الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( فإن قلنا ) : إن اللحوم أجناس جاز بيع لحم كل جنس من الحيوانات بلحم جنس آخر متفاضلا فيجوز بيع لحم البقر بلحم الغنم متفاضلا ولحم بقر الوحش بلحم بقر الأهل لأنهما جنسان ولا يجوز بيع لحم الضأن بلحم المعز ولا لحم البقر بلحم الجواميس متفاضلا لأنهما نوعان من جنس واحد

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) إذا قلنا بأن اللحوم أجناس فلا شك أن البحري مع البري جنسان وممن صرح به الرافعي ، وأما البري مع البري ، والبحري مع البحري ، فقد تقدم قول الشافعي رضي الله عنه إن لحم الغنم صنف ولحم الإبل صنف إلخ . وبسط الأصحاب ذلك فقالوا : الأهليات من حيوانات البر مع الوحشيات جنسان لكل من القسمين أجناس فلحوم الإبل بأنواعها [ ص: 185 ] جنس ، بخاتيها وعرابها وأرحبيها ونجديها ومهريها ، وسائر أنواعها جنس ، عرابها وجواميسها ودرنانيها هكذا رأيتها مضبوطة بخط سليم - بفتح الدال والراء المهملة والنون - والغنم الأهلية ضأنها وماعزها جنس ، والوحوش أجناس ، فالظباء جنس ، ما تأنس منها وما توحش ، قاله الشيخ أبو حامد ، وبقر الوحش صنف ، قاله الشيخ أبو حامد والمصنف والمحاملي والماوردي ، وابن الصباغ ، لأن الاسم لا ينصرف إليها ولا يضم إليها في الزكاة ، وسيأتي فيه وجه أنها جنسان . والضباع جنس ، والأرانب جنس ، والثعالب جنس ، واليرابيع جنس ، والوحشي من الغنم جنس غير الغنم الإنسي ، نص عليه الشافعي - رحمه الله - والقاضي أبو الطيب والمحاملي وابن الصباغ ، وقالوا : إن الوحشي من الغنم هو الظباء ، والحمر الوحشية صنف ، قاله ابن الصباغ . قال المحاملي وغيره : وليس في الإبل وحشي ، وفي الظباء مع الأيل - بالياء المثناة من تحت - تردد للشيخ أبي محمد ويستقر جوابه على أنهما كالضأن والمعز ، وفي التتمة أيضا حكاية وجه أن الظباء والأيل تلحق بالغنم ، لأنها تقرب منه ، والتفاوت الذي بين الظباء والمعز ليس بأكثر من التفاوت بين الضأن والمعز ، وطرد ذلك في البقر الوحشي مع الإنسي ، وهذا موافق للمذكور في الأيمان عن صاحب التهذيب أن الحالف على لحم البقر لا يحنث بالوحشي وبناه على أنه هل يجعل جنسا في الربا ؟ وهذا هو الوجه الذي وعدت بذكره قريبا .

                                      والطيور أصناف : الكراكي صنف ، والإوز صنف ، والعصافير على اختلاف أنواعها ، فأما لحم اللبح فجنس واحد غير لحم العصفور لأنه يسمى عصفورا قاله القاضي حسين ، والبطوط صنف ، والفواخت صنف ، والدجاج صنف ، قال الشيخ أبو حامد : قال الربيع : والحمام صنف ، والحمام كل ما عب وهدر . قال الشيخ أبو حامد : والذي عندي القول [ ص: 186 ] بأن الفواخت جنس ، والقماري جنس ، والدباسي جنس وقال الروياني : إن الذي اختاره الشيخ أبو حامد اختيار جماعة من أصحابنا . وقد أطلق جماعة حكاية الخلاف في ذلك عن الربيع كما أشار إليه الشيخ أبو حامد منهم الرافعي قال : وعن الربيع أن الحمام بالمعنى المتقدم في الحج وهو كل ما عب وهدر جنس . قال الرافعي : فيدخل فيه القمري والدبسي والفاخت ، وهذا اختيار جماعة منهم الإمام وصاحب التهذيب . قال الرافعي : واستبعده أصحابنا العراقيون وجعل كل واحد منهما جنسا برأسه .

                                      ( قلت ) والذي رأيته في الأم في باب بيع الآجال قال الربيع : ومن زعم أن اليمام من الحمام فلا يجوز لحم اليمام بلحم الحمام متفاضلا ، ولا يجوز إلا مثلا بمثل إذا انتهى تبينه ، وإن كان من غير الحمام فلا بأس به متفاضلا وهذا ليس فيه جزم من الربيع بأن اليمام من جنس الحمام ، لكنه لما ثبت في الحج أن اليمام والقمري والفاخت والدبسي والقطا كلها داخلة في اسم الحمام ، وقد قال الربيع هنا : إن من زعم أن اليمام من الحمام فلا يجوز متفاضلا اقتضى مجموع هذين أن اليمام بالحمام لا يجوز متفاضلا ، فيكون كذا ، ولكن لا بد في ذلك من أن يكون الربيع موافقا على ما ذكر في الحج حتى ينسب إليه ، والأصحاب ذكروا ذلك في الحج ، ولم يذكروا عن الربيع فيه شيئا موافقة ولا مخالفة . وكلام الربيع الآن فيما يحضرني هنا يقتضي ثبوت خلاف في دخول اليمام تحت اسم الحمام ولم يذكر عن نفسه اختيارا في ذلك . واستبعاد أصحابنا العراقيين ذلك فيه نظر . فإنه إذا ثبت دخولها في اسم الحمام في الحج كانت من جنسه ولا يضر كونها لها اسم خاص كالجواميس مع البقر ، فلا جرم ذهب الإمام وصاحب التهذيب إلى ذلك وهو قوي . قال الماوردي : وهكذا كل جنس من الطيور لحوم جنسها صنف . ونقل الشيخ أبو حامد وابن الصباغ عن الربيع أنه قال : ما عب وهدر جنس واحد ، واللفظ لابن الصباغ قال ابن الصباغ وهذا بعيد لأن ما انفرد باسم وصفة وجب أن يكون صنفا وفي الأم قال الربيع : ومن زعم أن اليمام من الحمام فلا يجوز لحم اليمام بلحم الحمام متفاضلا وإن كان من غير حمام فلا بأس به متفاضلا . وفي المجرد حكاية الوجهين عن المروزي وأن الشيخ يعني أبا حامد [ ص: 187 ] قال : هي أصناف قولا واحدا .

                                      وهكذا السموك أجناس ، قال الرافعي في غنم الماء وبقره : وكذا بعضها مع بعض قولان ( أصحهما ) أنها أجناس كحيوانات البر ( قلت ) وهذا المنصوص عليه . قال الشافعي في الأم في باب ما جاء في بيع اللحم في التفريع على القول بأن اللحوم أجناس : ولا بأس بلحم ظبي بلحم أرنب رطبا برطب ويابسا بيابس مثلا بمثل أو بأكثر وزنا بجزاف ، وجزافا بجزاف لاختلاف الصنفين ، وهكذا الحيتان كله لا يجوز أن أقول هو صنف لأنه ساكن الماء ، ولو زعمته زعمت أن ساكن الأرض كله صنف : وحشيه وإنسيه ، وكان أقل ما يلزمني أن أقول ذلك في وحشيه ، لأنه يلزمه اسم الصيد ، فإذا اختلف الحوتان فكل ما تملكته ويصير لك فلا بأس برطل من أحدهما بأرطال من آخر يدا بيد ، ولا خير فيه نسيئة ، ولا بأس به يدا بيد وجزافا بجزاف وجزافا بوزن ، هذا كلام الشافعي بلفظه . قال القاضي أبو الطيب في الحيتان : كل ما اختص باسم وصفة فهو صنف . وقال الرافعي : وفي غنم الماء وبقره وغيرهما من السموك وكذا بعضها من بعض قولان ( أصحهما ) أنها أجناس كحيوانات البر ، وكذلك الماوردي حكى في لحوم الحيتان على القول بأن اللحوم أجناس وجهين : ( أحدهما ) أن جميعها صنف . قال : وهذا قول من يزعم أنه لا يؤكل من حيوان البحر إلا حيتانه .

                                      ( والثاني ) أنها أصناف . قال : وهو قول من يزعم أن حيوان البحر كله مأكول حيتانه ودوابه وما فيه من كلب وغيره . فعلى هذا يكون السمك كله صنفا واحدا والنتاج صنفا ، وكل ما اختص باسم يخالف غيره صنفا ( قلت ) وكلام الشافعي رضي الله عنه المتقدم صريح في أن الحوتين قد يختلفان فيكونان جنسين فهو يرد ما قاله ، والله أعلم . وكذلك قال الشافعي في باب بيع الآجال من الأم " إذا اختلفت أجناس الحيتان فلا بأس ببعضها متفاضلا وكذلك لحم الطير إذا اختلفت أجناسها " هذا لفظ الشافعي بحروفه ، وهو صريح في ذلك ، ولم يذكره تفريعا على قول ، بل أطلقه والله أعلم .

                                      [ ص: 188 ] وإذا عرف ذلك قال الشافعي - رحمه الله - والأصحاب : إذا قلنا اللحوم أجناس فباع جنسا بجنس آخر فجاز البيع سواء كانا رطبين أم يابسين ، أم رطبا ويابسا ، وزنا وجزافا ، متفاضلا ومتماثلا ، إذا كان نقدا ، يدا بيد كالقمح والشعير ، وإنما جعل البقر الوحشي جنسا مخالفا للبقر ، لأنه يفهم من لفظ البقر عند الإطلاق فكان كالتمر الهندي مع التمر وزيت الفجل مع الزيت ، وكذلك غنم الوحش مع غنم الأهل ، وإنما كانت الظباء جنسا وحشيا وما تأنس منها لأن الاسم الصادق عليهما واحد ( والضمير ) في قول المصنف لأنهما جنسان الأولى أن يكون عائدا إلى بقر الوحش وبقر الأهل ، ونبه على ذلك لأنه قد يخفى أما البقر والغنم فذلك مما لا يخفى على القول الذي عليه نفرع والضأن والمعز نوعان لجنس واحد . قال المتولي : إن ذلك لا خلاف فيه وكذلك البقر العراب والجواميس ، فكذلك لم يجز التفاضل بينهما ، وقد يستشكل من جهة أن الجواميس اختصت باسم لا يشاركها فيه غيرها فكانت كالسمك مع اللحم . وأما الضأن والمعز فالظاهر أنهما صنفان لنوعي الغنم لا اسما فأشبها المعقلي والبرني ، وفي النفيس من الجواميس - وإن سلمنا صدق البقر عليها - فذلك كصدق الدهن على الزيت ، قال الماوردي : ولا فرق بين المعلوف والراعي ، ولا بين المهزول والسمين .

                                      ( تنبيه ) إطلاق كثير من الأصحاب على عبارتهم أن السمك مع اللحم إذا قلنا بأن اللحوم أجناس جنسان ، وعبارة بعضهم ومنهم الرافعي لحوم حيوانات البحر ، وبين العبارتين فرق ، فإن الكلام في لحميهما ، أما السمكة الكاملة ففي بيعها باللحم حية وميتة كلام نذكره في بيع اللحم بالحيوان إن شاء الله تعالى .

                                      ( فرع ) ينبغي أن يكون هذا الفرع تفريعا على أن اللحوم جنس واحد هل الجراد من جنس اللحوم ؟ فيه وجهان ( إن قلنا ) نعم ، فهو من البريات أو البحريات فيه وجهان ، قاله الروياني والرافعي فاجتمع فيه ثلاثة أوجه ، قال في الروضة ( أصحها ) أنه ليس من جنس اللحوم واستدل الروياني بكونه من البحريات لكونه نقل في الآثار أن أصله سمك ، ولهذا حلت ميتته ، والوجه الآخر بأنه حيوان بري يلزم الجزاء على المحرم بقتله




                                      الخدمات العلمية