الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ إقرار المضطهد ]

وهذا يشبه إقرار المضطهد الذي قد اضطهد ودفع عن حقه حتى يسقط حقا آخر ، والسلف كانوا يسمون مثل هذا مضطهدا ، كما قال حماد بن سلمة : حدثنا حميد عن الحسن أن رجلا تزوج امرأة ، وأراد سفرا ، فأخذه أهلها ، فجعلها طالقا إن لم يبعث بنفقتها إلى شهر ، فجاء الأجل ، ولم يبعث إليها بشيء ، فلما قدم خاصموه إلى أمير المؤمنين علي - كرم الله وجهه - فقال : اضطهدتموه حتى جعلها طالقا ، فردها عليه .

ومعلوم أنه لم يكن هناك إكراه بضرب ، ولا أخذ مال ، وإنما طالبوه بما يجب عليه من نفقتها ، وذلك ليس بإكراه ، ولكن لما تعنتوه باليمين جعله مضطهدا ; لأنه عقد اليمين ; ليتوصل إلى قصده من السفر ، فلم يكن حلفه عن اختيار ، بل هو كالمحمول عليه .

[ الفرق بين المضطهد والمكره ] والفرق بينه وبين المكره أن المكره قاصد لدفع الضرر باحتمال ما أكره عليه ، وهذا قاصد للوصول إلى حقه بالتزام ما طلب منه ، وكلاهما غير راض ، ولا مؤثرا لما التزمه ، وليس له وطر فيه .

فتأمل هذا ، ونزله على قواعد الشرع ومقاصده ، وهذا ظاهر جدا في أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - لم يكن يرى الحلف بالطلاق موقعا للطلاق إذا حنث به [ ص: 26 ] وهو قول شريح وطاوس وعكرمة ، وأهل الظاهر وأبي عبد الرحمن الشافعي ، وهو أجل أصحابه على الإطلاق ، قال بعض الحفاظ : ولا يعلم لعلي مخالف من الصحابة ، وسيأتي الكلام في المسألة ، إن شاء الله ، إذ المقصود أن من أقر أو حلف أو وهب أو صالح لا عن رضا منه ، ولكن منع حقه إلا بذلك ، فهو بالمكره أشبه منه بالمختار ، ومثل هذا لا يلزمه ما عقده من هذه العقود .

ومن له قدم راسخ في الشريعة ، ومعرفة بمصادرها ومواردها ، وكان الإنصاف أحب إليه من التعصب والهوى ، والعلم والحجة آثر عنده من التقليد ، ولم يكد يخفى عليه وجه الصواب ، والله الموفق ، وهذه المسألة من نفائس هذا الكتاب ، والجاهل الظالم لا يرى الإحسان إلا إساءة ، ولا الهدى إلا الضلالة .


فقل للعيون الرمد للشمس أعين سواك تراها في مغيب ومطلع     وسامح نفوسا بالقشور قد ارتضت
وليس لها للب من متطلع

.

التالي السابق


الخدمات العلمية