الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        فصل

                        فأما إن التزم أحد ذلك التزاما ؛ فعلى وجهين :

                        إما على جهة النذر ، وذلك مكروه ابتداء :

                        ألا ترى إلى حديث ابن عمر رضي الله عنهما ؛ قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما ينهانا عن النذر ؛ يقول : " إنه لا يرد شيئا ، وإنما يستخرج به من الشحيح .

                        وفي رواية : النذر لا يقدم شيئا ولا يؤخره ، وإنما يستخرج به من البخيل .

                        وعن أبي هريرة رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تنذروا ؛ فإن النذر لا يغني من القدر شيئا ، وإنما يستخرج به من البخيل .

                        وإنما ورد هذا الحديث ـ والله أعلم ـ تنبيها على عادة العرب في أنها كانت تنذر : إن شفى الله مريضي ؛ فعلي صوم كذا ، وإن قدم غائبي ، أو إن أغناني الله ؛ فعلي صدقة كذا ، فيقول : لا يغني من قدر الله شيئا ، بل من قدر الله له الصحة أو المرض أو الغنى أو الفقر أو غير ذلك ؛ فالنذر لم [ ص: 384 ] يوضع سببا لذلك ، كما وضعت صلة الرحم سببا في الزيادة في العمر مثلا على الوجه الذي ذكره العلماء ، بل النذر وعدمه في ذلك سواء ، ولكن الله يستخرج به من البخيل ؛ بشرعية الوفاء به ؛ لقوله تعالى : وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ، وقوله صلى الله عليه وسلم : من نذر أن يطيع الله فليطعه ، وبه قال جماعة من العلماء ؛ كمالك والشافعي .

                        ووجه النهي أنه من باب التشديد على النفس ، وهو الذي تقدم الاستشهاد على كراهته .

                        وإما على جهة الالتزام غير النذري ؛ فكأنه نوع من الوعد ، والوفاء بالعهد مطلوب ، فكأنه أوجب على نفسه ما لم يوجبه عليه الشرع ، فهو تشديد أيضا ، وعليه يأتي ما تقدم من ، حديث الثلاثة الذين أتوا يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم ، لقولهم : أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم . . . . إلخ ؟ ! ، وقال أحدهم : أما أنا فأفعل كذا . . . . إلخ .

                        ونحوه وقع في بعض الروايات : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يقول : لأقومن الليل ولأصومن النهار ما عشت ، وليس بمعنى النذر ، إذ لو كان كذلك ؛ لم يقل له : صم من الشهر ثلاثة أيام ، صم كذا ، ولقال له : أوف بنذرك ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال : من نذر أن يطيع الله فليطعه .

                        فأما الالتزام بالمعنى النذري ؛ فلا بد من الوفاء به وجوبا لا ندبا ، [ ص: 385 ] على ما قاله العلماء ، وجاء في الكتاب والسنة ما يدل عليه ، وهو مذكور في كتب الفقه ، فلا نطيل به .

                        وأما المعنى الثاني ؛ فالأدلة تقتضي الوفاء به في الجملة ، ولكن لا تبلغ مبلغ العتاب على الترك ـ حسبما دلت عليه الأدلة في مأخذ أبي أمامة رضي الله عنه للقيام في المسجد جماعة ـ ؛ كان ذلك بصورة النوافل الراتبة المقتضية للدوام في القصد الأول ، فأمرهم بالدوام حتى لا يكونوا كمن عاهد ثم لم يوف بعهده ، فيصير معاتبا ، لكن هذا القسم على وجهين :

                        الوجه الأول : أن يكون في نفسه مما لا يطاق ، أو مما فيه حرج أو مشقة فادحة ، أو يؤدي إلى تضييع ما هو أولى ؛ فهذه هي الرهبانية التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم : من رغب عن سنتي ؛ فليس مني ، وسيأتي الكلام في ذلك إن شاء الله .

                        والوجه الثاني : أن لا يكون في الدخول فيه مشقة ولا حرج ، ولكنه عند الدوام عليه تلحق بسببه المشقة والحرج ، أو تضييع ما هو آكد ، فهاهنا أيضا يقع النهي ابتداء ، وعليه دلت الأدلة المتقدمة .

                        وجاء في بعض روايات مسلم تفسير ذلك ، حيث قال : " فشددت فشدد علي " ، " وقال لي النبي صلى الله عليه وسلم : إنك لا تدري لعلك يطول بك عمر .

                        فتأملوا كيف اعتبر في التزام ما لا يلزم ابتداء أن يكون بحيث لا يشق [ ص: 386 ] الدوام عليه إلى الموت !

                        قال : " فصرت إلى الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما كبرت ؛ وددت أني قبلت رخصة نبي الله صلى الله عليه وسلم .

                        وعلى ذلك المعنى ينبغي أن يحمل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي قتادة رضي الله عنه : كيف بمن يصوم يومين ويفطر يوما ؟ قال : " ويطيق أحد ذلك ؟ ! " ، ثم قال في صوم يوم وإفطار يوم : " وددت أني طوقت ذلك " ، فمعناه ـ والله أعلم ـ وددت أني طوقت الدوام عليه ، وإلا ؛ فقد كان يواصل الصيام ويقول : إني لست كهيئتكم ، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني .

                        وفي الصحيح : كان يصوم حتى نقول : لا يفطر ، ويفطر حتى نقول : لا يصوم .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية