الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 215 ] باب ما يوجب القصاص وما لا يوجبه قال ( القصاص واجب بقتل كل محقون الدم على التأبيد إذا قتل عمدا ) أما العمدية فلما بيناه ، وأما حقن الدم على التأبيد فلتنتفي شبهة الإباحة وتتحقق المساواة

قال ( ويقتل الحر بالحر والحر بالعبد ) للعمومات

وقال الشافعي رحمه الله : لا يقتل الحر بالعبد لقوله تعالى { الحر بالحر والعبد بالعبد } ومن ضرورة هذه المقابلة أن لا يقتل حر بعبد ، ولأن مبنى القصاص على المساواة وهي منتفية بين المالك والمملوك ولهذا لا يقطع طرف [ ص: 216 ] الحر بطرفه ، بخلاف العبد بالعبد ; لأنهما يستويان ، وبخلاف العبد حيث يقتل بالحر ; لأنه تفاوت إلى نقصان

ولنا أن القصاص يعتمد المساواة في العصمة وهي بالدين وبالدار ويستويان فيهما ، وجريان القصاص بين العبدين يؤذن بانتفاء شبهة الإباحة ، والنص تخصيص بالذكر فلا ينفي ما عداه

[ ص: 217 ] قال ( والمسلم بالذمي ) خلافا للشافعي

له قوله عليه الصلاة والسلام { لا يقتل مؤمن بكافر } ولأنه لا مساواة بينهما وقت الجناية ، وكذا الكفر مبيح فيورث الشبهة

ولنا ما روي { أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل مسلما بذمي } ولأن المساواة في العصمة ثابتة نظرا إلى التكليف والدار والمبيح كفر المحارب دون المسالم ، والقتل بمثله يؤذن بانتفاء [ ص: 218 ] الشبهة ، والمراد بما روى الحربي لسياقه { ولا ذو عهد في عهده } والعطف للمغايرة

[ ص: 219 ] قال ( ولا يقتل بالمستأمن ) ; لأنه غير محقون الدم على التأبيد ، وكذلك كفره باعث على الحراب ; [ ص: 220 ] لأنه على قصد الرجوع

[ ص: 215 ]

التالي السابق


[ ص: 215 ] باب ما يوجب القصاص وما لا يوجبه ) لما فرغ من بيان أنواع القتل شرع في تفصيل ما يوجب القصاص من القتل وما لا يوجبه في باب على حدة ( قوله أما العمدية فلما بيناه ) من قوله عليه الصلاة والسلام { العمد قود } ومن أن الجناية بها تتكامل ، كذا في العناية وغاية البيان

وقال بعض الفضلاء : ومن قوله تعالى { كتب عليكم القصاص في القتلى } على ما مر في وجه كون موجب القتل القود عينا ا هـ

أقول : فيه نظر ; لأن قوله تعالى { كتب عليكم القصاص في القتلى } إنما يدل على وجوب القصاص في القتل

وأما كون وجوب القصاص في القتل العمد خاصة فلا تدل عليه الآية المذكورة وحدها لإطلاقها ، وإنما يدل عليه الحديث المشهور وهو قوله [ ص: 216 ] عليه الصلاة والسلام { العمد قود } والدليل المعقول كما أفصح عنه المصنف فيما قبل حيث قال : والقود لقوله تعالى { كتب عليكم القصاص في القتلى } وقال : إلا أنه تقيد بوصف العمدية لقوله عليه الصلاة والسلام { العمد قود } أي موجبه ، ولأن الجناية بها تتكامل إلخ ، فكيف يتصور أن يندرج قوله تعالى { كتب عليكم } إلخ في قول المصنف ها هنا أما العمدية فلما بيناه كما يقتضيه قول ذلك البعض ، ومن قوله تعالى { كتب عليكم القصاص في القتلى } تبصر ( قوله وجريان القصاص بين العبدين يؤذن بانتفاء شبهة الإباحة ) قال صاحب العناية في شرح هذا المقام : فإن قال الشافعي : جاز أن تكون شبهة الإباحة مانعة ، وهي ثابتة ; لأن الرق أثر الكفر وحقيقة الكفر تمنع منه كما بين المسلم والمستأمن فكذا أثره

أجاب بقوله : وجريان القصاص ومعناه لا يصلح ذلك مانعا ; إذ لو صح لما جرى بين العبدين كما لا يجري بين المستأمنين ، وليس كذلك ا هـ

أقول : هذا الشرح لا يطابق المشروح ; لأن حاصله منع مانعية شبهة الإباحة عن القصاص

وحاصل المشروح منع ثبوت شبهة الإباحة في العبد ، ومن النص فيه قول المصنف يؤذن بانتفاء شبهة الإباحة

فالصواب في الشرح أن يقال : ومعناه أن شبهة الإباحة غير ثابتة في العبد وإلا لما جرى بين العبدين كما لا يجري بين المستأمنين ( قوله : والنص تخصيص بالذكر فلا ينفي ما عداه ) هذا جواب عما استدل به الخصم من مقابلة الحر بالحر والعبد بالعبد في الآية

ووجهه أن ذلك تخصيص بالذكر ، وهو لا ينفي ما عداه كما في قوله تعالى { والأنثى بالأنثى } فإنه لا ينفي أن يقتل الأنثى بالذكر ولا العكس بالإجماع

وفائدة التخصيص الرد على من أراد قتل غير القاتل بالمقتول كما يدل عليه سبب نزول هذه الآية

وهو ما روي عن ابن عباس أن قبيلتين من العرب اقتتلتا وكانت إحداهما تدعي الفضل على الأخرى فقالت : لا نرضى إلا بقتل الذكر منهم بالأنثى منا والحر منهم بالعبد منا فأنزل الله تعالى هذه الآية ردا عليهم كذا في الشروح

أقول : لقائل أن يقول إن التخصيص بالذكر وإن لم يدل على نفي ما عداه إلا أن تعريف المسند إليه فاللام الجنس يفيد القصر نحو : الكرم التقوى : أي لا غيرها ، والأمير الشجاع ؟ أي لا الجبان ، ونحو التوكل على الله و { الإمام من قريش } إلى غير ذلك من الأمثلة كما عرف [ ص: 217 ] في علم الأدب

وقد استدل الأئمة الحنفية على أن موجب القتل العمد هو القود عينا لا واحد من القود والدية لا بعينه بقوله عليه الصلاة والسلام { العمد قود } وقالوا : وجه التمسك به أن الألف واللام في قوله العمد للجنس فتفيد القصر على القود فليكن الأمر كذلك فيما نحن فيه

والجواب أن اللام إنما يجوز حملها على الجنس إذا لم يكن هناك معهود كما عرف في علم الأدب وعلم الأصول أيضا ، وفي الآية المذكورة تحقق المعهود وهو ما ذكر في سبب نزولها فتحمل اللام عليه دون الجنس فلم يوجد فيها ما يقتضي القصر ، وقد أشار إليه في الكافي حيث قال بعد ذكر فائدة المقابلة ببيان سبب النزول فكان اللام لتعريف العهد لا لتعريف الجنس ( قوله وكذا الكفر مبيح فيورث الشبهة ) قال صاحب العناية في شرح هذا المحل : إن الكفر مبيح لدمه لقوله تعالى { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } أي فتنة الكفر فيورث شبهة عدم المساواة ا هـ

أقول : قد حمل الشبهة المذكورة في الكتاب هنا على شبهة المساواة وهو خبط ظاهر

أما أولا فلأن المصنف قد صرح قبيل هذا بعدم المساواة بينهما على طريق الجزم حيث قال : لأنه لا مساواة بينهما وقت الجناية فكيف يتم أن يقول بعده : كون الكفر مبيحا يورث شبهة عدم المساواة ويجعلها استدلالا آخر فهلا يكون هذا منافيا لما سبق أو مستدركا

وأما ثانيا فلأنه سيقول في الجواب من قبلنا عن هذا الاستدلال : والمبيح كفر المحارب دون المسلم ، والقتل بمثله يؤذن بانتفاء الشبهة ، وذلك قطعي الدلالة ، على أن ليس المراد بالشبهة المذكورة هنا شبهة عدم المساواة ; إذ لا شك أن قتل الذمي بمثله لا يؤذن بانتفاء شبهة عدم المساواة بين المسلم والذمي ، وإنما يؤذن بانتفاء شبهة عدم الإباحة في دم الذمي

فالصواب أن المراد بالشبهة هو شبهة الإباحة كما هو مقتضى تفريع قوله فيورث الشبهة على قوله ، وكذا الكفر مبيح وقد صرح بذلك في المسألة السابقة فحينئذ ينتظم السباق واللحاق بلا غبار كما لا يخفى ( قوله ولأن المساواة في العصمة ثابتة نظرا إلى التكليف أو الدار ) قال صاحب العناية في حل هذا التعليل : ولأن القصاص يعتمد المساواة في العصمة وهي ثابتة نظرا إلى [ ص: 218 ] التكليف : يعني عنده ، أو الدار : يعني عندنا ا هـ

