الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 215 ] قوله عز وجل:

ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب

هذه الآية تتضمن التعجيب مما حل بالكفار يوم بدر ، قاله مجاهد وغيره، وفي ذلك وعيد لمن بقي منهم، وحذف جواب "لو" إبهام بليغ.

وقرأ جمهور السبعة والناس: "يتوفى" بالياء فأسند فعل فيه علامة التذكير إلى مؤنث في اللفظ، وساغ ذلك أن التأنيث غير حقيقي، وارتفعت "الملائكة" بـ "يتوفى"، وقال بعض من قرأ هذه القراءة: إن المعنى: إذ يتوفى الله الذين كفروا، و"الملائكة" رفع بالابتداء، ويضربون: خبره والجملة في موضع الحال.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

ويضعف هذا التأويل سقوط واو الحال، فإنها في الأغلب تلزم مثل هذا، وقرأ ابن عامر من السبعة، والأعرج : "تتوفى" بالتاء على الإسناد إلى لفظ "الملائكة" ، و"يضربون" في موضع الحال.

وقوله تعالى: وأدبارهم قال جمهور المفسرين: يريد أستاههم، ولكن الله كريم يكني، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أراد ظهورهم وما أدبر منهم، ومعنى هذا أن الملائكة كانت تلحقهم في حال الإدبار فتضرب أدبارهم، فأما في حال الإقبال فبين تمكن ضرب الوجوه.

وروى الحسن أن رجلا قال: يا رسول الله، رأيت في ظهر أبي جهل مثل الشراك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذلك ضرب الملائكة" ، وعبر بجمع الملائكة، وملك الموت واحد إذ له على ذلك أعوان من الملائكة.

وقوله تعالى: وذوقوا عذاب الحريق قيل: كانوا يقولون للكفار حينئذ هذا اللفظ [ ص: 216 ] فحذف "يقولون" اختصارا، وقيل: معناه: وحالهم يوم القيامة أن يقال لهم هذا، والحريق: فعيل من الحرق.

وقوله تعالى: ذلك بما قدمت أيديكم يحتمل أن يكون من قول الملائكة في وقت توفيتهم لهم على الصورة المذكورة، ويحتمل أن يكون كلاما مستأنفا تقريعا من الله عز وجل للكافرين حيهم وميتهم، "وأن" يصح أن تكون في موضع رفع على تقدير: والحكم أن، ويصح أن تكون في موضع خفض عطفا على "ما" في قوله سبحانه: بما قدمت ، وقال مكي ، والزهراوي : ويصح أن تكون في موضع نصب بإسقاط الباء، وتقديره: "بأن" فلما حذفت الباء حصلت في موضع نصب.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا غير متجه ولا بين إلا أن تنصب بإضمار فعل.

وقوله تعالى: كدأب آل فرعون الآية، الدأب: العادة في كلام العرب، ومنه قول امرئ القيس:


كدأبك من أم الحويرث قبلها ... وجارتها أم الرباب بمأسل



ويروى: كدينك، ومنه قول خراش بن زهير العامري:


فما زال ذاك الدأب حتى تخاذلت ...     هوازن وارفضت سليم وعامر



وهو مأخوذ من: "دأب على العمل" إذا لزمه، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لصاحب الجمل الذي هش إليه وأقبل نحوه وقد ذل ودمعت عيناه: "إنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه"، فكأن العادة دؤوب ما. [ ص: 217 ] وقال جابر بن زيد ، وعامر الشعبي ، ومجاهد ، وعطاء : المعنى: كسنن آل فرعون، ويحتمل أن يراد: كعادة آل فرعون وغيرهم، فتكون عادة الأمم بجملتها لا على انفراد أمة، إذ آل فرعون لم يكفروا وأهلكوا مرارا بل لكل أمة مرة واحدة، ويحتمل أن يكون المراد: كعادة الله فيهم، فأضاف العادة إليهم إذ لهم نسبة إليها يضاف المصدر إلى الفاعل وإلى المفعول، والكاف من قوله: كدأب يجوز أن يتعلق بقوله: وذوقوا ، وفيه بعد، والكاف على هذا في موضع نصب نعت لمصدر محذوف، ويجوز أن تتعلق بقوله: قدمت أيديكم وموضعها أيضا -على هذا- نصب كما تقدم، ويجوز أن يكون معنى الكلام: الأمر مثل دأب فرعون، فتكون الكاف في موضع خبر الابتداء، وقوله: فأخذهم معناه: أهلكهم وأتى عليهم، بقرينة قوله: بذنوبهم ثم ابتدأ الإخبار بقوة الله تبارك وتعالى وشدة عقابه.

التالي السابق


الخدمات العلمية