الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 269 ] قالوا : ما فرطنا في الكتاب من شيء ، تبيانا لكل شيء فالحاجة إلى القياس رد له ، وأن احكم بينهم بما أنزل الله ، فردوه إلى الله والرسول ولم يقل : الرأي .

                قلنا : المراد تمهيد طرق الاعتبار ، والقياس منها ؛ للإجماع على أنه لم يصرح بأحكام جميع الجزئيات ، وقولكم : ما ليس فيه يبقى على النفي الأصلي يناقض استدلالكم بالعموم ، ثم المراد بالكتاب : اللوح المحفوظ ، فلا حجة فيها أصلا . والحكم بالقياس رد إلى الله والرسول ، إذ عنهما تلقينا دليله .

                قالوا : براءة الذمة معلومة فكيف ترفع بالدليل المظنون ؟ قلنا : لازم في العموم ، وخبر الواحد ، والشهادة .

                قالوا : شأن شرعنا الفرق بين المتماثلات وعكسه ، نحو غسل بول الجارية دون بول الغلام ، والغسل من المني والحيض ، دون المذي والبول ، وإيجاب أربعة في الزنى دون القتل ، ونحوه كثير ; ومعتمد القياس الانتظام .

                قلنا : لا نقيس إلا حيث يفهم المعنى ، والخلاف في فهم المعنى مسألة أخرى .

                التالي السابق


                قوله : " قالوا : ما فرطنا في الكتاب من شيء " هذه حجج منكري القياس نذكرها ، وأجوبتها :

                أحدها : أنهم قالوا : إثبات الحكم بالقياس مراغمة للقرآن ورد له ، لأن الله - سبحانه وتعالى - يقول : ما فرطنا في الكتاب من شيء [ الأنعام : 38 ] ، ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء [ النحل : 89 ] ، وذلك يقتضي أن في [ ص: 270 ] الكتاب كفاية وغناء عن القياس ، وإثبات " الحاجة إلى القياس رد " لذلك . وقال تعالى : وأن احكم بينهم بما أنزل الله [ المائدة : 49 ] ، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول [ النساء : 59 ] ، " ولم يقل " : احكم بينهم بالرأي ، ولا ردوه إلى " الرأي " .

                قوله : " قلنا " : هذا جواب الدليل المذكور ، وتقريره أن " المراد " بقوله - عز وجل : ما فرطنا في الكتاب من شيء [ الأنعام : 38 ] ، و تبيانا لكل شيء [ النحل : 89 ] من حيث الإجمال " تمهيد طرق الاعتبار " الكلية ، " والقياس " من تلك الطرق ؛ لأن الكتاب دل على الإجماع والسنة بما سبق في الإجماع ، وبقوله - سبحانه وتعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه [ الحشر : 7 ] ، وإجماع الصحابة فمن بعدهم ، وسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - دلا على القياس ، وإنما قلنا ذلك " للإجماع " منا ومن الخصم على أن الكتاب لم يصرح فيه " بأحكام جميع الجزئيات " على جهة التفصيل والتعيين ، فوجب حمل البيان الكلي فيه على ما ذكرناه من تمهيد طرق الاعتبار الكلية ، وإلا فأين في الكتاب مسألة الجد مع الإخوة ، ومسألة العول ، ومسألة الأكدرية وغيرها من مسائل الفرائض ، وأين فيه مسألة المبتوتة والمفوضة ، ونحوها ، وفي جميع ذلك [ ص: 271 ] لله تعالى حكم شرعي ، ثم إنكم أنتم قد حرمتم القياس ، ولا نص في الكتاب بتحريمه ، وإنما استخرجتموه من أدلة كلية عامة على زعمكم .

                قوله : " وقولكم : ما ليس فيه يبقى على النفي الأصلي يناقض استدلالكم بالعموم " هذا إبطال لعذر لهم يعتذرون به عن دليلنا الخامس الذي سبق تقريره ، ولم نذكر هذا العذر في " المختصر " نصا ، لكني نبهت عليه هاهنا بذكر جوابه .

                وتقرير ذلك أن منكري القياس لما قيل لهم : لولا القياس ، لتعطلت حوادث كثيرة عن أحكام ؛ لعدم وفاء النصوص القليلة بالحوادث الكثيرة ; أجابوا بما سبق عند تقرير هذا الدليل ، وبعذر آخر ، وهو المشار إليه هاهنا ، وهو أن قالوا : لا نسلم تعطل شيء من الحوادث عن الأحكام ، بل ما ليس منصوصا على حكمه في الكتاب والسنة يبقى على النفي الأصلي أي : لا حكم له ؛ لأن الأصل عدم الأحكام .

                وجوابه ما ذكرناه ، وهو أن هذا الاعتذار يناقض استدلالكم بعموم قوله - سبحانه وتعالى : ما فرطنا في الكتاب من شيء ، تبيانا لكل شيء ؛ لأن ذلك بمقتضى استدلالكم يوجب أن لا حادثة إلا ولها في الكتاب حكم ، فقولكم بعد هذا : " ما ليس فيه يبقى على النفي الأصلي " إثبات ؛ لأن من الحوادث ما لا حكم له في الكتاب ، وذلك عين التناقض .

                قوله : " ثم المراد بالكتاب " ، يعني في قوله تعالى : ما فرطنا في الكتاب من شيء : " اللوح المحفوظ ، فلا حجة فيها " على محل النزاع " أصلا " ، [ ص: 272 ] لأن النزاع ليس في استيعاب اللوح المحفوظ لجزئيات الموجودات وكلياتها ، إنما النزاع في استيعاب القرآن لذلك ، بحيث يستغنى معه عن القياس ، وذكر ابن عطية في المراد بالكتاب في قوله تعالى : ما فرطنا في الكتاب من شيء قولين :

                أحدهما : أنه اللوح المحفوظ كما ذكرنا فلا إشكال .

                والثاني : أنه القرآن . قال : وهو الذي يقتضيه نظام المعنى في هذه الآيات . قال : وعلى هذا القول ، هو خاص في الأشياء التي فيها منافع المخاطبين وطريق هدايتهم . وذكر في قوله تعالى : تبيانا لكل شيء ، أي : مما يحتاج إليه في الشرع ، ولا بد منه في الملة ، كالحلال ، والحرام ، والدعاء إلى الله تعالى ، والتخويف من عذابه . قال : هذا حصر ما اقتضته عبارة المفسرين .

                قلت : وفيه إشارة إلى ما قلناه ، وذلك لأن في جزئيات مسائل الفروع التي تثبت بالأقيسة ما لا ضرورة بتحقق الملة إليه ، بل يحصل اتباع الملة بدونها بل جميع مسائل الفروع تتحقق الملة بدونها ، إذ من أتى بالشهادتين مخلصا مع التزامه أحكام الملة اعتقادا ، ثم لم يأت بفرع من فروع الدين ، كان له حكم المسلمين في عدم الخلود في النار ، وغير ذلك مما يلحق المسلمين ، فدل ذلك على ما ذكرنا من أن المراد بالآية الخصوص .

                قولهم : الحكم بالقياس ليس حكما بما أنزل الله ولا ردا إلى الله [ ص: 273 ] والرسول .

                قلنا : لا نسلم ، بل " الحكم بالقياس " حكم بما أنزل الله تعالى و " رد إلى الله والرسول ، إذ عنهما تلقينا دليله " ، أي : دليل القياس ، كما سبق تقريره من دلائل الكتاب والسنة .

                الحجة الثانية لهم : " قالوا : براءة الذمة " من التكاليف " معلومة " عملا بموجب النفي الأصلي ، والقياس مظنون لأنه إنما يفيد الظن ، " فكيف ترفع " البراءة المعلومة " بالدليل المظنون " ؟

                والجواب : إن هذا " لازم " لكم " في العموم ، وخبر الواحد ، والشهادة " ، فإن هذه كلها إنما تفيد الظن ، وقد رفعنا بها البراءة الأصلية باتفاق . وهذا الجواب على جهة المناقضة الجدلية والإلزام . أما التحقيق في الجواب ، فهو أن العلم ليس مشروطا في التكاليف العملية ، بل حصول الظن فيه كاف ثبوتا وزوالا على ما تقرر في نسخ التواتر بالآحاد .

                وحينئذ نقول : الكافي في البراءة الأصلية هو الظن ، وله رفع القياس المظنون وغيره من الأدلة المظنونة ، والزيادة على الظن غير معتبرة بوجه من الوجوه ، فوجودها كالعدم . وهذا كما قيل : إن المعتبر في العلل الشرعية هو الطرد دون العكس ، فوجوده كالعدم ، لكنه ترجح به عند التعارض .

                الحجة الثالثة : " قالوا : شأن شرعنا الفرق بين المتماثلات وعكسه " يعني الجمع بين المختلفات " نحو : غسل بول الجارية دون بول الغلام ، والغسل من المني والحيض دون المذي والبول " مع استواء ذلك كله في كونه [ ص: 274 ] خارجا من الفرج نجسا ، وإن قلنا بطهارة المني ، قوي الإشكال ، إذ يجب الغسل بخروجه مع طهارته دون المذي والبول مع نجاستهما ، والقياس العكس ، " وإيجاب أربعة " شهود " في الزنى دون القتل " مع إفضائهما إلى القتل فيما إذا كان الزاني محصنا ، وإن كان بكرا قوي الإشكال ، إذ لا زهوق فيه . ومع ذلك يشترط فيه أربعة شهود ، والقتل الذي فيه الزهوق يكتفى فيه بشاهدين ، وكان القياس العكس احتياطا للدماء ، ونحو ذلك كثير ، ككونه فرق في حق الحائض بين قضاء الصوم والصلاة ، وكلاهما عبادة ، وأباح النظر إلى الأمة دون الحرة ، وكلتاهما امرأة محل للشهوة .

                وجمع بين المختلفات ، فأوجب جزاء الصيد على من قتله عمدا أو خطأ ، وفرق في التطيب وحلق الشعر بين العمد والخطأ ، وكلها من محظورات الإحرام ، وأوجب الكفارة بالظهار والقتل والإفطار واليمين ، وهي أفعال مختلفة ، ثم غاير بين مقادير كفارتها ، وأوجب القتل على الزاني والقاتل وتارك الصلاة ، والكافر ، وجناياتهم مختلفة ، وقال لأبي بردة في التضحية بالعناق : تجزئك ولا تجزئ أحدا بعدك . وقيل للنبي - صلى الله عليه وسلم : خالصة لك من دون المؤمنين [ الأحزاب : 50 ] ، مع أن الجميع أناسي مكلفون .

                " ومعتمد القياس : الانتظام " ، يعني : اتفاق المعنى في الأصل والفرع ، وإذا كان هذا التفاوت واقعا في الشرع لم نكن على ثقة من انتظام معاني الأصول والفروع حتى يلحق المسكوت عنه بالمنطوق .

                [ ص: 275 ] قوله : " قلنا : لا نقيس إلا حيث يفهم المعنى ، والخلاف في فهم المعنى مسألة أخرى " . تقرير هذا أنا لا ننكر وقوع ما ذكرتم في الشرع ، لكنا ما ادعينا عموم وقوع القياس في كل صورة من صوره ، بل حيث فهمنا أن الحكم ثبت لمعنى من المعاني ، ألحقنا به ما وجد فيه ذلك المعنى من الفروع ، كالنبيذ مع الخمر ، والأرز مع البر . ولهذا قلنا : الأحكام إما غير معلل كالتعبدات ، أو معلل كالحجر على الصبي لضعف عقله حفظا لماله ، أو ما يتردد في كونه معللا أولا ، كقولنا : استعمال التراب في غسل ولوغ الكلب هل هو تعبد أم معلل ؟ وخرج على ذلك الخلاف في قيام الأشنان والصابون والغسلة الثامنة مقامه ; إن قلنا : هو تعبد ، لم يقم غيره مقامه ، وإن قلنا : معلل بإعانة الماء على إزالة أثر الولوغ ; قام ذلك مقامه لوجود معنى الإزالة ، وكذلك إن قلنا : هو تعبد ، كفى بالتراب مسماه وإن لم يعم أجزاء محل الولوغ ، وإن قلنا : هو معلل ، اشترط تعميمه به عملا بمقتضى التعليل ، وكذلك غسل اليد عند الوضوء وعند القيام من النوم إن قيل : هو عبادة ، وجبت له النية ، وإن قيل : نظافة ، لم يجب ، ونظائر هذا كثير .

                وبالجملة لا نقيس إلا حيث فهمنا المعنى ووجدت شروط القياس ، فأما كون هذه المسألة الخاصة معللة أو غير معللة ; فتلك مسألة أخرى خارجة عما نحن فيه يثبت فيها من الحكم بالتعبد أو التعلل ما قام عليه الدليل .

                واعلم أن الجواب المذكور عن الحجة المذكورة إجمالي ، والجواب التفصيلي أن الصور المذكورة فيها كلها أو جلها يمكن التخلص عنه إما بمنع [ ص: 276 ] الحكم من فرق أو جمع بناء على اختلاف المذاهب في ذلك ، أو بإبداء المناسب .

                أما غسل بول الجارية دون بول الغلام ، فقد سوى الحسن بينهما في النضح ، وغيره في الغسل ، فلا نرد على ظاهر الخبر ، فقد تكلم العلماء في الفرق بينهما بوجوه :

                أحدها : أن آلة بول الغلام بارزة عن سمت بدنه ، والناس أميل إلى حمله ، فيكثر بوله على الناس ، فيشق غسله عليهم ، بخلاف الجارية فإن بولها لا يجاوزها إلى غيرها .

                الوجه الثاني : أن يقال : إنه اعتبر بولهما ، فوجد بول الجارية أثقل من بول الغلام ، وذلك مناسب للفرق ، ويؤكد هذا أن مزاج الذكر حار ، ومزاج الأنثى بارد ، فيضعف الهضم ، فتبقى الفضلة كثيفة ، ذات قوام كثيف ، فإذا تعلقت بالأجسام ، كان أثرها محتاجا إلى الغسل بخلاف ذلك في الغلام .

                الوجه الثالث : أنه لما افترق مني الذكر والأنثى ناسب افتراق بولهما ، غير أن الأمر في البول عكسه في المني ، إذ مني الذكر غليظ أبيض ، ومني الأنثى رقيق أصفر ، وبول الأنثى أغلظ من بول الذكر ، وهذا تقرير شبهي ، وبالجملة فالحكم فرعي ، وهذه الأوصاف تصلح لتقريره وتقوى عليه .

                وأما إيجاب أربعة شهود في الزنى دون القتل ، فقد قررته مبسوطا في " القواعد الصغرى " على وجه لا ينكره عاقل .

                وأما الفرق في حق الحائض بين قضاء الصوم دون الصلاة فلكثرة الصلاة [ ص: 277 ] وتكررها ، فيشق قضاؤها دون الصوم ، إذ هو شهر في السنة ، وهذا معنى مناسب للفرق وكونهما عبادة لا يقتضي استواؤهما في ذلك .

                وأما إباحة النظر إلى الأمة دون الحرة ، فهو على إطلاقه ممنوع ؛ إذ النظر إليهما بشهوة حرام إذا لم يكن زوجا أو سيدا . وأما لغير شهوة ، فيجوز من الأمة إلى ما يظهر منها غالبا في حال المهنة والخدمة ؛ لأن ذلك من شأنها ، فالتحرز من النظر إليه يشق ، كما قيل في وجه الحرة وكفيها لذلك ، والنظر إلى وجهها لحاجة الشهادة عليها ، وإلى غير وجهها أيضا لحاجة العلاج ؛ لأن اجتناب ذلك يورث مشقة منتفية شرعا ، وهو الفرق من باب الاستحسان الشرعي ، وإلا فالقياس عدم الفرق بين الحرة وغيرها ، لكن ما ذكرناه مناسب لثبوت هذا الاستحسان .

                وأما قتل الصيد عمدا أو خطأ ; فمن العلماء من فرق بينهما ، وهو ظاهر النص والقياس ، فلا يرد ، ومنهم من سوى بينهما في وجوب الضمان تغليبا لمعنى إتلاف حق الآدمي فيه ، وذلك لا فرق فيه بين العمد والخطأ إقامة لرسم العدل كما سبق في أول الكتاب ، وذلك لأن قتل الصيد متردد بين حق الله تعالى ، وحق الآدمي ، فمن حيث إن قتله ارتكاب لما نهى الله - عز وجل - عنه هو حق له - سبحانه وتعالى ، ومن حيث إن جزاءه مصروف إلى الآدمي هو حق له ، وهذا هو المأخذ في الفرق والجمع في قتل الصيد ، ثم إن من قال بالفرق فيه ، لم يرد عليه الفرق في التطيب وحلق الشعر ؛ لأن الكل عنده سواء في الفرق بين العمد والخطأ ، ومن فرق بين التطيب والحلق دون قتل الصيد غلب فيه إتلاف حق الآدمي وفيهما حق الله - عز وجل - ، على أن [ ص: 278 ] جميع ذلك مختلف فيه بين القياسين ، والخلاف في القياس مع جميعهم ، فللمجتهد منهم أن يلتزم الفرق في الجميع ، أو التسوية في الجميع ، فيسقط عنه السؤال .

                وأما إيجاب الكفارة بأسبابها المذكورة ، فأبو حنيفة - رحمه الله - منع جريان القياس فيها لاختلاف أسبابها ومقاديرها ، وأجازه في غيرها . ومن أجرى القياس في الكفارات ، فإنما أجراه حيث غلب على ظنه مناط الحكم ، ووجدت شروط القياس . وهذا هو الجواب الإجمالي الذي سبق ، مع أن الكفارة إما جبران أو عقوبة ، والظاهر أن الشارع علم أن كفارة كل واحد من هذه الأسباب يكافئه جبرا أو زجرا ، فشرعها فيه ؛ لأنه عدل ، وهذا من العدل ، وكذلك الكلام في وجوب قتل الزاني والقاتل ونحوه مع اختلاف جناياتهم ، فيحمل الأمر على أن مفسدة أدنى هذه الجنايات توجب القتل ، وسقط الزائد من المفسدة فيما فوقه من الجنايات تفضلا أو تعذرا ؛ إذ لا عقوبة وراء القتل ، مع أنا لا نسلم اتحاد كيفية القتل فيهم ، بل القاتل يفعل به كما فعل بموجب العدل الذي دلت عليه النصوص ، والزاني إن كان بكرا ، فلا قتل عليه ، بل عليه الجلد والتغريب ، فإن مات في الجلد ، فزهوقه غير مقصود للشرع ، وإن كان ثيبا ، فيجلد ، ويرجم حتى يموت ، وفي ذلك من الألم والتعذيب أضعاف ما في القتل بالسيف ؛ لأن جنايته أعظم من جناية القتل ، وجناية الكافر ، وإن كانت أعظم ; غير أن القتل بالكفر حق لله تعالى فيفضل بترك [ ص: 279 ] زيادة التعذيب والمثلة بالرجم ونحوه .

                والقتل بالزنى ، إما حق الآدمي ؛ لأن الجناية عليه بهتك العرض ، وتضييع النسب ، أو أنه حق مشترك غلب فيه حق الآدمي لذلك فجعل كفئا لسببه .

                وأما حديث أبي بردة - رضي الله عنه : تجزئك ولا تجزئ أحدا بعدك فقد بينت وجهه عند ذكر الحديث في " مختصر " الترمذي ، ولم أنشط هاهنا لتقريره .

                وأما قوله - سبحانه وتعالى : خالصة لك من دون المؤمنين [ الأحزاب : 50 ] ، فإن فضيلة الأنبياء عليهم السلام على غيرهم معلومة بالاضطرار ، وذلك مناسب لتخصيصهم بما شاء الله - عز وجل - أن يكرمهم به ، وكونهم جميعا أناسي مكلفين لا يوجب التسوية بينهم في كل حكم ، ولا يمنع تفضيل بعضهم على بعض ، ولو ساغ ذلك ، للزم القدح في النبوات بأن يقال : كل الناس أناسي فكيف يختص بالمعجز النبي ؟ . وهذه شبهة الكفار حيث قالوا : ما أنتم إلا بشر مثلنا [ يس : 15 ] ، أبشرا منا واحدا نتبعه [ القمر : 24 ] ، ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون [ المؤمنون : 34 ] .