أقول : وزع الشارح المذكور قول المصنف نظرا إلى التكليف أو الدار إلى المذهبين كما ترى ، فحمل قوله إلى التكليف على مذهب الشافعي ، وقوله أو الدار على مذهبنا ، لكنه محل نظر ; لأن المصنف لما قال في تعليل المسألة السابقة

ولنا أن القصاص يعتمد المساواة في العصمة وهي بالدين أو بالدار

قال الشارح المذكور وسائر الشراح أيضا هناك ، وهي أي العصمة بالدين : يعني عنده ، أو بالدار : يعني عندنا ، فقد حملوا قول المصنف بالدين على مذهب الشافعي ، وإذا كان المعتبر في ثبوت العصمة عند الشافعي هو الدين فكيف يتم القول هنا بثبوتها عنده بمجرد التكليف بدون تحقق دين الإسلام كما يقتضيه شرح صاحب العناية في هذا المحل

ثم أقول : لعل كلمة أو في قول المصنف نظرا إلى التكليف ، أو الدار بمعنى الواو كما في قوله : سيان كسر رغيفه أو كسر عظم من عظامه فيكون المجموع على مذهبنا ، ويؤيده ما وقع في بعض النسخ من كلمة الواو بدل كلمة أو ، وعبارة الكافي والتبيين أيضا فإن المذكور فيهما في هذا المقام ، ولأن القصاص يعتمد المساواة في العصمة وقد وجدت نظرا إلى الدار وإلى التكليف ا هـ

فإن قلت : لم لم تحمل المجموع على مذهبنا مع إبقاء كلمة أو على أصل معناها ؟ قلت : لأن التكليف وحده لا يقتضي العصمة الموجبة للقصاص ; ألا يرى أنه إذا قتل مكلف ولو كان مسلما في دار الحرب لا يجب القصاص صرح به في عامة المعتبرات فلا بد من أن يكون في دار الإسلام أيضا ( قوله والمراد بما روى الحربي لسياقه ولا ذو عهد في عهده والعطف للمغايرة ) يعني أن المراد [ ص: 219 ] بالكافر في قوله عليه الصلاة والسلام { لا يقتل مؤمن بكافر } هو الحربي بدليل سياقه وهو قوله { ولا ذو عهد في عهده } فإنه معطوف على : مؤمن ، فالمعنى : ولا يقتل ذو عهد بكافر ، ولا شك أن ذا العهد وهو الذمي إنما لا يقتل بالحربي دون الذمي ، فإن جريان القصاص بين الذميين مجمع عليه

فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد بذي العهد في الحديث هو المسلم دون الذمي ؟ قلنا : لأن العطف يقتضي المغايرة ، فلا جرم يكون المراد بذي العهد المعطوف على المؤمن غير المسلم ، وقد أشار إليه المصنف بقوله والعطف للمغايرة

فإن قيل : ولم لا يجوز أن يكون قوله ولا ذو عهد في عهده ابتداء كلام : أو لا يقتل ذو عهد في مدة عهده

قلنا : لأن الواو للعطف حقيقة خصوصا فيما لا يكون مستقلا بنفسه

والمراد بالأول نفي القتل قصاصا لا نفي مطلق القتل ، فكذا في الثاني تحقيقا لمقتضى العطف من المناسبة بين الجملتين ، هذا جملة ما في الكافي وأكثر الشروح في هذا المقام أخذا من المبسوط والأسرار

وقال صاحب العناية في شرح هذا المحل : قوله والمراد بما روي جواب عما استدلوا به من حديث علي رضي الله عنه وتقريره ما ذكره الطحاوي في شرح الآثار : إن الذي حكاه أبو جحيفة عن علي لم يكن مفردا ، ولو كان مفردا لاحتمل ما قالوا ولكن كان موصولا بغيره وهو قوله { ولا ذو عهد في عهده } وإليه أشار المصنف بقوله لسياقه ولا ذو عهد في عهده

ووجه ذلك أنه عطف هذا على الأول والعطف للمغايرة فيكون كلاما تاما في نفسه ، وليس كذلك لأدائه إلا أن لا يقتل ذو عهد مدة عهده وإن قتل مسلما ، وليس بصحيح بالإجماع فيقدر ولا ذو عهد في عهده بكافر على طريقة قوله تعالى { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون } ثم الكافر الذي لا يقتل به ذو عهد هو الحربي بالإجماع فيقدر بكافر حربي ، وإذ لا بد من تقدير حربي يقدر في المعطوف عليه كذلك ، وإلا لكان ذلك أعم ، والأعم لا دلالة له على الأخص بوجه من الوجوه ، فما فرضناه دليلا لا يكون دليلا هذا خلف ، إلى هنا لفظ العناية

أقول : فيه خلل من الوجوه : الأول أن الأعم إنما لا يدل على الأخص بوجه من الوجوه من حيث خصوصية الأخص : أي لا يدل الأعم على أن يكون المراد منه هو الأخص وحده ، وهذا معنى ما يقال في العلوم العقلية : لا دلالة للعام على الخاص بإحدى الدلالات الثلاث

وأما من حيث اندراج الأخص تحت ذلك الأعم فيدل عليه قطعا بواسطة دلالته على معناه العام الشامل لذلك الأخص ولغيره أيضا ; ألا يرى أنا إذا قلنا كل حيوان متحرك بالإرادة فلا شك أنه يدل على كون الإنسان متحركا بالإرادة كسائر الحيوانات لاندراجه تحت الحيوان ، وكذا حال سائر الكليات بالنظر إلى ما تحتها من الجزئيات ، وهذا أمر لا سترة به ، ففيما نحن فيه لو لم يقدر حربي في المعطوف عليه وكان كافر أعم من الحربي والذمي لدل على أن لا يقتل مؤمن بشيء من أفراد الكافر وحصل مطلوب الشافعي ، ولم يلزم أن لا يكون ما فرضناه دليلا للشافعي دليلا له على مدعاه كما زعمه الشارح المزبور

والثاني أن عدم كون ما فرضناه دليلا للشافعي دليلا له لا يقتضي تقدير شيء في الحديث ; إذ لا يتبع تعين معنى الحديث جعل الشافعي ذلك الحديث دليلا على مدعاه ، بل جعله دليلا عليه إنما يصح بعد تعين معناه ، فما معنى الاستدلال على عدم عموم الكافر في الحديث بلزوم أن لا يكون ما فرضناه دليلا للشافعي دليلا له على تقدير عمومه كما هو مقتضى تقرير الشارح المزبور

والثالث أن ما عده محذورا ، وهو أن لا يكون ما فرضناه دليلا للشافعي دليلا له لازم أيضا على تقدير أن يقدر حربي في المعطوف عليه بمقتضى رأيه ; لأن الحربي مباين للذمي لا محالة ، وعدم دلالة أحد المتباينين على الآخر أظهر من عدم دلالة الأعم على الأخص ، فإن لزم من أن يكون كافر في الحديث أعم أن لا يكون ما فرضناه دليلا للشافعي دليلا له فلأن لزم من أن يقيد كافر في الحديث بحربي أن لا يكون ما فرضناه دليلا للشافعي [ ص: 220 ] دليلا له أولى ، فكيف يثبت تقدير حربي على رأيه وبالجملة قد خرج الشارح المزبور في توجيه الحديث المذكور عن سنن الصواب بالكلية فضل عن سبيله

ثم إن صاحب الغاية اعترض على قول المصنف : والعطف للمغايرة حيث قال : ولنا في هذا المقام نظر ; لأنا نقول : نعم العطف للمغايرة ، ولكن لم يعطف قوله عليه الصلاة والسلام " ولا ذو عهد " على كافر ; لأنه لو عطف عليه لقيل بالجر بل هو عطف على مؤمن ، ولكن نقول : إن الذمي يقتل بالذمي بالاتفاق ، فعلم أن المراد من الكافر الحربي ا هـ

أقول : نظره في غاية السقوط ; لأن قول المصنف والعطف للمغايرة ليس لبيان مغايرة : ذو عهد في الحديث لكافر حتى يتجه ما توهمه من أن قوله عليه الصلاة والسلام " ولا ذو عهد " لم يعطف على كافر بل لبيان مغايرته لمؤمن دفعا لاحتمال أن يكون المراد بذو عهد في الحديث هو المؤمن أيضا ; إذ على هذا الاحتمال لا يظهر كون المراد بكافر هو الحربي ; إذ المؤمن لا يقتل بذمي أيضا عند الشافعي فلا يسلم التقييد بحربي ، وأما إذا كان ذو عهد مغايرا لمؤمن فكان المراد به هو الذمي يتعين أن يكون المراد بكافر هو الحربي ، وإلا يلزم أن لا يقتل الذمي أيضا مع أن خلافه مجمع عليه

والعجب أن كون مقصود المصنف من قوله : والعطف للمغايرة ما ذكرناه مع وضوحه في نفسه يرشد إليه جدا تقرير صاحب الكافي وبعض الشراح المتقدمين فكيف لم يطلع عليه ذلك الشارح




الخدمات العلمية