الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          [ ص: 2036 ] يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين

                                                          * * *

                                                          كانت الآية السابقة في بيان المحرمات، وبعضها كانت العرب تستبيحه، فالخنزير كان مستباحا عند العرب، وكذلك أنواع الحيوان الذي لا يذكى تذكية تهرق دمه، وتنقي اللحم والعظم من أوضاره، فكان ذلك التحريم دافعا لأن يتأثم بعض المسلمين، ويسألوا عن المحلل من الأطعمة واللحوم، بعد ذكر المحرم، وقد سألوا عن ذلك، كما يدل النص الكريم

                                                          يسألونك ماذا أحل لهم

                                                          يتضمن السؤال معنى القول، كأن تأويل الكلام هكذا: يسألونك قائلين: ماذا أحل لنا؟ وكان التفاتا من الحاضر إلى الغائب للتنبيه ولتوجيه الذهن; ولأن في السياق حكاية عنهم، كما يقال: أقسم فلان ليفعلن كذا، فتضمن الحكاية جعل للتحدث بضمير الغائب موضعا، ولو كان الحديث بضمير الحاضر لكان له موضع أيضا، ولكن نسق القرآن أبلغ وأقوم، وأدعى للتنبيه والالتفات، وقوله تعالى:

                                                          ماذا أحل لهم يصح أن نعتبر ماذا كلها اسم استفهام مبتدأ خبره جملة أحل لهم، وقد اختار ذلك الزمخشري في الكشاف، فقال: "و"ماذا" مبتدأ، و"أحل لهم" خبره، كقولك أي شيء أحل لهم" وموضوع السؤال هو ما أحل لهم من [ ص: 2037 ] مطاعم; لأن الآية السابقة كانت في محرمات المطاعم، فكان السؤال عما أحل منها بعد أن بين ما حرم منها من خبائث، وقد أشار سبحانه وتعالى إلى أن طريق التحليل هو التذكية الشرعية، ولذا كان الجواب في المطاعم الحلال، وبعض طرق التذكية، فقال تعالى:

                                                          قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين أمر الله تعالى نبيه أن يتولى الجواب، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- هو المبلغ للرسالة، وهو المبين لهم والمرشد، وهو المرجع، ومما يتفق مع مقام الرسالة أن يكون هو المجيب، ولكن إذا كان اتجاه الناس إلى ربهم والضراعة تكون الإجابة منه سبحانه من غير توسط أحد; ولذا قال تعالى:

                                                          وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان [البقرة]، أمر الله تعالى أن يجيب هو سؤالهم الخاص بالحلال والحرام، لأنه يتعلق ببيان رسالته التي بعث بها، وعمله الذي يتولاه، وهو بيان الشرع للناس، والطيبات التي أحلت - هي غير المحرمات التي حرمت، وما تستطيبه النفوس، ولا تستقذره وتعافه، وبعض الفقهاء ومنهم المالكية فسروا الطيبات بالحلال الذي لم يحرم في نص من كتاب أو سنة، من غير نظر إلى أن الناس يستطيبونه أو لا يستطيبونه، وبعض آخر من الفقهاء ومنهم الإمام الشافعي قالوا: إن الطيب هو الذي تستطيبه النفوس ولا تستقذره، ولم يثبت تحريمه بنص، وعلو، ذلك لا يحل ما نص على تحريمه، لأنه خبيث قذر جاء النص بتحريمه، ولا يحل أيضا المستقذر الذي تعافه النفوس، كالخنافس وشبهها من هوام الأرض، ومثلها كل حيوان أو طعام يثبت ضرره بالإنسان طبيا أو يستقذره طبعيا، لأن هذا الدين دين الفطرة، فما تعافه النفوس المستقيمة لا يكون حلالا، وعندي أن هذا هو المعنى المستقيم.

                                                          وقد بين سبحانه فيما أحل صيد الكلب ونحوه من الفهود والطيور; لأن ذلك كان من مواضع سؤالهم، فقال: [ ص: 2038 ] وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم وبعض المفسرين قال: إن في الكلام محذوفا دل عليه السياق، وهو كلمة "صيد"، والمعنى أحل لكم الطيبات، وأحل لكم صيد ما علمتم من الجوارح.

                                                          وبعض العلماء لا يقدر محذوفا، بل يجعل الخبر هو الجملة الطلبية: فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه ويكون قوله تعالى: مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله حالا بعد حال، وصاحب الحال ضمير الخطاب في قوله: وما علمتم حال كونكم مكلبين معلمين، وتقدير الكلام يكون هكذا .. وأحل لكم ما أمسكن لكم من صيد الجوارح; وذلك لأن الخبر محل الفائدة، ودخلت الفاء الخبر; لأن الجملة طلبية، ولأن ما موصولة، والفاء تدخل في خبر الموصول، مثل قوله تعالى: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها لتضمن الموصول أحيانا معنى الشرط.

                                                          والتكليب تعليم الكلاب -ومما يشبهها- الصيد، فهو اسم فاعل اشتق من الكلب، أو أخذ من الكلب باعتبار أن الكلب طيع ألوف أقرب الحيوان إلى تعلم الصيد، وقد قال تعالى ما يفيد تعليم كل حيوان له مثل خواص الكلب في الطاعة والمهارة، والاستعداد للتعلم، فقال تعالى: من الجوارح وهذا يعم كل حيوان يمكن أن يعلم الصيد، والجارح معناه الكاسب، أي الحيوانات التي من شأنها أن تكسب صيدا كما يكسب الإنسان، أو معناه: الذي يخدش الجسم بالجروح، فإن ذلك لا يستغني عنه الصيد، إذ إنه لا يمكنه أن يسيطر على الحيوان غالبا إلا إذا جرحه بأنيابه، وهذا هو الذي نختاره.

                                                          وقوله تعالى: تعلمونهن مما علمكم حال على اعتبار أن "من" مبتدأ، خبره فكلوا مما أمسكن عليكم وهي حال بعد حال كما أشرنا، وذلك الذي اخترناه، وعلى تقدير محذوف، والمعنى: صيد ما علمتم من الجوارح، تكون جملة تعلمونهن مما علمكم مستأنفة. [ ص: 2039 ] ومعنى هذه الجملة السامية: تعلمونهن مما علمكم الله أي أنكم تعلمونهن مما علمكم الله تعالى بإلهامكم تعليمهن والانتفاع بهن في الصيد، و"من" للتبعيض، أي تعلمونهن جزءا مما أودعه الله عقولكم، أي تعلمونهن وسائل التحايل، والسبل المختلفة للاصطياد، وقد أودع الله غرائزهم القابلية للتعلم، وما أودعها إلا لتنتفعوا بها في التعليم. وقد اتفق العلماء على أن الصيد بالكلاب يجوز، ويحل ما تمسكه، وقال الجمهور: إن مثل الكلاب كل حيوان يصنع صنيع الكلب. وكل طير كذلك; لأن قوله تعالى: من الجوارح يعم كل حيوان يصنع صنيع الكلب، وكان التعبير بـ"مكلبين"; لأن الكلاب أكثر الحيوانات استعمالا لذلك، كما أشرنا من قبل، وقال بعض الفقهاء: إنه لا يحل إلا صيد الكلاب، والأول أظهر وأوضح.

                                                          وقد استنبط الإمام مالك من هذا النص أن الكلاب طاهرة، وليست نجسة، وقال: كيف يحل صيدها وينجس لحمها؟ ورد بهذه الآية الخبر الوارد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي جاء فيه: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا أولاهن بالتراب الطاهر" والجمهور على أن حل صيده لا يستوجب طهارته.

                                                          والأمر في قوله تعالى فكلوا مما أمسكن عليكم للإباحة، ومعنى قوله تعالى: أمسكن عليكم أي أمسكنه محبوسا عليكم، ولأجلكم، وقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أرسلت كلبك المعلم فاذكر اسم الله، وإن أمسك عليك وأدركته حيا فاذبحه، وإن أدركته قد قتل، ولم يأكل منه، فكله"، فإن أخذ الكلب ذكاة. [ ص: 2040 ] وعلى هذا قال الشافعي وأحمد : إذا أكل منه الكلب لا يحل; لأنه لم يمسك على من أرسله، إنما أمسكه على نفسه، وقال الإمام مالك : ما دام قد عاد به ولو مأكولا منه، فقد أمسكه على صاحبه، وقد روي ذلك عن بعض الصحابة، كعبد الله بن عمر ، وسعد بن أبي وقاص ، وأبي هريرة ، وسلمان الفارسي ، وقد وردت أحاديث تفيد أنه يأكل منه صاحبه، وإن أكل الكلب منه.

                                                          والحنفية فصلوا تفصيلا حسنا في تفسير قوله تعالى: فكلوا مما أمسكن عليكم فقالوا: إن عاد بأكثره فقد أمسك على صاحبه، وإن عاد بأقله، فقد أمسك على نفسه، وبذلك يقع النهي عن الأكل الذي ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فكان تفصيلهم تفسيرا لقوله تعالى: أمسكن عليكم

                                                          والأحاديث الواردة في الباب تشترط كلها أن يذكر اسم الله تعالى عند الإرسال ليقوم الصيد مقام الذبح، وهذا هو قوله تعالى: واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب

                                                          ثبت من الأحاديث -وقد روينا بعضها- أن ذكر اسم الله تعالى يكون عند الإرسال، لا عند الأكل، وإن التسمية عند الإرسال تقوم مقام التسمية عند الذبح، وإن الإرسال مع التسمية على من أرسله يكون كالتذكية الشرعية إلا إذا أدرك حيا، فإنه لا بد من التذكية; لأن قيام التسمية والإرسال مقام التذكية لتعذرها، إذا جيء به حيا فإن التذكية ممكنة فلا يغني عنها ما يقوم مقامها، عند عدم إمكانها، والواو في العطف لا تقتضي ترتيبا ولا تعقيبا، وذكرت آخرا لأنها من تقوى الله تعالى، فكان اقترانها بالأمر العام بالتقوى من التنسيق البياني الحكيم، وهو الذي يتناسب مع الذكر الحكيم.

                                                          واختلف العلماء في التسمية عند الإرسال كاختلافهم في وجوب التسمية عند الذبح، فقال الظاهرية: إنها واجبة حملا للأمر هنا على الوجوب، ولقوله تعالى في مقام آخر: ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وقال الشافعي : إنها مستحبة هنا، وقريب من ذلك قال الحنفية: إلا أن يكون الترك [ ص: 2041 ] عمدا، وقال المالكية: إنها إن تركت عمدا لا تؤكل; لأنه لا يبين أن الصيد للمرسل إلا إذا قصد ذلك، وتركها عمدا، ينافي القصد، وإن تركت سهوا فإنها تؤكل، لأن الحيوان المخصص للصيد يكون إرساله المقصود منه الأكل ولا يقصد سواه، إلا أن يقصد اللعب أو اللهو، وعندئذ يكون الترك عمدا لا نسيانا.

                                                          وقد ذيل الله سبحانه وتعالى الآية بالأمر بالتقوى والتذكير بالحساب، وذلك لتذكير الناس عند الطعام بأن يكونوا في ظل تقوى الله تعالى بألا يسرفوا في الطعام فيفسدوا أجسامهم، وألا يتعدوا القدر المطلوب، أو لا يأكلوا حق الغير، وما يكون محرما، لتعلق حق الناس; ولذلك يقول الله تعالى بعد الأمر بالأكل: وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين [الأعراف].

                                                          ويقول تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية