو المنسوخ في شرعنا .

                        والثالث : أنها اتخاذ الصوامع للعزلة .

                        والرابع : السياحة .

                        قال : " وهو مندوب إليه في ديننا عند فساد الزمان " .

                        وظاهره يقتضي أنها بدعة ؛ لأن الذين ترهبوا قبل الإسلام إنما فعلوا ذلك فرارا منهم بدينهم ، وسميت بدعة ، والندب إليها يقتضي أن لا ابتداع فيها ، فكيف يجتمعان ؟ !

                        ولكن للمسألة فقه يذكر بحول الله .

                        وقيل : إن معنى قوله تعالى : ورهبانية ابتدعوها ؛ أنهم تركوا الحق ، وأكلوا لحوم الخنازير ، وشربوا الخمر ، ولم يغتسلوا من جنابة ، وتركوا الختان ، فما رعوها ؛ يعني : الطاعة والملة حق رعايتها ، فالهاء راجعة إلى غير مذكور ، وهو الملة المفهوم معناها من قوله : وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ؛ لأنه يفهم منه أن ثم ملة [ ص: 374 ] متبعة ، كما دل قوله : إذ عرض عليه بالعشي على الشمس حتى عاد عليها الضمير في قوله : توارت بالحجاب ، وكان المعنى على هذا القول : ما كتبناها عليهم على هذا الوجه الذي فعلوه ، وإنما أمرناهم بالحق ، فالبدعة فيه إذا حقيقية لا إضافية .

                        وعلى كل تقدير ؛ فهذا الوجه هو الذي قال به أكثر العلماء ، فلا نظر فيه بالنسبة إلى هذه الأمة .

                        وخرج سعيد بن منصور وإسماعيل القاضي عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أنه قال : " أحدثتم قيام شهر رمضان ولم يكتب عليكم ، إنما كتب عليكم الصيام ، فدوموا على القيام إذ فعلتموه ولا تتركوه ؛ فإن أناسا من بني إسرائيل ابتدعوا بدعا لم يكتبها الله عليهم ابتغوا بها رضوان الله ، فلم يرعوها حق رعايتها ، فعاتبهم الله بتركها ، فقال : ورهبانية ابتدعوها ، الآية .

                        وفي رواية : " فإن ناسا من بني إسرائيل ابتدعوا بدعة ابتغاء رضوان الله ، فلم يرعوها حق رعايتها ، فعاتبهم الله بتركها ، فتلا هذه الآية : ورهبانية ابتدعوها ، إلى آخر الآية .

                        وهذا القول يقرب من قول بعض المفسرين في قوله : فما رعوها حق رعايتها ؛ يريد أنهم قصروا فيها ولم يدوموا عليها .

                        قال بعض نقلة التفسير : " وفي هذا التأويل لزوم الإتمام لكل من بدأ بتطوع ونفل ، وأن يرعوه حق رعيه .

                        [ ص: 375 ] قال ابن العربي : " وقد زاغ عن منهج الصواب من يظن أنها رهبانية كتبت عليهم بعد أن التزموها " .

                        قال : وليس يخرج هذا عن مضمون الكلام ، ولا يعطيه أسلوبه ولا معناه ، ولا يكتب على أحد شيء إلا بشرع أو نذر . قال : وليس في هذا اختلاف بين أهل الملل ، والله أعلم .

                        وهذا القول محتاج إلى النظر والتأمل إذا بنينا العمل على وفقه ، إذ أكثر العلماء على القول الأول ؛ فإن هذه الملة لا بدعة فيها ، ولا تحتمل القول بجواز الابتداع بحال ؛ للقطع بالدليل أن كل بدعة ضلالة ـ حسبما تقدم ـ ، فالأصل أن يتبع الدليل ، ولا عمل على خلافه .

                        ومع ذلك ؛ فلا نخلي ـ بحول الله ـ قول أبي أمامة رضي الله عنه من نظر صحيح على وفق الدليل الشرعي ، وإن كان فيه بعد بالنسبة إلى ظاهر الأمر ، وذلك أنه عد عمل عمر رضي الله عنه في جمع الناس في المسجد على قارئ واحد في رمضان بدعة لقوله حين دخل المسجد وهم يصلون : " نعمت البدعة هذه ، والتي ينامون عنها أفضل " .

                        وقد مر أنه إنما سماها باعتبار ما ، وأن قيام الإمام بالناس في المسجد في رمضان سنة عمل بها صاحب السنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما تركها خوفا من الافتراض ، فلما انقضى زمن الوحي ؛ زالت العلة فعاد العمل بها إلى نصابه ؛ إلا أن ذلك لم يتأت لأبي بكر رضي الله عنه زمان خلافته ؛ لمعارضة ما هو أولى بالنظر فيه ، وكذلك صدر خلافة عمر رضي الله عنه ، حتى تأتى النظر ، فوقع منه ، لكنه صار في ظاهر الأمر كأنه أمر لم [ ص: 376 ] يجر به عمل من تقدمه دائما ، فسماه بذلك الاسم ، لا أنه أمر على خلاف ما ثبت من السنة .

                        فكأن أبا أمامة اعتبر فيه نظر ذلك العمل به ، فسماه إحداثا ؛ موافقة لتسمية عمر رضي الله عنه ، ثم أمر بالمداومة عليه بناء على ما فهم من هذه الآية من أن ترك الرعاية هو ترك دوامهم على التزام عمل ليس بمكتوب بل هو مندوب ، فلم يوفوا بمقتضى ما التزموه ؛ لأن الأخذ في التطوعات غير اللازمة ، ولا السنن الراتبة يقع على وجهين :

                        أحدهما : أن تؤخذ على أصلها فيما استطاع الإنسان ، فتارة ينشط لها وتارة لا ينشط ، أو يمكنه تارة بحسب العادة ولا يمكنه أخرى لمزاحمة أشغال ونحوها . . . . وما أشبه ذلك ؛ كالرجل يكون له اليوم ما يتصدق به فيتصدق ، ولا يكون له ذلك غدا ، أو يكون له إلا أنه لا ينشط للعطاء ، أو يرى إمساكه أصلح في عادته الجارية له ، أو غير ذلك من الأمور الطارئة للإنسان .

                        فهذا الوجه لا حرج على أحد ترك التطوعات كلها ، ولا لوم عليه ، إذ لو كان ثم لوم أو عتب ؛ لم يكن تطوعا ، وهو خلاف الفرض .

                        والثاني : أن تأخذ مأخذ الملتزمات ؛ كالرجل يتخذ لنفسه وظيفة راتبة من عمل صالح في وقت من الأوقات ، كالتزام قيام حظ من الليل مثلا ، وصيام يوم بعينه لفضل ثبت فيه على الخصوص ؛ كعاشوراء وعرفة ، أو يتخذ وظيفة من ذكر الله بالغداة والعشي . . . . وما أشبه ذلك .

                        فهذا الوجه أخذت فيه التطوعات مأخذ الواجبات من وجه ؛ أنه لما [ ص: 377 ] نوى الدؤب عليها في الاستطاعة ؛ أشبهت الواجبات والسنن الراتبة ؛ كما أنه لو كان ذلك الإيجاب غير لازم بالشرع ؛ لم يصر واجبا ؛ إذ تركه أصلا لا حرج فيه في الجملة ؛ أعني : ترك الالتزام ، ونظيره عندنا النوافل الراتبة بعد الصلوات ؛ فإنها مستحبة في الأصل ، ومن حيث صارت رواتب ؛ أشبهت السنن والواجبات .

                        وهذا المعنى هو المفهوم من قوله صلى الله عليه وسلم في الركعتين بعد العصر حين صلاهما فسئل عنهما فقال : يا ابنة أبي أمية ! سألت عن الركعتين بعد العصر ؟ أتى ناس من عبد القيس بالإسلام من قومهم ، فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر ، فهما هاتان ؛ لأنه سئل عن صلاته لهما بعد ما نهى عنهما ، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يصليهما بعد الظهر كالنوافل الراتبة ، فإما فاتتاه ؛ صلاهما بعد وقتهما كالقضاء لهما حسبما يقضي الواجب .

                        فصار حينئذ لهذا النوع حالة من التطوع بين حالتين ؛ إلا أنه راجع إلى خيرة المكلف بحسب ما فهمنا من الشرع .

                        وإذا كان كذلك ؛ فقد فهمنا من مقصود الشرع أيضا الأخذ بالرفق والتيسير ، وأن لا يلزم المكلف ما لعله يعجز عنه ، أو يحرج بالتزامه ، فإن الالتزام ؛ إن لم يبلغ مبلغ القدر الذي يكره ابتداء ؛ فهو يقرب من العهد الذي يجعله الإنسان بينه وبين ربه ، ( والوفاء بالعهد مطلوب في الجملة ، فصار الإخلال به مكروها ) .

                        [ ص: 378 ] والدليل على صحة الأخذ بالرفق ، وأنه الأولى والأحرى ـ وإن كان الدوام على العمل أيضا مطلوبا عتيدا ـ في الكتاب والسنة : واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ، على قول طائفة من المفسرين : أن الكثير من الأمر واقع في التكاليف الإسلامية ، ومعنى لعنتم لحرجتم ، ولدخلت عليكم المشقة ، ودين الله لا حرج فيه ، ولكن الله حبب إليكم الإيمان ؛ بالتسهيل والتيسير ، وزينه في قلوبكم الآية .

                        وإنما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحة ، ووضع الإصر والأغلال التي كانت على غيرهم .

                        وقال الله تعالى في صفة نبيه عليه السلام : عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم .

                        وقال تعالى : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر .

                        وقال : يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا .

                        وسمى الله تعالى الأخذ بالتشديد على النفس اعتداء ، فقال تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا .

                        ومن الأحاديث كثير .

                        ؛ كمسألة الوصال ، ففي الحديث عن عائشة [ ص: 379 ] رضي الله عنها أنها قالت : نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم ، قالوا : إنك تواصل ، قال : " إني لست كهيئتكم ، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني .

                        وعن
                        أنس ؛ رضي الله عنه قال : واصل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر شهر رمضان ، فواصل ناس من المسلمين ، فبلغه ذلك ، فقال : " لو مد لنا شهر لواصلنا وصالا حتى يدع المتعمقون تعمقهم ، وهذا إنكار .

                        وعن أبي هريرة ؛ قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال ، فقال رجل من المسلمين : فإنك يا رسول الله تواصل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وأيكم مثلي ؟ ! إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ، فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال ؛ بهم يوما ، ثم يوما ، ثم رأوا الهلال ، فقال : " لو تأخر الشهر لزدتكم " ؛ كالمنكل ، حين أبوا أن ينتهوا .

                        ومن ذلك مسألة قيام النبي صلى الله عليه وسلم بهم في رمضان ؛ فإنه تركه مخافة أن يفرض عليهم فيعجزوا عنه فيقعوا في الإثم والحرج ، فكان ذلك رفقا منه بهم .

                        قال القاضي أبو الطيب : " يحتمل أن يكون الله تعالى أوحى إليه أنه إن واصل هذه الصلاة معهم ؛ فرضت عليهم " .

                        وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها : " إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع [ ص: 380 ] العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم .

                        وقد قيل هذا المعنى في قوله صلى الله عليه وسلم : لا تخصوا يوم الجمعة بصيام .

                        قال المهلب : " وجهه : خشيت أن يستمر عليه فيفرض " .

                        وبهذا المعنى يجتمع النهي مع قول مالك رضي الله عنه في الموطأ ، ولا يكون فيه إشكال .

                        ومن ذلك حديث الحولاء بنت تويت ؛ قالت عائشة رضي الله عنها : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي امرأة ، فقال : " من هذه ؟ " ، فقلت : امرأة لا تنام تصلي ، فقال صلى الله عليه وسلم : " لا تنام الليل ! خذوا من العمل ما تطيقون ، فوالله لا يسأم الله حتى تسأموا .

                        فأعاد لفظ " لا تنام " منكرا عليها
                        ـ والله أعلم ـ ، غير راض فعلها ؛ لما خافه عليها من الكلل والسآمة أو تعطيل حق آكد .

                        ونحوه حديث أنس رضي الله عنه ؛ قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد ـ وحبل ممدود بين ساريتين ـ ، فقال : ما هذا ؟ " ، قالوا : حبل لزينب تصلي ، فإذا كسلت أو فترت ؛ أمسكت به ، فقال : " حلوه ، ليصل أحدكم نشاطه ، فإذا كسل أو فتر ؛ قعد .

                        وفي رواية : لا ، حلوه
                        .

                        [ ص: 381 ] وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ؛ قال : بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أني أصوم أسرد ، وأصلي الليل ، فإما أرسل إلي وإما لقيته ، فقال : " ألم أخبر أنك تصوم لا تفطر وتصلي الليل ؟ ! فلا تفعل ؛ فإن لعينك حظا ، ولنفسك حظا ، ولأهلك حظا ، فصم وأفطر ، وصل ونم . . . ، الحديث .

                        وفي رواية عن أبي سلمة ؛ قال : حدثني عبد الله بن عمرو بن العاص ؛ قال : كنت أصوم الدهر ، وأقرأ القرآن كل ليلة ، فإما ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم ، وإما أرسل إلي فأتيته ، فقال : " ألم أخبر أنك تصوم الدهر ، وتقرأ القرآن كل ليلة ؟ ! ، فقلت : بلى يا رسول الله ، ولم أر في ذلك إلا الخير ، قال : " فإن كان كذلك ، أو قال : كذلك ) ؛ فحسبك أن تصوم كل شهر ثلاثة أيام " ، قلت : يا نبي الله ! إني أطيق أفضل من ذلك ، قال : " فإن لزوجك عليك حقا ، ولزوارك عليك حقا ، ولجسدك عليك حقا " ، قال : فصم صوم داود نبي الله ؛ فإنه كان أعبد الناس " ، قال : فقلت يا نبي الله ـ وما صوم داود ؟ قال : " كان يصوم يوما ويفطر يوما " ، قال : " واقرأ القرآن في كل شهر " ، قال : فقلت يا نبي الله ! إني أطيق أفضل من ذلك . قال : فاقرأه في كل عشرين ، قال : قلت : يا نبي الله ! إني أطيق أفضل من ذلك ، قال : " فاقرأه في سبع ، ولا تزد على ذلك ؛ فإن لزوجك عليك حقا ، ولزوارك عليك حقا ، ولجسدك عليك حقا ، قال : فشددت فشدد ( الله ) علي ، قال : وقال لي النبي صلى الله عليه وسلم : " إنك لا تدري لعلك يطول بك عمر " ، قال : فصرت إلى الذي قال لي النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما كبرت ؛ وددت أني كنت [ ص: 382 ] قبلت رخصة نبي الله صلى الله عليه وسلم .

                        وفي رواية قال : صم يوما وأفطر يوما ، وذلك صيام داود ، وهو أعدل الصيام ، قال : قلت : إني أطيق أفضل من ذلك ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا أفضل من ذلك ، قال عبد الله بن عمرو : لأن أكون قبلت الثلاثة الأيام التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي من أهلي ومالي

                        وفي الترمذي عن جابر رضي الله عنه ؛ قال : ذكر رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبادة واجتهاد ، وذكر عنده آخر برعة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا يعدل بالرعة ، والرعة : المراد بها هنا الرفق والتيسير .

                        قال فيه الترمذي : حسن غريب .

                        وعن أنس رضي الله عنه ؛ قال : جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أخبروا ؛ كأنهم تقالوها ، فقالوا : وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم ؟ وقد غفر ( الله ) له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؟ ! فقال أحدهم : أما أنا ؛ فإني أصلي الليل أبدا ، وقال الآخر : إني أصوم الدهر ولا أفطر ، وقال الآخر : إني أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ ! أما والله إني لأخشاكم لله ، وأتقاكم له ، لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني .

                        [ ص: 383 ] والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ، وهي بجملتها تدل على الأخذ في التسهيل والتيسير ، وإنما يتصور ذلك على الوجه الأول من عدم الالتزام ، وإن تصور مع الالتزام ؛ فعلى جهة ما لا يشق الدوام فيه حسبما نفسره الآن .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية