الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون

                                                          * * *

                                                          هذا متصل بالأمر بالعدالة مع الأعداء كالعدل مع الأولياء، ففي هذا النص أمر بالتذكير بحال ضعفهم عندما كانوا يلتمسون العدالة، ليعتبروا بماضيهم، ويتخذوا منه عبرة لحاضرهم، فيتذكروا حال الضعف في حال القوة، ليعلموا نعمة الله تعالى عليهم، ولكي يعدلوا مع غيرهم كما كانوا يلتمسون العدل إذ كانوا مظلومين يتخطفهم الناس، وينزل بهم البأس، فالآية تدعو إلى التذكير بنعمة الله ليشكروها، ولكيلا يشتطوا مع غيرهم، وبسط اليد معناه بالقوة والأخذ والسيطرة والصولة، وقد قال تعالى: ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء [الممتحنة]، فالبسط هنا بسط للصولة والقوة، والسيطرة، ومعنى النص الكريم: يا أيها الذين أذعنوا للحق واستمسكوا به، واستجابوا لأمر ربهم تذكروا نعمة الله التي أنعمها عليكم إذ هم قوم أن يمتدوا بيد الأذى ويبسطوها، فكفها عنكم وبدلكم من بعد الضعف قوة، [ ص: 2066 ] ومن بعد الذلة عزة، ومن بعد أن كنتم تظلمون، وترامون بالسوء، صرتم يطلب الإنصاف منكم.

                                                          وقد أكد سبحانه وتعالى أنه هو سبحانه الذي رد الأذى وتدبير الشر، فقال مكررا كلمة الأيدي فكف أيديهم عنكم وفي ذلك إشارة إلى أنه سبحانه هو الذي قضى على موضع قوة أعدائهم، ومناط شدتهم، وهي الأيدي التي يكون بها البطش والصولة.

                                                          ولقد تكلم مفسرو الأثر وغيرهم في سبب نزول هذه الآية، وخصصوا، واللفظ عام، فقالوا: إن يد البطش والغدر كان قد هم بها ناس للاعتداء على شخص النبي -صلى الله عليه وسلم-، والاعتداء عليه اعتداء على المسلمين، وكف الاعتداء عنه نعمة على كل المسلمين، وقالوا في ذلك روايات مختلفة تنتهي إلى خبرين:

                                                          أولهما: أنه روي من حديث جابر وغيره أن رجلا من بني محارب قام على رأس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في وقت الراحة ومعه السيف، وقال للرسول من يمنعك؟ قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "الله" فوقع السيف من يده، فأخذه النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: "من يمنعك مني"، فقال الرجل: كن خير آخذ. قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله" قال: "أعاهدك ألا أقاتلك، ولا أكون مع من يقاتلونك، فخلى سبيله، فجاء إلى قومه، وقال: جئتكم من عند خير الناس".

                                                          ثانيهما: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذهب إلى بني النضير ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير ، يطلبون منهم الإعانة على دية رجلين قتلا، وكان للنبي -صلى الله عليه وسلم- عقد مع بني النضير عهدا على ألا يحاربوه، وأن يعينوه على الديات، فلما طالبهم بحكم هذا العهد أظهروا القبول، وأخفوا الغدر، فقالوا: نعم يا أبا القاسم قد آن لك أن تأتينا وتسألنا حاجة اجلس حتى نطعمك، ونعطيك الذي سألتنا، [ ص: 2067 ] فجلس بجانب جدار لهم، وقال لهم حيي بن أخطب: لا ترونه أقرب منه الآن; اطرحوا عليه حجارة فاقتلوه، فهموا أن يطرحوا عليه صخرة، وقد أعلم النبي -صلى الله عليه وسلم- بنية الغدر، إذ أعلمه جبريل، فانصرف قبل أن ينفذوا ما دبروا .

                                                          هاتان روايتان في أسباب النزول، ويكون القوم هم الذين دبروا قتل النبي -صلى الله عليه وسلم- فرادى وجماعات، ويكون كف أيديهم نعمة عظيمة على أهل الإيمان.

                                                          والذي نراه هو تذكير المؤمنين بما هم به الأقوام من الاعتداء على النبي -صلى الله عليه وسلم- في هاتين الواقعتين، ومن قبلهما بتدبير قتله يوم الهجرة النبوية، ومن الاعتداء على المؤمنين في غزوة أحد، ومن تضافر العرب في الجزيرة العربية على الذهاب إلى المدينة قصبة الإسلام، واقتلاعها في غزوة الأحزاب، وقد كف الله سبحانه وتعالى في كل هذا تلك الأيدي المبسوطة بالشر، فلا تخصيص في النص، بل يترك على عمومه.

                                                          واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون بعد التذكير بهذه النعمة التي جعلت للمؤمنين كيانا مستقلا عزيزا كريما ينتصف من الظالمين، ولا يظلم أحدا أمر الله سبحانه وتعالى بالتقوى، وتقوى الله تعالى هي: الشعور بعظمته، والإحساس بجلاله، وامتلاء القلب به، واطمئنانه إليه، ورجاء ثوابه، وخشية عذابه، وعبادته كأنه يراه كما ورد في الأثر: "اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك".

                                                          هذه كلمات تقرب معنى تقوى الله تعالى، وهي تتضمن ذكر النعمة، وتتضمن شكرها، وهي في الشكر نص، ولا يكون الشكر من غير تذكر.

                                                          وقد ختم الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله تعالت كلماته: وعلى الله فليتوكل المؤمنون وفي هذا طلب الله تعالى من عباده المؤمنين أن يتوكلوا عليه، [ ص: 2068 ] ولا يتوكلوا على سواه، وقد صيغ الطلب في صيغة الخبر، للإشارة إلى أنه حال ملازمة للمؤمنين لا ينفصلون عنها; لأن من تقوى القلوب ألا يعتمدوا إلا على علام الغيوب، فالتوكل على الله وحده في السراء والضراء، في الشدة وفي الضعف من لب عبادته سبحانه وتعالى.

                                                          والتوكل على الله ليس هو التواكل وترك العمل، بل هو الأخذ في الأسباب، ثم الاعتماد في الوصول إلى النتائج على الله تعالى وحده، فإن الأسباب لا تنتج وحدها، ولكن لا بد من فضل الله تعالى بالتوفيق، ولطف التقدير.

                                                          وفي الجملة الكريمة: وعلى الله فليتوكل المؤمنون إشارات بيانية واضحة منها ذكر لفظ الجلالة، فإنه يشير إلى عظمة من يعتمد عليه إذ يعتمد على منشئ الوجود ومسيره ومبدعه، وفيها لفظ (على) فإنه يشير إلى علو من يعتمد على الله وسموه، وعدم ذلته لمخلوق، ومنها تقديم الجار وما بعده، فإنه يشير إلى الاقتصار في التوكل على الله، فلا يتوكل على غيره; لأن ذلك لا يخلو من شرك; ولأن التوكل من العبادة، والعبادة لله وحده، ومنها لفظ الفاء التي ربطت الكلام، ولا تخلو من معنى السببية، فإنها تدل على أن من ثمرات التقوى التوكل على الله تعالى.

                                                          هذا ونكرر أن التوكل على الله تعالى حق التوكل يوجب العمل ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير [الممتحنة].

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية