الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب استئناف لتعجيب المؤمنين من سوء حالهم، والتحذير عن موالاتهم إثر ذكر أنواع التكاليف والأحكام الشرعية، والخطاب لكل من يتأتى منه الرؤية من المؤمنين، وفيه إيذان بكمال شهرة شناعة حالهم، وقيل: لسيد المخاطبين - صلى الله تعالى عليه وسلم - وخطاب سيد القوم في مقام خطابهم، والرؤية بصرية، وتعديها بـ(إلى) حملا لها على النظر، أي: ألم تنظر إليهم، وجعلها علمية وتعديها بـ(إلى) لتضمينها معنى الانتهاء، أي: ألم ينته علمك إليهم منحط في مقام التعجيب وتشهير شنائعهم، ونظمها في سلك الأمور المشاهدة.

                                                                                                                                                                                                                                      والمراد من الموصول يهود المدينة، وروي عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -أنها نزلت في رفاعة بن زيد، ومالك بن دخشم، كانا إذا تكلم رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - لويا لسانهما، وعاباه، وعنه أنها [ ص: 45 ] نزلت في حبرين كانا يأتيان عبد الله بن أبي ورهطه يثبطانهم عن الإسلام.

                                                                                                                                                                                                                                      والمراد من الكتاب التوراة، وقيل: الجنس، وتدخل فيه دخولا أوليا، وفيه تطويل للمسافة، وقيل: القرآن؛ لأن اليهود علموا أنه كتاب حق، أتى به نبي صادق، لا شبهة في نبوته، وفيه أنه خلاف الظاهر.

                                                                                                                                                                                                                                      و(بالذي أوتوه) ما بين لهم فيه من الأحكام والعلوم التي من جملتها ما علموه من نعت النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - والتعبير عنه بالنصيب المشعر بأنه حق من حقوقهم التي تجب مراعاتها والمحافظة عليها للإيذان بركاكة آرائهم في الإهمال، والتنوين للتفخيم، وهو مؤيد للتشنيع، ومثله ما لو حمل على التكثير، و(من) متعلقة بمحذوف وقع صفة لـ(نصيبا) مبينة لفخامته الإضافية إثر فخامته الذاتية، وقيل: متعلقة بـ(أوتوا).

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: يشترون الضلالة استئناف مبين لمناط التشنيع ومدار التعجيب المفهومين من صدر الكلام، مبني على سؤال نشأ منه، كأنه قيل: ماذا يصنعون حتى ينظر إليهم؟ فقيل: يختارون الضلالة على الهدى، أو يستبدلونها به بعد تمكنهم منه المنزل منزلة الحصول، أو حصوله لهم بالفعل بإنكارهم نبوة محمد، صلى الله تعالى عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزجاج: المعنى يأخذون الرشا، ويحرفون التوراة، فالضلالة هو هذا التحريف، أي اشتروها بمال الرشا، وذهب أبو البقاء إلى أن جملة (يشترون) حال مقدرة من ضمير (أوتوا) أو حال من (الذين) وتعقب الوجه الأول بأنه لا ريب في أن اعتبار تقدير اشترائهم المذكور في الإيتاء مما لا يليق بالمقام، والثاني بأنه خال عن إفادة أن مادة التشنيع والتعجيب هو الاشتراء المذكور، وما عطف عليه من قوله تعالى: ويريدون أن تضلوا السبيل .

                                                                                                                                                                                                                                      فالأوجه الاستئناف، والمعطوف شريك للمعطوف عليه فيما سبق له، والمعنى أنهم لا يكتفون بضلال أنفسهم، بل يريدون بما فعلوا من تكذيب النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - وكتم نعوته الناطقة بها التوراة أن تكونوا أنتم أيضا ضالين الطريق المستقيم الموصل إلى الحق، والتعبير بصيغة المضارع في الموضعين للإيذان بالاستمرار التجددي، فإن تجدد حكم اشترائهم المذكور، وتكرر العمل بموجبه في قوة تجدد نفسه وتكرره، وفي ذلك أيضا من التشنيع ما لا يخفى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ: (أن يضلوا) بالياء، بفتح الضاد وكسرها

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية