الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 287 ] قالوا : لا قياس في الأصول ، فكذا في الفروع .

                قلنا : ممنوع بل في كل منهما قياس بحسب مطلوبه قطعا في الأول وظنا في الثاني ، ثم هو قياس ، فإن صح صح مطلقه ، وثبت القياس ، وإلا بطل ما ذكرتم .

                واعلم : أنه قد صح في ذم القياس والرأي والحث عليهما أحاديث كثيرة صحيحة صريحة ، وطريق الجمع بينهما حمل الذامة على حال وجود النص والحاثة على حال عدمه .

                التالي السابق


                الحجة السابعة : " قالوا : لا قياس " ، أي : القياس ممتنع " في الأصول " ، فليكن ممتنعا " في الفروع " .

                والجواب : أن هذا " ممنوع ، بل في كل منهما " ، أي : في كل واحد من أصول الدين وفروعه " قياس بحسب مطلوبه قطعا في الأول " يعني في الأصول " وظنا في الثاني " يعني في الفروع ؛ لأن المطلوب في الأصول القطع وفي الفروع الظن ، فيعتبر أن يكون القياس في الأصول قطعيا ، ويكفي أن يكون في الفروع ظنيا ، ثم إن هذا قياس منهم لامتناع القياس في الفروع على امتناعه في الأصول على زعمهم ، فإن صح استدلالهم بالقياس هاهنا وجب أن يصح مطلق القياس في سائر الأحكام ، وإن لم يصح قياسهم هاهنا ، بطل ما ذكروه من الاستدلال على إبطال القياس .



                " واعلم أنه قد صح في ذم القياس والرأي والحث عليهما " ، أي : استعمال [ ص: 288 ] القياس والرأي ، " أحاديث كثيرة صحيحة صريحة ، وطريق الجمع بينهما " أي : بين قسمي أحاديث ذم القياس والحث عليه " حمل الذامة " ، أي : هو أن تحمل الأحاديث الدالة على ذم القياس على ما إذا كان هناك نص ، وتحمل الأحاديث الدالة على الحث عليه على ما إذا لم يكن هناك نص ، احترازا من تناقض الدليل الشرعي ، ويشبه هذا ما ورد في السنة من مدح الشاهد قبل أن يستشهد وذمه ، فحمل الذم على ما إذا كان صاحب الحق يعلم به ، ويعلم أن له به بينة ، إذ في المبادرة بالشهادة - والحالة هذه - نوع تكلف وفضول ، وربما اتهم الشاهد على المشهود عليه ، كما حكي أن رجلا حضر ليشهد عند الحاكم بحق ، فقال له الحاكم : أتشهد بهذا الحق ؟ قال : نعم ، وأحلف ، وأخاصم ، قال : فمن هاهنا ما تقبل شهادتك .

                وهذه الأحاديث التي أشرت إليها هي في كتاب " أدب الفقيه والمتفقه " للخطيب البغدادي - رحمه الله تعالى - ذكرها بأسانيدها من الطرفين ، وهي وافية بالمقصود من إثبات القياس وفوق المقصود ، ولم يكن الكتاب عندي الآن حتى أثبتها هاهنا ، وأيضا آثرت الاختصار .

                والفرق بين الرأي والقياس أن الرأي أعم من القياس ، والرأي على ضربين : رأي محض لا يستند إلى دليل ، فذلك المذموم الذي لا يعول عليه ، ورأي يستند إلى النظر في أدلة الشرع من النص ، والإجماع ، والاستدلال ، والاستحسان وغيره مما ذكرناه من الأدلة المتفق عليها أو المختلف فيها . ولهذا يقال : هذا رأي أبي حنيفة ، والشافعي ، وأحمد عن كل [ ص: 289 ] حكم صار إليه أحدهم ، سواء كان مستنده فيه القياس أو دليل غيره ، والقياس هو ما ذكرنا حده ، وهو اعتبار غير المنصوص عليه بالمنصوص عليه ، وهو أخص من الرأي كما أن الاستحسان أخص من القياس .

                واعلم أن أصحاب الرأي بحسب الإضافة هم كل من تصرف في الأحكام بالرأي ، فيتناول جميع علماء الإسلام ؛ لأن كل واحد من المجتهدين لا يستغني في اجتهاده عن نظر ورأي ، ولو بتحقيق المناط وتنقيحه الذي لا نزاع في صحته .

                وأما بحسب العلمية ، فهو في عرف السلف علم على أهل العراق ، وهم أهل الكوفة ، أبو حنيفة ومن تابعه منهم ، وإنما سمي هؤلاء أهل الرأي ، لأنهم تركوا كثيرا من الأحاديث إلى الرأي والقياس ; إما لعدم بلوغهم إياه ، أو لكونه على خلاف الكتاب ، أو لكونه رواية غير فقيه ، أو قد أنكره راوي الأصل ، أو لكونه خبر واحد فيما تعم به البلوى ، أو لكونه واردا في الحدود والكفارات على أصلهم في ذلك ، وبمقتضى هذه القواعد لزمهم ترك العمل بأحاديث كثيرة حتى خرج أحمد - رحمه الله تعالى - فيما ذكره الخلال في " جامعه " نحو مائة أو خمسمائة حديث صحاح خالفها أبو حنيفة ، وبالغ بعضهم في التشنيع عليه حتى صنف كتابا في الخلاف بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي حنيفة ، وكثر عليه الطعن من أئمة السلف حتى بلغوا فيه مبلغا ولا تطيب النفس بذكره ، وأبى الله إلا عصمته مما قالوه ، وتنزيهه عما إليه نسبوه .

                [ ص: 290 ] وجملة القول فيه : أنه قطعا لم يخالف السنة عنادا ، وإنما خالف فيما خالف منها اجتهادا لحجج واضحة ، ودلائل صالحة لائحة ، وحججه بين الناس موجودة ، وقل أن ينتصف منها مخالفوه ، وله بتقدير الخطأ أجر ، وبتقدير الإصابة أجران ، والطاعنون عليه إما حساد ، أو جاهلون بمواقع الاجتهاد ، وآخر ما صح عن الإمام أحمد - رضي الله عنه - إحسان القول فيه ، والثناء عليه . ذكره أبو الورد من أصحابنا في كتاب " أصول الدين " والله - سبحانه وتعالى - أعلم بالصواب .




                الخدمات العلمية