الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              جماع أبواب الهجرة إلى المدينة الشريفة

                                                                                                                                                                                                                              الباب الأول في إذن النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين في الهجرة إلى المدينة

                                                                                                                                                                                                                              روى ابن سعد عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف وعن عروة عن عائشة رضي الله عنهما قال : لما صدر السبعون من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم طابت نفسه وقد جعل الله له منعة وقوما أهل حرب [وعدة] ونجدة ، وجعل البلاء يشتد على المسلمين من المشركين لما يعلمون من الخروج فضيقوا على أصحابه وتعبثوا بهم ، ونالوا منهم ما لم يكونوا ينالون من الشتم والأذى ، فشكا ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واستأذنوه في الهجرة ، فقال : «قد أريت دار هجرتكم ، أريت سبخة ذات نخل بين لابتين» - وهما الحرتان- «ولو كانت السراة أرض نخل وسباخ لقلت هي هي» . ثم مكث أياما ثم خرج إلى أصحابه مسرورا فقال : «قد أخبرت بدار هجرتكم وهي يثرب ، فمن أراد الخروج فليخرج إليها» .

                                                                                                                                                                                                                              فجعل القوم يتجهزون ويترافقون ويتواسون ويخرجون ويخفون ذلك . فكان أول من قدم المدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو سلمة بن عبد الأسد- بسين ودال مهملتين . قال ابن إسحاق : «هاجر إلى المدينة قبل بيعة العقبة بسنة . وحبست عنه امرأته أم سلمة هند بنت أبي أمية بن المغيرة بمكة نحو سنة ثم أذن لها بنو المغيرة الذين حبسوها في اللحاق بزوجها فانطلقت وحدها مهاجرة حتى إذا كانت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة [بن أبي طلحة] أخا بني عبد الدار وكان يومئذ مشركا وأسلم بعد ذلك ، فشيعها حتى إذا أوفى على قرية بني عمرو بن عوف بقباء قال لها : هذا زوجك في هذه القرية . ثم انصرف راجعا إلى مكة ، فكانت تقول : ما رأيت صاحبا قط كان أكرم من عثمان بن طلحة ، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي ثم استأخر عني حتى إذا نزلت عنه استأخر ببعيري فحط عنه ثم قيده في الشجرة ، ثم أتى إلى شجرة فاضطجع تحتها ، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فقدمه فرحله ، ثم استأخر عني وقال : اركبي . فإذا ركبت واستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه فقادني ، [فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة] . [ ص: 225 ]

                                                                                                                                                                                                                              وقيل : أول المهاجرين مصعب بن عمير . روى البخاري في صحيحه ، والحاكم في الإكليل عن البراء بن عازب قال : «أول من قدم علينا المدينة من المهاجرين مصعب بن عمير» . وروى ابن إسحاق وابن سعد : «ثم كان أول من قدمها من المهاجرين بعد أبي سلمة :

                                                                                                                                                                                                                              عامر بن ربيعة [حليف بني عدي بن كعب] ، معه امرأته ليلى بنت أبي حثمة - بالحاء المهملة المفتوحة وسكون الثاء المثلثة- قالا : «وهي أول ظعينة قدمت المدينة» .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن إسحاق : «ثم عبد الله بن جحش احتمل بأهله وبأخيه أبي أحمد عبد بن جحش- بإضافة عبد إلى ابن جحش- وكان أبو أحمد رجلا ضرير البصر ، وكان يطوف مكة أعلاها وأسفلها بغير قائد ، وكان شاعرا ، وكانت عنده الفارعة ابنة أبي سفيان بن حرب ، وهاجر جميع بني جحش بنسائهم فعدا أبو سفيان على دارهم فتملكها ، قال بعضهم : إنه باعها من عمرو بن علقمة أخي بني عامر بن لؤي ، فذكر ذلك عبد الله بن جحش لرسول الله صلى الله عليه وسلم ،

                                                                                                                                                                                                                              فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ألا ترضى يا عبد الله أن يعطيك الله بها دارا في الجنة خيرا منها؟» قال : بلى . قال :

                                                                                                                                                                                                                              «فذلك لك» .


                                                                                                                                                                                                                              ولما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة كلمه أبو أحمد في دارهم ، فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال الناس لأبي أحمد : يا أبا أحمد إن رسول الله يكره أن ترجعوا في شيء أصيب منكم في الله . فأمسك الكلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال ابن إسحاق : وكان بنو غنم بن دودان أهل إسلام ، قد أوعبوا إلى المدينة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هجرة رجالهم ونسائهم : [عبد الله بن جحش وأخوه أبو أحمد بن جحش ، وعكاشة بن محصن وشجاع وعقبة ابنا وهب وأربد بن حمير] .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن السمان في «الموافقة» عن علي رضي الله عنه قال : ما علمت أن أحدا من المهاجرين هاجر إلا مختفيا إلا عمر بن الخطاب ، فإنه لما هم بالهجرة تقلد سيفه وتنكب قوسه وانتضى في يده أسهما واختصر عنزته ، ومضى قبل الكعبة ، والملأ من قريش بفنائها فطاف بالبيت سبعا [متمكنا] ، ثم أتى المقام فصلى ركعتين ، ثم وقف على الحلق واحدة واحدة وقال لهم : شاهت الوجوه ، لا يرغم الله إلا هذه المعاطس ، من أراد أن يثكل أمه أو يؤتم ولده أو يرمل زوجته فليلقني وراء هذا الوادي . قال علي رضي الله عنه : فلم يتبعه أحد إلا قوم من المستضعفين علمهم ما أرشدهم إليه ثم مضى لوجهه .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن إسحاق : حدثني نافع مولى عبد الله بن عمر عن عبد الله بن عمر عن أبيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : [ ص: 226 ] اتعدت لما أردنا الهجرة إلى المدينة أنا وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص [بن وائل] السهمي التناضب من أضاة بني غفار فوق سرف ، وقلنا : أينا لم يصبح عندها فقد حبس فليمض صاحباه . قال : فأصبحت أنا وعياش بن أبي ربيعة عند التناضب وفطن لهشام قومه فحبسوه عن الهجرة وفتن فافتتن . ثم إن أبا جهل والحارث بن هشام- وأسلم بعد ذلك- خرجا حتى قدما المدينة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، فقالا لعياش بن أبي ربيعة وكان ابن عمهما وأخاهما لأمهما : إن أمك قد نذرت ألا يمس رأسها مشط حتى تراك ولا تستظل من شمس حتى تراك ، فرق لها . فقلت له : يا عياش إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم ، فوالله لو قد آذى أمك القمل لامتشطت ، ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت . فقال : أبر قسم أمي ولي هنالك مال فآخذه . فقلت : والله إنك لتعلم أني لمن أكثر قريشا مالا فلك نصف مالي ولا تذهب معهما . فأبى علي إلا أن يخرج معهما . فلما أبى إلا ذلك قلت : أما إذ قد فعلت ما فعلت فخذ ناقتي هذه فإنها ناقة نجيبة ذلول فالزم ظهرها ، فإن رابك من القوم ريب فانج عليها ، فخرج عليها معهما ، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل : والله يا أخي لقد استغلظت بعيري هذا ، أفلا تعقبني على ناقتك هذه؟ . قال : بلى .

                                                                                                                                                                                                                              قال : فأناخ وأناخا ليتحول عليها ، فلما استووا بالأرض عدوا عليه فأوثقاه رباطا وفتناه فافتتن ودخلا به مكة نهارا موثقا ، ثم قالا : يا أهل مكة هكذا فافعلوا بسفهائكم كما فعلنا بسفيهنا هذا . قال عمر : فكنا نقول : ما الله تعالى بقابل ممن افتتن صرفا ولا عدلا ولا توبة ، قوم عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم . قال : وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم . فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل الله تعالى فيهم وفي قولنا وقولهم لأنفسهم قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون [الزمر : 53 ، 54 ، 55] .

                                                                                                                                                                                                                              قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : فكتبتها بيدي في صحيفة وبعثت بها إلى هشام بن العاصي . قال : فقال هشام : فلما أتتني جعلت أقرؤها بذي طوى أصعد بها فيه وأصوب ولا أفهمها حتى قلت : اللهم فهمنيها قال : فألقى الله تعالى في قلبي أنها إنما أنزلت فينا وفيما كنا نقول في أنفسنا . قال : فرجعت إلى بعيري فجلست عليه فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم . هذا ما ذكره ابن إسحاق في شأن هشام .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن هشام : فحدثني من أثق به إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو بالمدينة : «من لي بعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاصي؟» فقال الوليد بن الوليد بن المغيرة : أنا لك يا رسول الله بهما . [ ص: 227 ]

                                                                                                                                                                                                                              فخرج إلى مكة فقدمها مستخفيا ، فلقي امرأة تحمل طعاما فقال لها : أين تريدين يا أمة الله؟

                                                                                                                                                                                                                              قالت : أريد هذين المحبوسين . تعنيهما ، فتبعها حتى عرف موضعهما ، وكانا محبوسين في بيت لا سقف له ، فلما أمسى تسور عليهما ثم أخذ مروة فوضعها تحت قيديهما ثم ضربهما بسيفه فقطعهما ، فكان يقال لسيفه : ذو المروة ، لذلك ثم حملهما على بعيره وساق بهما فعثر فدميت إصبعه فقال :


                                                                                                                                                                                                                              هل أنت إلا أصبع دميت؟ وفي سبيل الله ما لقيت

                                                                                                                                                                                                                              ثم قدم بهما على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم تتابع المهاجرون أرسالا فنزل طلحة بن عبيد الله وصهيب بن سنان على خبيب- بضم الخاء المعجمة وفتح الموحدة- ابن إساف- بكسر الهمزة- بالسنح ويقال : بل نزل طلحة بن عبيد الله على أسعد بن زرارة .


                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن سعد عن سعيد بن المسيب أن صهيبا حين أراد الهجرة قال له كفار قريش :

                                                                                                                                                                                                                              أتيتنا صعلوكا حقيرا فكثر مالك عندنا وبلغت الذي بلغت ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك والله لا يكون ذلك . فقال لهم صهيب : أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي؟ قالوا : نعم .

                                                                                                                                                                                                                              قال : فإني جعلت لكم مالي .

                                                                                                                                                                                                                              قال : فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «ربح صهيب ربح صهيب» .


                                                                                                                                                                                                                              قال ابن سعد : لما قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالا فنزلوا في الأنصار في دورهم وآووهم ونصروهم وآسوهم ، وكان سالم مولى أبي حذيفة يؤم المهاجرين بقباء قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم . قال ابن إسحاق وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد أصحابه من المهاجرين ينتظر أن يؤذن له في الهجرة ، ولم يتخلف معه بمكة أحد من المهاجرين إلا من حبس أو فتن ، إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر بن أبي قحافة رضي الله عنهما .

                                                                                                                                                                                                                              وكان أبو بكر كثيرا ما يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة فيقول له : «لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبا» .

                                                                                                                                                                                                                              فيطمع أبو بكر أن يكونه .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن سعد : وكان نفر من الأنصار بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقبة الآخرة ، ثم رجعوا إلى المدينة ، فلما قدم أول من هاجر إلى قباء خرجوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، حتى قدموا مع أصحابه في الهجرة ، فهم مهاجرون أنصاريون وهم : ذكوان بن عبد قيس [بن خلدة الزرقي] ، وعقبة بن وهب بن كلدة والعباس [ابن عبادة] بن نضلة وزياد بن لبيد [بن ثعلبة الخزرجي البياضي] . [ ص: 228 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية