الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            وعن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله ، وماله زاد أبو مسلم الكشي " وهو قاعد " وعن سالم عن أبيه مثل حديث نافع .

                                                            التالي السابق


                                                            (الحديث السادس) وعن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله ، وماله زاد أبو مسلم الكشي " وهو قاعدة " وعن سالم عن أبيه مثل حديث نافع . فيه فوائد :

                                                            (الأولى) قوله فكأنما وتر أهله ، وماله يروى بنصب اللامين ورفعهما ، والنصب هو الصحيح والمشهور الذي عليه الجمهور كما قال [ ص: 178 ] النووي .

                                                            وقال القاضي عياض : وهو الذي ضبطناه عن جماعة شيوخنا ووجهه أنه مفعول ثان أي وتر هو أهله وماله وقيل إنه منصوب على نزع الخافض أي وتر في أهله وماله فلما حذف الخافض انتصب قال القاضي عياض والنووي ومن رفع فعلى ما لم يسم فاعله وفيما قالاه نظر إذ الفعل لم يسم فاعله ، وهو مبني للمفعول على كل حال فرواية النصب على أن التارك هو المنقوص فأقام ضميره مقام الفاعل فانتصب أهله ، وماله ؛ لأنه مفعول ثان ورواية الرفع على أن أهله ، وماله هم المنقوصون فأقامه مقام الفاعل فرفعه وقال القاضي أبو بكر بن العربي : إن رفعت فعلى البدل من الضمير في وتر أهله .

                                                            فأما على رواية النصب فاختلفوا في معناه فقال الخطابي وغيره معناه نقص هو أهله ، وماله وسلبهم فبقي وترا فردا بلا أهل ولا مال فليحذر من تفويتها كحذره من ذهاب أهله وماله جزم به الخطابي في المعالم وقال في أعلام الجامع الصحيح وتر أي نقص ومنه قوله تعالى ولن يتركم أعمالكم وقيل سلب أهله ، وماله فبقي وترا لا أهل له ولا مال ا هـ . فجعلهما قولين وغاير بين تفسيره بنقص وتفسيره بسلب ، وهذا يخالف ما حكيته عنه أولا ، وكذا غاير بينهما غيره .

                                                            قال ابن بطال قال صاحب العين الوتر ، والترة الظلم في الدم يقال منه وتر الرجل وترا وترة فمعنى وتر أهله ، وماله سلب ذلك وحرمه فهو أشد لغمه وحزنه ؛ لأنه لو مات أهله وذهب ماله من غير سلب لم تكن مصيبته في ذلك عنده بمنزلة السلب ؛ لأنه يجتمع عليه في ذلك غمان غم ذهابهم وغم الطلب بوترهم ، وإنما مثله صلى الله عليه وسلم فيما يفوته من عظيم الثواب ، ثم قال : وقد يحتمل أن يكون عنى بقوله فكأنما وتر أهله ، وماله أي نقص ذلك وأفرد منه من قوله عز وجل ولن يتركم أعمالكم أي لن ينقصكم ، والقول الأول أشبه بمعنى الحديث ا هـ .

                                                            وقال ابن عبد البر : معناه عند أهل اللغة ، والفقه أنه كالذي يصاب بأهله ، وماله إصابة يطلب بها وترا ، والوتر الجناية التي يطلب ثأرها فيجتمع عليه غمان غم المصيبة وغم مقاساة طلب الثأر ، وقال الداودي من المالكية معناه يتوجه عليه من الاسترجاع ما يتوجه على من فقد أهله ، وماله فيتوجه عليه الندم ، والأسف بتفويته الصلاة وقيل معناه فاته من الثواب ما يلحقه من الأسف عليه كما يلحق من ذهب أهله ، وماله وقال الباجي يحتمل أن [ ص: 179 ] يريد وتر دون ثواب يدخر له فيكون ما فات من ثواب الصلاة كما فات هذا الموتور ا هـ .

                                                            وأما رواية الرفع فمعناه انتزع منه أهله ، وماله ، وهذا تفسير مالك بن أنس رحمه الله (قلت) يحتمل أن يقال إنما خص الأهل ، والمال بالذكر ؛ لأن الاشتغال في وقت العصر إنما هو بالسعي على الأهل ، والشغل بالمال فذكر عليه الصلاة والسلام أن تفويت هذه الصلاة نازل منزلة فقد الأهل ، والمال فلا معنى لتفويتها بالاشتغال بهما مع كون تفويتها كفواتهما أصلا ورأسا والله أعلم .

                                                            (الثانية) فيه التغليظ في فوات صلاة العصر وهل يلحق بها غيرها من الصلوات في ذلك قال ابن عبد البر يحتمل أن هذا الحديث خرج جوابا لسؤال فيلحق بالعصر باقي الصلوات ويكون نبه بالعصر على غيرها قال النووي : وفيما قاله نظر ؛ لأن الشرع ورد في العصر ولم تتحقق العلة في هذا الحكم فلا يلحق بها غيرها بالشك ، والتوهم وإنما يلحق غير المنصوص بالمنصوص إذا عرفنا العلة واشتركا فيها انتهى .

                                                            ويؤيد ما ذكره ابن عبد البر ما رواه الشافعي وابن حبان في صحيحه ، والبيهقي في سننه عن نوفل بن معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من فاتته الصلاة فكأنما أتر أهله ، وماله لفظ ابن حبان .

                                                            وقال الشافعي ، والبيهقي : وتر وفي مصنف ابن أبي شيبة عن أبي قلابة عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله : صلى الله عليه وسلم من ترك صلاة مكتوبة حتى تفوته من غير عذر فقد حبط عمله .

                                                            وفي فوائد تمام من حديث مكحول عن أنس مرفوعا من فاتته صلاة المغرب فكأنما وتر أهله ، وماله ، وهذا يدل على أن سائر الصلوات في ذلك سواء ويحتمل أن يكون المراد بالصلاة في حديث نوفل صلاة العصر ويؤيده أن في سنن البيهقي عن الزهري أنه قال بعد رواية حديث نوفل أتدري أية صلاة هي ، ثم ذكر حديث ابن عمر مستدلا به على أن الصلاة هنا هي العصر ويوافقه ما ذكره أهل التفسير في قوله تعالى تحبسونهما من بعد الصلاة أن المراد صلاة العصر وقال بعضهم خصت العصر بالذكر ؛ لأنها تأتي في وقت تعب الناس من مقاساة أعمالهم وحرصهم على قضاء أشغالهم وتسويفهم بها إلى انقضاء وظائفهم وقال بعضهم خصت بذلك ؛ لأنها مشهودة الملائكة عند تعاقبهم ، وهذا مشترك بينهما وبين الصبح إذ الملائكة [ ص: 180 ] يتعاقبون فيها أيضا قال صاحب المفهم ويحتمل أن يقال إنما خصت بذلك ؛ لأنها الصلاة الوسطى .



                                                            (الثالثة) اختلف في المراد بفوات العصر في هذا الحديث فقال ابن وهب وغيره هو فيمن لم يصلها في وقتها المختار وقال سحنون ، والأصيلي وابن عبد البر هو أن تفوته بغروب الشمس وقيل هو تفويتها إلى أن تصفر الشمس ، وقد ورد مفسرا من رواية الأوزاعي في هذا الحديث قال فيه وفواتها أن تدخل الشمس صفرة .

                                                            (قلت) كذا ذكر القاضي عياض وتبعه النووي وظاهر إيراد أبي داود في سننه أن هذا من كلام الأوزاعي قاله من عند نفسه لا أنه من الحديث ، فإنه روي بإسناد منفرد عن الحديث عن الأوزاعي أنه قال : وذلك أن ترى ما على الأرض من الشمس صفراء وفي العلل لابن أبي حاتم سألت أبي عن حديث رواه الوليد عن الأوزاعي عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله : صلى الله عليه وسلم من فاتته صلاة العصر وفواتها أن تدخل الشمس صفرة فكأنما وتر أهله ، وماله قال أبي التفسير من قول نافع انتهى .

                                                            وكلام القاضي أبي بكر بن العربي يقتضي أنه من كلام ابن عمر ، فإنه قال : وقد اختلف عن ابن عمر فيه فروى الوليد عن الأوزاعي عن نافع عن ابن عمر من فاتته صلاة العصر وفواتها أن تدخل الشمس صفرة وابن جريج يروي عنه أن فوتها غروب الشمس انتهى .

                                                            وكيفما كان فليس هذا الكلام مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلا حجة فيه .

                                                            وقال ابن عبد البر في هذا القول : إنه ليس بشيء ، وقال ابن بطال إنما أراد فواتها في الجماعة لا فواتها باصفرار الشمس أو مغيبها لما يفوته من صلاتها في الجماعة من حضور الملائكة فيها فصار ما يفوته من هذا المشهد العظيم الذي يجتمع فيه ملائكة الليل وملائكة النهار أعظم من ذهاب أهله ، وماله فكأنه قال الذي يفوته هذا المشهد الذي أوجب البركة للعصر كأنما وتر أهله ، وماله ، ولو كان المراد فوات وقتها كله باصفرار أو غيبوبة لبطل الاختصاص ؛ لأن ذهاب الوقت كله موجود في كل صلاة ، بهذا المعنى فسره ابن وهب وابن نافع .

                                                            وذكره ابن حبيب عن مالك وابن سحنون عن أبيه قال ابن حبيب : وهو مثل حديث يحيى بن سعيد إن الرجل ليصلي الصلاة ، وما فاتته ولما فاته من وقتها أكثر من أهله ، وماله يريد إن الرجل ليصلي الصلاة في الوقت المفضول ولما فاته من [ ص: 181 ] وقتها الفاضل الذي مضى عليه اختيار النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وكتب به عمر إلى عماله أفضل من أهله وماله وليس في الإسلام حديث يقوم مقام هذا الحديث ؛ لأن الله تعالى قال حافظوا على الصلوات ولا يوجد حديث فيه تكييف المحافظة غيره انتهى .

                                                            وروى ابن أبي شيبة في مصنفه عن هشيم عن حجاج عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله : صلى الله عليه وسلم من ترك العصر حتى تغيب الشمس من غير عذر فكأنما وتر أهله ، وماله (الرابعة) حكي عن سالم بن عبد الله بن عمر أن هذا فيمن فاتته ناسيا ويوافقه تبويب الترمذي عليه باب ما جاء في السهو عن وقت صلاة العصر .

                                                            وقال الداودي وابن عبد البر وابن العربي وغيرهم : هو في المتعمد قال النووي : وهذا هو الأظهر ويؤيده حديث البخاري في صحيحه من ترك صلاة العصر حبط عمله ، وهذا إنما يكون في العامد انتهى .

                                                            ويوافقه تبويب البخاري عليه باب إثم من فاته العصر ومن المعلوم أن الإثم إنما يكون مع العمد قال ابن العربي ، والدليل على أنه في الذاكر أن الساهي غير مؤاخذ ولا مفوت بل يثبت له أمر الذاكر متى فعل عند الذكر لقوله عليه الصلاة والسلام : ليس في السهو تفريط ، وإنما التفريط في الذكر .

                                                            (قلت) : لم أقف على هذا الحديث بهذا اللفظ والذي وقفت عليه ليس التفريط في النوم إنما التفريط في اليقظة أن يؤخر الرجل الصلاة إلى أن يدخل وقت صلاة أخرى وتقدم من مصنف ابن أبي شيبة حديث أبي الدرداء من ترك صلاة مكتوبة حتى تفوته من غير عذر فقد حبط عمله وحديث ابن عمر من ترك العصر حتى تغيب الشمس من غير عذر فكأنما وتر أهله ، وماله .



                                                            (الخامسة) استدل به على أن الصلاة الوسطى صلاة العصر وروى السراج في مسنده هذا الحديث من طريق معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه وفي آخره يقول سالم فكان ابن عمر يرى لصلاة العصر فضيلة للذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ويرى أنها الوسطى ، وقد تقدم إيضاح المسألة في الحديث الذي قبله .

                                                            (السادسة) وجه إيراد المصنف رحمه الله لهذا الحديث في المواقيت ما دل عليه من تأكيد أمر الوقت بكونه حض على إيقاعها في وقتها وتوعد على ترك ذلك .

                                                            (السابعة) هذه الزيادة التي نقلها المصنف رحمه الله عن أبي مسلم الكشي [ ص: 182 ] رواها من طريق حماد بن سلمة عن أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله ، وماله ، وهو قاعد وكأن معنى هذه الزيادة أنه وتر هذا الوتر ، وهو قاعد غير مقاتل عنهم ولا ذاب ، وهذا أبلغ في الغم ؛ لأنه لو كان ذب عنهم وقاتل ومع ذلك غلب كان أسلى له وأدفع للغم عنه بخلاف ما إذا ترك المقاتلة عنهم إما للعجز عن ذلك أو مع القدرة عليه ، ويحتمل أن يكون معنى قوله وهو قاعد أي مشاهد لتلك المصيبة غير غائب عنها فهو أشد لتحسره وأبلغ في غمه والله أعلم .




                                                            الخدمات العلمية