الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        معلومات الكتاب

                                        إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

                                        ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

                                        صفحة جزء
                                        13 - الحديث الثالث : عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال : { رقيت يوما على بيت حفصة ، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستقبل الشام ، مستدبر الكعبة } . وفي رواية " مستقبلا بيت المقدس " .

                                        التالي السابق


                                        " " عبد الله بن عمر " بن الخطاب . تقدم نسبه في ذكر أبيه رضي الله عنهما [ ص: 102 ] كنيته أبو عبد الرحمن ، أحد أكابر الصحابة علما ودينا . توفي سنة ثلاث وسبعين ، وقيل سنة أربع وسبعين . وقال مالك : بلغ ابن عمر سبعا وثمانين سنة . هذا الحديث يعارض حديث أبي أيوب المتقدم من وجه ، وكذلك ما في معنى حديث أبي أيوب .

                                        واختلف الناس في كيفية العمل به ، أو بالأول ؟ على أقوال . فمنهم من رأى أنه ناسخ لحديث المنع . واعتقد الإباحة مطلقا ، وكأنه رأى أن تخصيص حكمه بالبنيان مطرح ، وأخذ دلالته على الجواز مجردة عن اعتبار خصوص كونه في البنيان لاعتقاده أنه وصف ملغى ، لا اعتبار به . ومنهم من رأى العمل بالحديث الأول وما في معناه . واعتقد هذا خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم . ومنهم من جمع بين الحديثين .

                                        فرأى حديث ابن عمر مخصوصا بالبنيان ، فيخص به حديث أبي أيوب العام في البنيان وغيره ، جمعا بين الدليلين . ومنهم من توقف في المسألة . ونحن ننبه ههنا على أمرين :

                                        أحدهما : أن من قال بتخصيص هذا الفعل بالنبي صلى الله عليه وسلم له أن يقول : إن رؤية هذا الفعل كان أمرا اتفاقيا ، لم يقصده ابن عمر ، ولا الرسول صلى الله عليه وسلم على هذه الحالة يتعرض لرؤية أحد . فلو كان يترتب على هذا الفعل حكم عام للأمة لبينه لهم بإظهاره بالقول ، أو الدلالة على وجود الفعل . فإن الأحكام العامة للأمة لا بد من بيانها .

                                        فلما لم يقع ذلك - وكانت هذه الرؤية من ابن عمر على طريق الاتفاق ، وعدم قصد الرسول صلى الله عليه وسلم - دل ذلك على الخصوص به صلى الله عليه وسلم وعدم العموم في حق الأمة وفيه بعد ذلك بحث .

                                        التنبيه الثاني : أن الحديث : إذا كان عام الدلالة . وعارضه غيره في بعض الصور ، وأردنا التخصيص - فالواجب أن نقتصر في مخالفة مقتضى العموم على مقدار الضرورة ، ويبقى الحديث العام على مقتضى عمومه فيما يبقى من الصور ، إذ لا معارض له فيما عدا تلك الصور المخصوصة التي ورد فيها الدليل الخاص .

                                        وحديث ابن عمر لم يدل على جواز الاستقبال والاستدبار معا في البنيان . وإنما ورد في الاستدبار فقط . فالمعارضة بينه وبين حديث أبي أيوب إنما هي في الاستدبار . فيبقى الاستقبال لا معارض له فيه . فينبغي أن يعمل بمقتضى حديث [ ص: 103 ] أبي أيوب في المنع من الاستقبال مطلقا ، لكنهم أجازوا الاستقبال والاستدبار معا في البنيان . وعليه هذا السؤال .

                                        هذا لو كان في حديث أبي أيوب لفظ واحد يعم الاستقبال والاستدبار ، فيخرج منه الاستدبار ، ويبقى الاستقبال على ما قررناه آنفا . ولكن ليس الأمر كذلك . بل هما جملتان ، دلت إحداهما على الاستقبال ، والأخرى على الاستدبار .

                                        تناول حديث ابن عمر إحداهما ، وهي عامة في محلها . وحديثه خاص ببعض صور عمومها . والجملة الأخرى : لم يتناولها حديث ابن عمر . فهي باقية على حالها .

                                        ولعل قائلا يقول : أقيس الاستقبال في البنيان - وإن كان مسكوتا عنه - على الاستدبار الذي ورد فيه الحديث .

                                        فيقال له : أولا : في هذا تقديم القياس على مقتضى اللفظ العام . وفيه ما فيه ، على ما عرف في أصول الفقه .

                                        وثانيا : إن شرط القياس مساواة الفرع للأصل ، أو زيادته عليه في المعنى المعتبر في الحكم . ولا تساوي ههنا . فإن الاستقبال يزيد في القبح على الاستدبار ، على ما يشهد به العرف . ولهذا اعتبر بعض العلماء هذا المعنى ، فمنع الاستقبال وأجاز الاستدبار . وإذا كان الاستقبال أزيد في القبح من الاستدبار : فلا يلزم من إلغاء المفسدة الناقصة في القبح في حكم الجواز إلغاء المفسدة الزائدة في القبح في حكم الجواز .




                                        الخدمات العلمية