الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما .

ولما لام الله بعض المجاهدين على ما صدر منهم من التعمق في الغاية من الجهاد ، عقب ذلك ببيان فضل المجاهدين كيلا يكون ذلك اللوم موهما انحطاط فضيلتهم في بعض أحوالهم ، على عادة القرآن في تعقيب النذارة بالبشارة دفعا لليأس من الرحمة عن أنفس المسلمين .

يقول العرب : " لا يستوي " " وليس سواء " بمعنى أن أحد المذكورين أفضل من الآخر . ويعتمدون في ذلك على القرينة الدالة على تعيين المفضل لأن من شأنه أن يكون أفضل . قال السموأل أو غيره :


فليس سواء عالم وجهول

وقال تعالى ليسوا سواء ، وقد يتبعونه بما يصرح بوجه نفي السوائية : إما لخفائه كقوله تعالى لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا .

وقد يكون التصريح لمجرد التأكيد كقوله [ ص: 170 ] لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون . وإذ قد كان وجه التفاضل معلوما في أكثر مواقع أمثال هذا التركيب ، صار في الغالب أمثال هذا التركيب مستعملة في معنى الكناية ، وهو التعريض بالمفضول في تفريطه وزهده فيما هو خير مع المكنة منه ، وكذلك هو هنا لظهور أن القاعد عن الجهاد لا يساوي المجاهد في فضيلة نصرة الدين ، ولا في ثوابه على ذلك ، فتعين التعريض بالقاعدين وتشنيع حالهم .

وبهذا يظهر موقع الاستثناء بقوله غير أولي الضرر كيلا يحسب أصحاب الضرر أنهم مقصودون بالتحريض فيخرجوا مع المسلمين ، فيكلفوهم مؤونة نقلهم وحفظهم بلا جدوى ، أو يظنوا أنهم مقصودون بالتعريض فتنكسر لذلك نفوسهم ، زيادة على انكسارها بعجزهم ، ولأن في استثنائهم إنصافا لهم وعذرا بأنهم لو كانوا قادرين لما قعدوا ، فذلك الظن بالمؤمن ، ولو كان المقصود صريح المعنى لما كان للاستثناء موقع . فاحفظوا هذا فالاستثناء مقصود ، وله موقع من البلاغة لا يضاع ، ولو لم يذكر الاستثناء لكان تجاوز التعريض أصحاب الضرر معلوما من سياق الكلام ، فالاستثناء عدول عن الاعتماد على القرينة إلى التصريح باللفظ .

ويدل لهذا ما في الصحيحين ، عن زيد بن ثابت ، أنه قال : نزل الوحي على رسول الله وأنا إلى جنبه ثم سري عنه فقال : اكتب : فكتبت في كتف ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ) - وخلف النبيء ابن أم مكتوم - فقال : يا رسول الله ، لو أستطيع الجهاد لجاهدت ، فنزلت مكانها لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله الآية .

فابن أم مكتوم فهم المقصود من نفي الاستواء فظن أن التعريض يشمله وأمثاله ، فإنه من القاعدين ، ولأجل هذا الظن عدل عن حراسة المقام إلى صراحة الكلام ، وهما حالان متساويان في عرف البلغاء ، هما حال مراعاة خطاب الذكي وخطاب الغبي ، فلذلك لم تكن زيادة الاستثناء مفيتة مقتضى حال من البلاغة ، ولكنها معوضته بنظيره لأن السامعين أصناف كثيرة .

وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر ، وخلف ( غير ) بنصب الراء على الحال من القاعدون ، وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، ويعقوب بالرفع على النعت لـ القاعدون .

[ ص: 171 ] وجاز في غير الرفع على النعت ، والنصب على الحال ، لأن القاعدون تعريفه للجنس فيجوز فيه مراعاة اللفظ ومراعاة المعنى .

والضرر : المرض والعاهة من عمى أو عرج أو زمانة ، لأن هذه الصيغة لمصادر الأدواء ونحوها ، وأشهر استعماله في العمى ، ولذلك يقال للأعمى : ضرير ، ولا يقال ذلك للأعرج والزمن ، وأحسب أن المراد في هذه الآية خصوص العمى وأن غيره مقيس عليه .

و الضرر مصدر ضرر - بكسر الراء - مثل مرض ، وهذه الزنة تجيء في العاهات ونحوها ، مثل عمي وعرج وحصر ، ومصدرها مفتوح العين مثل العرج ، ولأجل خفته بفتح العين امتنع إدغام المثلين فيه ، فقيل : ضرر بالفك ، وبخلاف الضر الذي هو مصدر ضره فهو واجب الإدغام إذ لا موجب للفك .

ولا نعرف في كلام العرب إطلاق الضرر على غير العاهات الضارة; وأما ما روي من حديث " لا ضرر ولا ضرار " فهو نادر أو جرى على الإتباع والمزاوجة لاقترانه بلفظ " ضرار " وهو مفكك . وزعم الجوهري أن ضرر اسم مصدر الضر ، وفيه نظر; ولم يحفظ عن غيره ولا شاهد عليه .

وقوله بأموالهم وأنفسهم لأن الجهاد يقتضي الأمرين : بذل النفس ، وبذل المال ، إلا أن الجهاد على الحقيقة هو بذل النفس في سبيل الله ولو لم ينفق شيئا ، بل ولو كان كلا على المؤمنين ، كما أن من بذل المال لإعانة الغزاة ، ولم يجاهد بنفسه ، لا يسمى مجاهدا وإن كان له أجر عظيم ، وكذلك من حبسه العذر وكان يتمنى زوال عذره واللحاق بالمجاهدين ، له فضل عظيم ، ولكن فضل الجهاد بالفعل لا يساويه فضل الآخرين .

وجملة فضل الله المجاهدين بيان لجملة لا يستوي القاعدون من المؤمنين .

وحقيقة الدرجة أنها جزء من مكان يكون أعلى من جزء آخر متصل به ، بحيث تتخطى القدم إليه بارتقاء من المكان الذي كانت عليه بصعود ، وذلك مثل درجة العلية ودرجة السلم .

والدرجة هنا مستعارة للعلو المعنوي كما في قوله تعالى وللرجال عليهن درجة . والعلو المراد هنا علو الفضل ووفرة الأجر .

[ ص: 172 ] وجيء بـ درجة بصيغة الإفراد ، وليس إفرادها للوحدة ، لأن درجة هنا جنس معنوي لا أفراد له ، ولذلك أعيد التعبير عنها في الجملة التي جاءت بعدها تأكيدا لها بصيغة الجمع بقوله درجات منه لأن الجمع أقوى من المفرد .

وتنوين درجة للتعظيم . وهو يساوي مفاد الجمع في قوله الآتي درجات منه .

وانتصب درجة بالنيابة عن المفعول المطلق المبين للنوع في فعل فضل إذ الدرجة هنا زيادة في معنى الفضل ، فالتقدير : فضل الله المجاهدين فضلا هو درجة ، أي درجة فضلا .

وجملة وكلا وعد الله الحسنى معترضة . وتنوين كلا تنوين عوض عن مضاف إليه ، والتقدير : وكل المجاهدين والقاعدين .

وعطف وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما على جملة فضل الله المجاهدين ، وإن كان معنى الجملتين واحدا باعتبار ما في الجملة الثانية من زيادة أجرا عظيما فبذلك غايرت الجملة المعطوفة الجملة المعطوف عليها مغايرة سوغت العطف . مع ما في إعادة معظم ألفاظها من توكيد لها .

والمراد بقوله المجاهدين المجاهدون بأموالهم وأنفسهم فاستغني عن ذكر القيد بما تقدم من ذكره في نظيره السابق . وانتصب أجرا عظيما على النيابة عن المفعول المطلق المبين للنوع لأن الأجر هو ذلك التفضيل ، ووصف بأنه عظيم .

وانتصب درجات على البدل من قوله أجرا عظيما ، أو على الحال باعتبار وصف درجات بأنها منه أي من الله .

وجمع درجات لإفادة تعظيم الدرجة لأن الجمع لما فيه من معنى الكثرة تستعار صيغته لمعنى القوة ، ألا ترى أن علقمة لما أنشد الحارث بن جبلة ملك غسان قوله يستشفع لأخيه شأس بن عبدة :


وفي كل حي قد خبطت بنعمة     فحق لشأس من نداك ذنوب

قال له الملك : وأذنبة .

التالي السابق


الخدمات العلمية