                فإن قيل : المعجز والنبوة موهبة من الله تعالى لأنبيائه عليهم السلام ، خصوا بها بحكم الإرادة الإلهية ، فإن قلتم في أحكام الشرع المختصة بمحالها دون نظائرها كذلك ، صح ما قلناه من بطلان القياس .

                قلنا : النبوة موهبة لغير معنى أو لمعنى مناسب ، الأول ممنوع ، والثاني [ ص: 280 ] مسلم ، وبه يتم مقصودنا ، وذلك أن الله تعالى إنما وهب النبوة لأهلها لما اختصوا به على باقي العالم من زيادة الخير ، والصلاح ، والطاعة ، والعبادة ، وتزكية النفوس ، واكتساب الفضائل ، واجتناب الرذائل ، وإن كان ذلك بتوفيق الله - عز وجل - ، بدليل قوله تعالى : ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) ، [ الأنعام : 124 ] وسائر ما مدح به الأنبياء عليهم السلام في القرآن الكريم .

                وإذا ثبت أن اختصاصهم بالنبوة لمعنى مناسب له ، فكذلك الأحكام المذكورة ، خصت بأحكامها لمعنى مناسب .

                فإن قيل : لكن أنتم تقولون : إذا فهمنا المعنى المناسب أو المؤثر غير المناسب ، ألحقنا به ما في معنى محله ، كإلحاق النبيذ بالخمر ، فهل نقول : إن المعنى المناسب للاختصاص بالنبوة في الأنبياء إذا وجدتموه في آحاد الناس تلحقونه في إثبات النبوة ؟ إن قلتم : نعم ، فلا قائل به ، وإن قلتم : لا ، فما الفرق ؟

                قلنا : إن القياس مدرك ظني تثبت به الأحكام ، وإثبات النبوة حكم قطعي ، وهو أصل لقواطع الشرائع وظنياتها ، فلا يثبت بالقياس حتى لو كان أمر النبوة ظنيا ، أو كان القياس مدركا للنبوة قطعيا ، لأثبتناها به ، ولهذا لما كان المعجز بشروطه دليلا على ثبوت النبوة في شخص ما ، عدينا حكم الاستدلال به إلى غيره ، فمن ظهر المعجز على يده فقلنا مثلا : إنما ثبت كون موسى - عليه السلام - نبيا لظهور المعجز على يده ، وقد ظهر المعجز على يد عيسى [ ص: 281 ] ومحمد عليهما السلام ، فدل على صحة نبوتهما ، لما كان هذا الاستدلال قاطعا ثبت بمثله النبوة القاطعة .

                ومما يورد من نظائر هذه الصور على القياس أن العجوز الشوهاء القبيحة المنظر تحصن من شاء الله تعالى من الأحرار على البدل ، ومن شاء الله من الإماء الحسان لا تحصن آدميا واحدا .

                والجواب أن هذا ممنوع عند بعض العلماء ، منهم مالك - رحمه الله - وهو من القياسين ، فيسقط السؤال ، ومن التزمه أبدى فرقا مناسبا عنده ، وهو نقص الرق وكان شبهة في درء الحد وهو تكلف ، إذ ليس مؤثرا ، والصواب رأي مالك ، ولو لم يقل به مالك ، لجاز للمجتهد التزامه ، إذ لا نص في نفيه ولا إجماع .

                ومن ذلك قولهم : لم قطع سارق القليل دون غاصب الكثير ، وهو أحوج إلى الردع ؟

                والجواب : أن الغصب فعل ظاهر ، ولا يخلو كل إقليم عن سلطان يكف ظلم الظالم ، وينصف المظلوم ، إما تقربا إلى الله - عز وجل - بالعدل ، أو حياطة للملك وسياسة له ، وذلك دافع لمفسدة الغصب منعا أو قطعا ، بخلاف السرقة فإنها فعل خفي لا يطلع عليه السلطان ، فوضع له الشرع زاجر القطع ، إذ بدون ذلك لا تزول المفسدة ، والله تعالى أعلم .

                وأما وجوب الغسل في خروج المني دون البول ، فذكر بعض الأطباء له معنى مناسبا إن تحقق ، ولا أستطيع الآن تحقيقه .




                الخدمات العلمية