الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ النهي عن الشيء إن كان له أضداد ] أما النهي عن الشيء فأمر بضده إن كان له ضد واحد بالاتفاق كالنهي عن الحركة يكون أمرا بالسكون ، وإن كان له أضداد ، فاختلفوا فيه ، فقيل : نفس الأمر بضده كما في جانب الأمر قاله القاضي ، ثم مال آخرا إلى أنه يتضمنه ، وقيل : بل ذلك في جانب الأمر لا النهي ، فلا يجري الخلاف . وقال إمام الحرمين في البرهان " : الذي ذهب إليه جماهير الأصحاب أن النهي عن الشيء أمر بأحد أضداد المنهي عنه ، والأمر بالشيء نهي عن جميع أضداد المأمور به ، وجرى عليه القاضي عبد الوهاب في الملخص " وابن السمعاني في القواطع " وسليم الرازي في التقريب " فقالوا : إن كال له ضد واحد فهو أمر بذلك الضد أي : تضمنا ، كما قاله [ ص: 360 ] سليم كالصوم في العيدين ، وكقوله : لا تكفر فإنه أمر بالإيمان .

                                                      وإن كان له أضداد كثيرة فهو أمر بضد واحد ; لأنه لا يتوصل إلى ترك المنهي عنه إلا به ، فأما إثبات الأمر بسائر الأضداد فلا معنى له ، وحكاه ابن برهان في الأوسط " عن العلماء قاطبة . وقال صاحب اللباب " من الحنفية : النهي يقتضي الأمر بضده إن كان ذا ضد واحد ، فإن كان له أضداد ، فقال أبو عبد الله الجرجاني : لا يقتضي أمرا بها . وقال الشافعي : يقتضي أمرا بالواحد ، وهو قول عامة أصحابنا . انتهى .

                                                      وحكى إمام الحرمين قولا ثالثا : أنه ليس بأمر بشيء مطلقا ، وشنع على من قال بأن النهي عن ذي أضداد أمر بأحد أضداده ، فقال : من قال : إن النهي عن الشيء أمر بأحد أضداده فقد اقتحم أمرا عظيما ، وباح بالتزام مذهب الكعبي في نفي الإباحة ، فإنه إنما صار إلى ذلك من حيث قال : الأمر بالشيء نهي عن الأضداد ، ويتضمن لذلك من حيث تفطن لغائلة المعنى فقد ناقض كلامه فإنه كما يستحيل الإقدام على المأمور به دون الانكفاف عن أضداده فيستحيل الانكفاف عن المنهي [ عنه ] دون الاتصاف بأحد أضداده . والتحقيق في هذه المسألة : ما أشار إليه ابن القشيري أن هاهنا شيئين : أحدهما : كون الأمر بالشيء هل هو نهي عن ضده أم لا ؟ الثاني : المأمور بشيء منهي عن جميع أضداده ، وأن الآمر به ناه عن جميع الأضداد .

                                                      [ ص: 361 ] فأما الثاني فقد نقل القاضي فيه الإجماع ، وقال أبو نصر بن القشيري : أنا لا أشك أن هذا ممنوع ، ثم ذكر أن القاضي قال : إن منع ذلك مانع قيل له : هذا خرق ما عليه الكافة مع أنا نلجئه إلى ما قيل له به ، فنقول : إذا ورد الأمر على الجزم بشيء وهو مقيد بالفور وانتفى عنه سمة التخيير ، فتحريم ضد الامتثال لا شك فيه ; إذ لو لم يحرم فما معنى وجوب الامتثال ؟ انتهى . وأما الأول فلا سبيل إلى القول به مع تجويز عدم خطوره بالبال ، وعلى تقدير الخطور فليس الضد مقصودا بالذات ، وإنما هو ضروري دعا إليه تحقق المأمور به ، وليس كل ضروري للشيء يقال له : إنه مدلوله أو يتضمنه . قال : وهذا التحقيق تحرير في أن الآمر بالشيء ليس ناهيا عن أضداده ; لأن الأمر للقيام طالب له ، وقد يخطر له ضده ، فكيف يطلب ؟ واعلم أنهم اتفقوا على أن عين الأمر لا يكون نهيا عن ضد المأمور به ، وكذا النهي عن الشيء لا يكون أمرا بضد المنهي عنه ، لكنهم اختلفوا في أن كل واحد منهما هل يوجب حكما في ضد ما أضيف إليه ؟ فذهب أبو هاشم وغيره من متأخري المعتزلة إلى أنه لا حكم له في ضده أصلا بل هو مسكوت عنه ، وإليه ذهب إمام الحرمين والغزالي ، وذهب بعض المعتزلة كعبد الجبار وأبي الحسين إلى أن الأمر يوجب حرمة ضده ، وذهب جماعة من محققي الحنفية إلى أنه يدل على كراهة ضده . وفائدة الخلاف : أن من قال : لا يقتضي تحريم الضد ، قال : إذا أدى الاشتغال به إلى فوات المأمور به حرم ; لأن تفويت المأمور به حرام ، فلما نهى المحرم عن لبس المخيط دل على أن من السنة لبس الإزار والرداء .

                                                      [ ص: 362 ] تنبيهات الأول أطلقوا الأمر ، وهو يشمل الواجب والمندوب ، وبه صرح القاضي في مختصر التقريب " وجعلها نهيا عن الضد تحريما وتنزيها ، ونقل تخصيصه بالواجب عن بعض أهل الحق ، وهو الذي حكاه القاضي عبد الوهاب في الملخص " عن الشيخ ، فقال : ذهب الشيخ إلى أن الأمر بالشيء نهي عن ضده إن كان له ضد واحد ، وأضداده إن كان ذا أضداد . وحكى القاضي أنه - يعني الشيخ - شرط في ذلك أن يكون واجبا لا ندبا . قال : وقد حكي عن الشيخ أنه قال في بعض كتبه : إن الندب حسن وليس مأمورا به ، وعلى هذا القول لا يحتاج إلى اشتراط الوجوب في الأمر ; إذ هو حينئذ لا يكون إلا واجبا ، ثم قال القاضي : والصحيح عندي أن الأمر بالشيء نهي عن ضده من وجوب وندب . قال : ولا بد أن يشترط الشيخ في ذلك شرطين : أحدهما : أن يكون مع وجوبه مضيقا ، مستحق العين لأجل أن الواجب الموسع ليس بنهي عن ضده .

                                                      والثاني : أن يكون نهيا عن ضده ، وضد البدل منه الذي هو بدل لا ما إذا كان أمر على غير وجه التخيير . انتهى . وهذا الشرط الثاني قد سبق تصوير المسألة به ، وقد ذكرهما الشيخ أبو حامد الإسفراييني في كتابه ، فقال : إذا كان شيء واحد مضيق معين لا بدل له ، وذكره ابن القشيري أيضا ، فقال : هذا في الأمر بالشيء على التنصيص لا على التخيير ، فإن الأمر على التخيير قد يتعلق بالشيء وضده ، فيكون الواجب أحدهما لا بعينه .

                                                      [ ص: 363 ] وذكر عبد القاهر البغدادي أن الأمر بالشيء إنما يكون عن ضده إذا كان المأمور به مضيق الوجوب بلا بدل ولا تخيير ، كالصوم ، فأما إذا لم يكن كذلك فلا يكون نهيا عن ضده ، كالكفارات واحدة منها واجبة مأمور بها غير منهي عن تركها ، لجواز ردها إلى غيرها ، كما في الأمر . وقد احترز القاضي عن هذا فقال : الأمر بالشيء نهي عن أضداد المأمور به وبدله القائم مقامه إن كان له بدل ، فيخرج بذلك الأمر المشتمل على التخيير . انتهى . وذكر صاحب القواطع " أن المسألة مصورة بما إذا كان الأمر يوجب تحصيل المأمور به على الفور فلا بد من ترك ضده عقب الأمر كما لا بد من فعله عقب الأمر ، فأما إذا كان الأمر على التراخي فلا ، وهكذا ذكره بعض الحنفية كشمس الأئمة وغيره أنه إنما يقتضي النهي عن ضده إذا اقتضى التحصيل على الفور .

                                                      وأما الأول فاستشكل وجهه الموسع إن لم يصدق عليه أنه واجب فأين الأمر حتى يستثنى منه قولهم : الأمر بالشيء نهي عن ضده ؟ وإن صدق عليه واجب بمعنى أنه لا يجوز إخلاء الوقت عنه فضده الذي يلزم من فعله ، تفويته منهي عنه . وحاصله : أنه إن صدق الأمر عليه انقدح كونه نهيا عن ضده وإلا فلا وجه لاستثنائه كما قلنا في المخير . الثاني : ذكر بعضهم أن الخلاف إنما هو في الضد الذي هو الأمر الوجودي الذي هو من لوازم نقيض الشيء المأمور به ، فالأمر بالحركة هل هو نهي عن نفس السكون الذي هو ضد أم لا ؟ هذا هو موضع الخلاف أما النقيض فلا خلاف أن الأمر بالشيء هو عين النهي عن نقيضه ، فإن الحركة نقيض اللا حركة فاللا حركة نقيض ، وليس بضد بل ضد الحركة هو [ ص: 364 ] السكون وهذا أمر وجودي إلا أنه لازم مساو لنقيض الحركة ، فإذا وجد الأمر بالحركة فهذا بعينه نهي عن نقيضها ; لأن النهي عن نقيضها هو سلب لسلبها ، وهو في نفسه عبارة عن سلب الحركة وسلب سلب الحركة هو نفس الحركة ; لأن سلب السلب إثبات ، وطلب سلب الحركة هو طلب سلب نفس الحركة فيكون الأمر بالحركة هو بعينه نهيا عن نقيضها ، وهو سلب الحركة . الثالث : ذكر بعضهم أن موضع الخلاف إذا لم يقصد " الضد " بالنهي فإن قصد كقوله تعالى : { فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن } فإن الضد مثل هذه الصورة حرام بلا خلاف .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية