الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 197 ] فصل

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد تكلمت الرافضة في هذا المقام بجهل ، وتكلفوا ما لا علم لهم به ، وكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله ، وأدخلوا أنفسهم فيما لا يعنيهم ، وحاول بعضهم أن يرد خبر أبي بكر ، رضي الله عنه ، فيما ذكرناه بأنه مخالف للقرآن حيث يقول الله تعالى : وورث سليمان داود الآية . [ النمل : 16 ] . وحيث قال تعالى إخبارا ، عن زكريا أنه قال : فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا [ مريم : 6 ، 5 ] واستدلالهم بهذا باطل من وجوه ; أحدها أن قوله : وورث سليمان داود إنما يعني بذلك في الملك والنبوة ; أي جعلناه قائما بعده فيما كان يليه من الملك وتدبير الرعايا ، والحكم بين بني إسرائيل ، وجعلناه نبيا كريما كأبيه ، فكما جمع لأبيه الملك والنبوة كذلك جعل ولده بعده ، وليس المراد بهذا وراثة المال ; لأن داود كما ذكره كثير من المفسرين كان له أولاد كثيرون يقال : مائة ولد . فلم اقتصر على ذكر سليمان من بينهم لو كان المراد وراثة المال ؟ إنما المراد وراثة القيام بعده في النبوة والملك ، ولهذا قال : وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين وما بعدها من الآيات . وقد أشبعنا الكلام على هذا في كتابنا " التفسير " بما فيه [ ص: 198 ] كفاية ، ولله الحمد والمنة كثيرا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأما قصة زكريا فإنه ، عليه السلام ، من الأنبياء الكرام ، والدنيا كانت عنده أحقر من أن يسأل الله ولدا ليرثه في ماله ، كيف وإنما كان نجارا يأكل من كسب يده ؟ ! كما رواه البخاري ، ولم يكن ليدخر منها فوق قوته حتى يسأل ولدا يرث عنه ماله - إن لو كان له مال - وإنما سأل ولدا صالحا يرثه في النبوة والقيام بمصالح بني إسرائيل ، وحملهم على السداد ، ولهذا قال تعالى : كهيعص ذكر رحمة ربك عبده زكريا إذ نادى ربه نداء خفيا قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا [ مريم : 1 - 6 ] القصة بتمامها . فقال : وليا يرثني ويرث من آل يعقوب يعني النبوة كما قررنا ذلك في " التفسير " ولله الحمد والمنة . وقد تقدم في رواية أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن أبي بكر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " النبي لا يورث " وهذا اسم جنس يعم كل الأنبياء . وقد حسنه الترمذي . وفي الحديث الآخر : " نحن معشر الأنبياء لا نورث " .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الثاني ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قد خص من بين الأنبياء بأحكام لا يشاركونه فيها ، كما سنعقد له بابا مفردا في آخر السيرة ، إن شاء الله ، فلو قدر أن غيره من الأنبياء يورثون - وليس الأمر كذلك - لكان ما رواه من ذكرناه من [ ص: 199 ] الصحابة الذين منهم الأئمة الأربعة ; أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، مبينا لتخصيصه بهذا الحكم دون ما سواه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الثالث ، أنه يجب العمل بهذا الحديث والحكم بمقتضاه ، كما حكم به الخلفاء ، واعترف بصحته العلماء ، سواء كان من خصائصه أم لا ، فإنه قال : " لا نورث ، ما تركنا صدقة " إذ يحتمل من حيث اللفظ أن يكون قوله ، عليه الصلاة والسلام " ما تركنا صدقة " أن يكون خبرا عن حكمه أو حكم سائر الأنبياء معه ، على ما تقدم ، وهو الظاهر ، ويحتمل أن يكون إنشاء وصية ، كأنه يقول : لا نورث ; لأن جميع ما تركناه صدقة . ويكون تخصيصه من حيث جواز جعله ماله كله صدقة ، والاحتمال الأول أظهر ، وهو الذي سلكه الجمهور . وقد يقوى المعنى الثاني بما تقدم من حديث مالك وغيره ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا يقتسم ورثتي دينارا ، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة " وهذا اللفظ مخرج في " الصحيحين " ، وهو يرد تحريف من قال من الجهلة من طائفة الشيعة في رواية هذا الحديث " ما تركنا صدقة " . بالنصب ; جعل " ما " نافية فكيف يصنع بأول الحديث وهو قوله " لا نورث " ؟ ! وبهذه الرواية : " ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة " ؟ ! وما شأن هذا إلا كما حكي عن بعض المعتزلة أنه قرأ على شيخ من أهل السنة : وكلم الله موسى تكليما بنصب الجلالة ، فقال له الشيخ : ويحك ! كيف تصنع بقوله تعالى : ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه . [ الأعراف : 143 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 200 ] والمقصود أنه يجب العمل بقوله صلى الله عليه وسلم : " لا نورث ، ما تركنا صدقة " على كل تقدير احتمله اللفظ والمعنى ، فإنه مخصص لعموم آية الميراث ، ومخرج له ، عليه الصلاة والسلام ، منها إما وحده أو مع غيره من إخوانه الأنبياء ، عليه وعليهم الصلاة والسلام .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية