الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ ص: 131 ] الخامسة : الصحيح أقسام : أعلاها ما اتفق عليه البخاري ومسلم ، ثم ما انفرد به البخاري ، ثم مسلم ، ثم على شرطهما ، ثم على شرط البخاري ، ثم مسلم ، ثم صحيح عند غيرهما .

        التالي السابق


        ( الخامسة : الصحيح أقسام ) متفاوتة بحسب تمكنه من شروط الصحة ، وعدمه ( أعلاها : ما اتفق عليه البخاري ومسلم .

        ثم ما انفرد به البخاري ) ووجه تأخره عما اتفقا عليه اختلاف العلماء أيهما أرجح .

        ( ثم ) ما انفرد به ( مسلم .

        ثم ) صحيح ( على شرطهما ) ولم يخرجه واحد منهما ، ووجه تأخره عما اتفقا عليه اختلاف العلماء أيهما أرجح ، ثم ما انفرد به مسلم ثم صحيح على شرطهما ولم يخرجه واحد منهما ، ووجه تأخره عما أخرجه أحدهما تلقي الأمة بالقبول له .

        ( ثم ) صحيح ( على شرط البخاري .

        [ ص: 132 ] ثم ) صحيح على شرط ( مسلم .

        ثم صحيح عند غيرهما ) مستوفى فيه الشروط السابقة .





        [ تنبيهات ]

        الأول : أورد على هذا أقسام : أحدها : المتواتر ، وأجيب بأنه لا يعتبر فيه عدالة ، والكلام في الصحيح بالتعريف السابق .

        الثاني : المشهور ، قال شيخ الإسلام : وهو وارد قطعا : وأنا متوقف في رتبته ؛ هل هي قبل المتفق عليه أم بعده .

        الثالث : ما أخرجه الستة ، وأجيب بأن من لم يشترط الصحيح في كتابه لا يزيد تخريجه للحديث قوة .

        قال الزركشي : ويمنع بأن الفقهاء قد يرجحون بما لا مدخل له في ذلك الشيء كتقديم ابن العم الشقيق على ابن العم للأب ، وإن كان ابن العم للأم لا يرث ، قال العراقي : نعم ، ما اتفق الستة على توثيق رواته أولى بالصحة مما اختلفوا فيه وإن اتفق عليه الشيخان .

        الرابع : ما فقد شرطا كالاتصال عند من يعده صحيحا .

        الخامس : ما فقد تمام الضبط ونحوه مما ينزل إلى رتبة الحسن عند من يسميه صحيحا .

        [ ص: 133 ] قال شيخ الإسلام : وعلى ذلك يقال : ما أخرجه الستة إلا واحدا منهم ، وكذا ما أخرجه الأئمة الذين التزموا الصحة ، ونحو هذا إلى أن تنتشر الأقسام فتكثر حتى يعسر حصرها .



        [ التنبيه الثاني ]

        قد علم مما تقدم أن أصح من صنف في الصحيح ابن خزيمة ثم ابن حبان ثم الحاكم ، فينبغي أن يقال : أصحها بعد مسلم ما اتفق عليه الثلاثة ، ثم ابن خزيمة وابن حبان أو والحاكم ، ثم ابن حبان والحاكم .

        [ ثم ابن خزيمة فقط ] ، ثم ابن حبان فقط ، ثم الحاكم فقط ، إن لم يكن الحديث على شرط أحد الشيخين ، ولم أر من تعرض لذلك ، فليتأمل .



        [ التنبيه الثالث ]

        قد يعرض للمفوق ما يجعله فائقا ، كأن يتفقا على إخراج حديث غريب ، ويخرج مسلم أو غيره حديثا مشهورا ، أو مما وصفت ترجمته بكونها أصح الأسانيد ، ولا يقدح ذلك فيما تقدم ؛ لأن ذلك باعتبار الإجمال .

        قال الزركشي : ومن هنا يعلم أن ترجيح كتاب البخاري على مسلم إنما المراد به ترجيح الجملة ، لا كل فرد من أحاديثه على كل فرد من أحاديث الآخر .



        [ التنبيه الرابع ]

        فائدة التقسيم المذكور تظهر عند التعارض والترجيح .

        [ ص: 134 ] [ التنبيه الخامس ]

        في تحقيق شرط البخاري ومسلم ، قال ابن طاهر : شرط البخاري ومسلم أن يخرجا الحديث المجمع على ثقة رجاله إلى الصحابي المشهور .

        قال العراقي : وليس ما قاله بجيد ؛ لأن النسائي ضعف جماعة أخرج لهم الشيخان أو أحدهما ، وأجيب بأنهما أخرجا من أجمع على ثقته إلى حين تصنيفهما ، فلا يقدح في ذلك تضعيف النسائي بعد وجود الكتابين .

        وقال شيخ الإسلام : تضعيف النسائي إن كان باجتهاده أو نقله عن معاصر فالجواب ذلك ، وإن نقله عن متقدم فلا ، قال : ويمكن أن يجاب بأن ما قاله ابن طاهر هو الأصل الذي بنيا عليه أمرهما ، وقد يخرجان عنه لمرجح يقوم مقامه .

        وقال الحاكم في علوم الحديث : وصف الحديث الصحيح أن يرويه الصحابي المشهور بالرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم وله راويان ثقتان ، ثم يرويه من أتباع التابعين الحافظ المتقن المشهور بالرواية ، وله رواة ثقات .

        وقال في المدخل : الدرجة الأولى من الصحيح اختيار البخاري ومسلم ، وهو [ ص: 135 ] أن يروي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابي زائل عنه اسم الجهالة ، بأن يروي عنه تابعيان عدلان ، ثم يروي عنه التابعي المشهور بالرواية عن الصحابة وله راويان ثقتان ، ثم يرويه عنه من أتباع التابعين حافظ متقن وله رواة من الطبقة الرابعة ، ثم يكون شيخ البخاري أو مسلم حافظا مشهورا بالعدالة في روايته ، ثم يتداوله أهل الحديث بالقبول إلى وقتنا ، كالشهادة على الشهادة .

        فعمم في علوم الحديث شرط الصحيح من حيث هو ، وخصص ذلك في المدخل بشرط الشيخين ، وقد نقض عليه الحازمي ما ادعى أنه شرط الشيخين بما في الصحيحين من الغرائب التي تفرد بها بعض الرواة .

        وأجيب بأنه إنما أراد أن كل راو في الكتابين يشترط أن يكون له راويان ، لا أنه يشترط أن يتفقا في رواية ذلك الحديث بعينه .

        قال أبو علي الغساني ونقله عياض عنه : ليس المراد أن يكون كل خبر روياه يجتمع فيه راويان عن صحابيه ثم عن تابعيه فمن بعده ، فإن ذلك يعز وجوده ، وإنما المراد أن هذا الصحابي وهذا التابعي روى عنه رجلان خرج بهما عن حد الجهالة .



        قال شيخ الإسلام : وكأن الحازمي فهم ذلك من قول الحاكم : كالشهادة على الشهادة ؛ لأن الشهادة يشترط فيها التعدد ، وأجيب باحتمال أن يريد بالتشبيه بعض الوجوه لا كلها ، كالاتصال واللقاء وغيرهما .

        وقال أبو عبد الله بن المواق : ما حمل الغساني عليه كلام الحاكم وتبعه عليه عياض [ ص: 136 ] وغيره ليس بالبين ، ولا أعلم أحدا روى عنهما أنهما صرحا بذلك ولا وجود له في كتابيهما ولا خارجا عنهما ، فإن كان قائل ذلك عرفه من مذهبهما بالتصفح لتصرفهما في كتابيهما فلم يصب ؛ لأن الأمرين معا في كتابيهما ، وإن كان أخذه من كون ذلك أكثريا في كتابيهما فلا دليل فيه على كونهما اشترطاه ، ولعل وجود ذلك أكثريا إنما هو لأن من روى عنه أكثر من واحد ، أكثر ممن لم يرو عنه إلا واحد من الرواة مطلقا ، لا بالنسبة إلى من خرج له منهم في الصحيحين . وليس من الإنصاف إلزامهما هذا الشرط من غير أن يثبت عنهما ذلك مع وجود إخلالهما به . لأنهما إذا صح عنهما اشتراط ذلك كان في إخلالهما به درك ، عليهما .

        قال شيخ الإسلام : وهذا كلام مقبول وبحث قوي .

        وقال في مقدمة شرح البخاري : ما ذكره الحاكم وإن كان منتقضا في حق بعض الصحابة الذين أخرج لهم إلا أنه معتبر في حق من بعدهم ، فليس في الكتاب حديث أصل من رواية من ليس له إلا راو واحد فقط .

        وقال الحازمي ما حاصله : شرط البخاري أن يخرج ما اتصل إسناده بالثقات المتقنين الملازمين لمن أخذوا عنه ملازمة طويلة ، وأنه قد يخرج أحيانا عن أعيان الطبقة التي تلي هذه في الإتقان والملازمة لمن رووا عنه ، فلم يلزموه إلا ملازمة يسيرة ، وشرط مسلم أن يخرج حديث هذه الطبقة الثانية ، وقد يخرج حديث من لم يسلم من غوائل الجرح ، إذا كان طويل الملازمة لمن أخذه عنه ، كحماد بن سلمة في ثابت البناني وأيوب .

        [ ص: 137 ] وقال المصنف : إن المراد بقولهم على شرطهما : أن يكون رجال إسناده في كتابيهما ؛ لأنه ليس لهما شرط في كتابيهما ولا في غيرهما .

        قال العراقي : وهذا الكلام قد أخذه من ابن الصلاح ، حيث قال في المستدرك : أودعه ما ليس في واحد من الصحيحين مما رآه على شرط الشيخين ، وقد أخرجا عن رواته في كتابيهما .

        قال : وعلى هذا عمل ابن دقيق العيد ، فإنه ينقل عن الحاكم تصحيحه لحديث على شرط البخاري مثلا ، ثم يعترض عليه بأن فيه فلانا ولم يخرج له البخاري ، وكذا فعل الذهبي في مختصر المستدرك .

        قال : وليس ذلك منهم بجيد ، فإن الحاكم صرح في خطبة المستدرك بخلاف ما فهموه عنه ، فقال : وأنا أستعين الله تعالى على إخراج أحاديث رواتها ثقات قد احتج بمثلها الشيخان أو أحدهما .

        فقوله : بمثلها ، أي بمثل رواتها ، لا بهم أنفسهم ، ويحتمل أن يراد بمثل تلك الأحاديث ، وإنما تكون مثلها إذا كانت بنفس رواتها ، وفيه نظر .



        قال : وتحقيق المثلية أن يكون بعض من لم يخرج عنه في الصحيح مثل من خرج عنه فيه ، أو أعلى منه عند الشيخين ، وتعرف المثلية عندهما إما بنصهما على أن فلانا مثل فلان ، أو أرفع منه ، وقلما يوجد ذلك ، وإما بالألفاظ الدالة على مراتب التعديل ، كأن يقولا في بعض من احتجا به : ثقة أو ثبت أو صدوق أو لا [ ص: 138 ] بأس به أو غير ذلك من ألفاظ التعديل ، ثم يوجد عنهما أنهما قالا ذلك أو أعلى منه في بعض من لم يحتجا به في كتابيهما ، فيستدل بذلك على أنه عندهما في رتبة من احتجا به ؛ لأن مراتب الرواة معيار معرفتها ألفاظ الجرح والتعديل .

        قال : ولكن هنا أمر فيه غموض لا بد من الإشارة إليه ، وذلك أنهم لا يكتفون في التصحيح بمجرد حال الراوي في العدالة والاتصال من غير نظر إلى غيره ، بل ينظرون في حاله مع من روى عنه في كثرة ملازمته له أو قلتها ، أو كونه في بلده ممارسا لحديثه ، أو غريبا من بلد من أخذ عنه ، وهذه أمور تظهر بتصفح كلامهم وعملهم في ذلك . انتهى كلامه .

        وقال شيخ الإسلام : ما اعترض به شيخنا على ابن دقيق العيد والذهبي ليس بجيد ؛ لأن الحاكم استعمل لفظة مثل في أعم من الحقيقة والمجاز في الأسانيد والمتون ، دل على ذلك صنيعه ، فإنه تارة يقول : على شرطهما ، وتارة على شرط البخاري ، وتارة على شرط مسلم ، وتارة صحيح الإسناد ولا يعزوه لأحدهما . وأيضا فلو قصد بكلمة ( مثل ) معناها الحقيقي حتى يكون المراد ، واحتج بغيرها ممن فيهم من الصفات مثل ما في الرواة الذين خرجا عنهم ، لم يقل قط : على شرط البخاري ، فإن شرط مسلم دونه ، فما كان على شرطه فهو على شرطهما ؛ لأنه حوى شرط مسلم وزاد .

        قال : ووراء ذلك كله أن يروى بإسناد ملفق من رجالهما كسماك عن عكرمة عن ابن عباس ، فسماك على شرط مسلم فقط ، وعكرمة انفرد به البخاري والحق أن هذا ليس على شرط واحد منهما .



        وأدق من هذا أن يرويا عن أناس ثقات ضعفوا في أناس مخصوصين ، من غير حديث [ ص: 139 ] الذين ضعفوا فيهم ، فيجيء عنهم حديث من طريق من ضعفوا فيه ، برجال كلهم في الكتابين أو أحدهما فنسبته أنه على شرط من خرج له غلط ، كأن يقال في هشيم عن الزهري : كل من هشيم والزهري أخرجا له ، فهو على شرطهما ، فيقال : بل ليس على شرط واحد منهما ؛ لأنهما إنما أخرجا لهشيم من غير حديث الزهري ، فإنه ضعف فيه ؛ لأنه كان رحل إليه فأخذ منه عشرين حديثا ، فلقيه صاحب له وهو راجع فسأله روايته ، وكان ثم ريح شديدة فذهبت بالأوراق من يد الرجل ، فصار هشيم يحدث بما علق منها بذهنه ، ولم يكن أتقن حفظها فوهم في أشياء منها ، ضعف في الزهري بسببها .

        وكذا همام ضعيف في ابن جريج مع أن كلا منهما أخرجا له ، لكن لم يخرجا له عن ابن جريج شيئا ، فعلى من يعزو إلى شرطهما أو شرط واحد منهما أن يسوق ذلك السند بنسق رواية من نسب إلى شرطه ولو في موضع من كتابه .

        وكذا قال ابن الصلاح في شرح مسلم : من حكم لشخص بمجرد رواية مسلم عنه في صحيحه بأنه من شرط الصحيح فقد غفل وأخطأ ، بل ذلك متوقف على النظر في كيفية رواية مسلم عنه ، وعلى أي وجه اعتمد عليه .



        [ تتمة ]

        ألف الحازمي كتابا في شروط الأئمة ذكر فيه شرط الشيخين وغيرهما فقال : [ ص: 140 ] مذهب من يخرج الصحيح أن يعتبر حال الراوي العدل في مشايخه وفيمن روى عنهم وهم ثقات أيضا ، وحديثه عن بعضهم صحيح ثابت يلزمه إخراجه ، وعن بعضهم مدخول لا يصح إخراجه إلا في الشواهد والمتابعات ، وهذا باب فيه غموض ، وطريقه معرفة طبقات الرواة عن راوي الأصل ومراتب مداركهم .



        ولنوضح ذلك بمثال : وهو أن تعلم أن أصحاب الزهري مثلا على خمس طبقات ولكل طبقة منها مزية على التي تليها وتفاوت : فمن كان في الطبقة الأولى فهي الغاية في الصحة ، وهو غاية مقصد البخاري ، كمالك وابن عيينة ، ويونس وعقيل الأيليين وجماعة .

        والثانية شاركت الأولى في العدالة ، غير أن الأولى جمعت بين الحفظ والإتقان وبين طول الملازمة للزهري بحيث كان منهم من يلازمه في السفر ويلازمه في الحضر كالليث بن سعد والأوزاعي والنعمان بن راشد .

        والثانية لم تلازم الزهري إلا مدة يسيرة ، فلم تمارس حديثه وكانوا في الإتقان دون الطبقة الأولى ، كجعفر بن برقان وسفيان بن حسين السلمي وزمعة بن صالح المكي ، وهم شرط مسلم .

        والثانية : جماعة لزموا الزهري مثل أهل الطبقة الأولى ، غير أنهم لم يسلموا من غوائل الجرح ، فهم بين الرد والقبول ، كمعاوية بن يحيى الصدفي وإسحاق بن يحيى الكلبي ، والمثنى بن الصباح ، وهم شرط أبي داود والنسائي .

        [ ص: 141 ] والرابعة : قوم شاركوا الثالثة في الجرح والتعديل ، وتفردوا بقلة ممارستهم لحديث الزهري ؛ لأنهم لم يلازموه كثيرا ، وهم شرط الترمذي .

        والخامسة : نفر من الضعفاء والمجهولين لا يجوز لمن يخرج الحديث على الأبواب أن يخرج حديثهم إلا على سبيل الاعتبار والاستشهاد ، عند أبي داود فمن دونه ، فأما عند الشيخين فلا .




        الخدمات العلمية