الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1154 [ ص: 17 ] حديث ثالث من مراسيل ابن شهاب .

مالك عن ابن شهاب أنه بلغه أن نساء كن في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلمن بأرضهن وهن غير مهاجرات ، وأزواجهن حين أسلمن كفار ، منهن بنت الوليد بن المغيرة ، وكانت تحت صفوان بن أمية ، فأسلمت يوم الفتح وهرب زوجها صفوان بن أمية من الإسلام ، فبعث إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن عمه وهب بن عمير برداء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمانا لصفوان بن أمية ، ودعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام ، وأن يقدم عليه ، فإن رضي أمرا قبله وإلا سيره شهرين ، فلما قدم صفوان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بردائه ناداه على رءوس الناس : يا محمد ، إن هذا وهب بن عمير جاءني بردائك وزعم أنك دعوتني إلى القدوم عليك ، فإن رضيت أمرا قبلته ، وإلا سيرتني شهرين ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : [ ص: 18 ] انزل أبا وهب . فقال : لا والله حتى تبين لي ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : بل لك تسيير أربعة أشهر .

فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل هوازن بحنين ، فأرسل إلى صفوان بن أمية يستعيره أداة وسلاحا عنده ، فقال صفوان : طوعا أم كرها ؟ فقال : بل طوعا . فأعاره الأداة والسلاح التي عنده ، ثم خرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو كافر فشهد حنينا والطائف وهو كافر وامرأته مسلمة ، ولم يفرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين امرأته حتى أسلم صفوان واستقرت عنده امرأته بذلك النكاح
.

[ ص: 19 ] مالك عن ابن شهاب قال : كان بين إسلام صفوان بن أمية وبين إسلام امرأته نحو من شهر .

قال ابن شهاب : ولم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزوجها كافر ومقيم بدار الكفر إلا فرقت هجرتها بينها وبين زوجها إلا أن يقدم مهاجرا قبل أن تنقضي عدتها .

التالي السابق


هذا الحديث لا أعلمه يتصل من وجه صحيح ، وهو حديث مشهور معلوم عند أهل السير وابن شهاب إمام أهل السير وعالمهم وكذلك الشعبي ، وشهرة هذا الحديث أقوى من إسناده إن شاء الله .

وليس في هذا الباب من المسند الحسن الإسناد إلا حديث رواه وكيع عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن رجلا جاء مسلما على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، ثم جاءت امرأته مسلمة بعده فقال : يا رسول الله ، إنها [ ص: 20 ] قد كانت أسلمت معي ، فردها عليه . وبعضهم يزيد في هذا الحديث أنها تزوجت فانتزعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من زوجها الآخر وردها إلى الأول .

وقد حدث داود بن الحصين عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : رد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابنته زينب على أبي العاص بالنكاح الأول ولم يحدث شيئا ، بعضهم يقول فيه بعد ثلاث سنين ، وبعضهم يقول بعد ست سنين ، وبعضهم يقول بعد سنتين ، وبعضهم لا يقول شيئا من ذلك ، وهذا الخبر وإن صح فهو متروك منسوخ عند الجميع ; لأنهم لا يجيزون رجوعه إليها بعد خروجها من عادتها ، وإسلام زينب كان قبل أن ينزل كثير من الفرائض .

وروي عن قتادة أن ذلك كان قبل أن تنزل سورة براءة بقطع العهود بينهم وبين المشركين .

[ ص: 21 ] وقال الزهري كان هذا قبل أن تنزل الفرائض . وروى عنه سفيان بن حسين أن أبا العاص بن الربيع أسر يوم بدر ، فأتي به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرد عليه امرأته ، وفي هذا أنه ردها عليه وهو كافر ، فمن هناك قال ابن شهاب : إن ذلك كان قبل أن تنزل الفرائض . وقال آخرون : قصة أبي العاص هذه منسوخة بقوله - عز وجل - فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار الآية إلى قوله : ولا تمسكوا بعصم الكوافر .

ومما يدل على أن قصة أبي العاص منسوخة بقوله : ياأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن إلى قوله : ولا تمسكوا بعصم الكوافر إجماع العلماء على أن أبا العاص بن الربيع كان كافرا ، وأن المسلمة لا يحل أن تكون زوجة لكافر ، قال الله - عز وجل - : ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للملاعن : لا سبيل لك عليها .

[ ص: 22 ] روى سعيد بن جبير وعكرمة عن أبي عباس قال : لا يعلو مسلمة مشرك ، فإن الإسلام يظهر ولا يظهر عليه ، وفي قول الله - عز وجل - : لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن ما يغني ويكفي والحمد لله .

قال أبو عمر : ولم يختلف أهل السير أن هذه الآية المذكورة نزلت في الحديبية حين صالح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريشا على أن يرد عليهم من جاء بغير إذن وليه ، فلما هاجرن أبى الله أن يرددن إلى المشركين إذا امتحن بمحنة الإسلام وعرف أنهن جئن رغبة في الإسلام .

وذكر موسى بن عقبة أن أبا العاص بن الربيع كان قد أذن لامرأته زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين خرج إلى الشام أن تقدم المدينة فتكون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يذكر متى كان خروجه إلى الشام .

وذكر أنه في رجوعه من الشام مر بأبي جندل وأبي بصير في نفر من قريش فأخذوهم ومن معهم ، ولم يقتلوا منهم أحدا لصهر أبي العاص من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقدم المدينة على امرأته زينب .

[ ص: 23 ] فقد أجمع العلماء أن الزوجين إذا أسلما معا في حال واحدة أن لهما المقام على نكاحهما ، إلا أن يكون بينهما نسب أو رضاع يوجب التحريم ، وأن كل من كان له العقد عليها في الشرك كان له المقام معها إذا أسلما معا ، وأصل العقد معفي عنه ; لأن عامة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا كفارا فأسلموا بعد التزويج وأقروا على النكاح الأول ، ولم يعتبر في أصل نكاحهم شروط الإسلام ، وهذا إجماع وتوقيف ، وإنما اختلف العلماء في تقدم إسلام أحد الزوجين على ما نذكره هاهنا إن شاء الله .

قال أبو عمر : لم يختلف العلماء أن الكافرة إذا أسلمت ، ثم انقضت عدتها أنه لا سبيل لزوجها إليها إذا كان لم يسلم في عدتها ، إلا شيء روي عن إبراهيم النخعي شذ فيه عن جماعة العلماء ولم يتبعه عليه أحد من الفقهاء إلا بعض أهل الظاهر ، فإنه قال أكثر أصحابنا : لا يفسخ النكاح لتقدم إسلام الزوجة إلا بمضي مدة يتفق الجميع على نسخه ، لصحة وقوعه في أصله ووجود التنازع في حقه .

واحتج بحديث ابن عباس بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رد زينب على أبي العاص بالنكاح الأول بعد مضي سنتين لهجرتها ، وأظنه مال فيه إلى قصة أبي العاص ، وقصة أبي العاص لا تخلو من أن يكون أبو العاص كافرا إذ رده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ابنته زينب على النكاح الأول أو مسلما ، فإن كان كافرا فهذا ما لا شك فيه أنه كان قبل نزول الفرائض [ ص: 24 ] وأحكام الإسلام في النكاح ، إذ في القرآن والسنة والإجماع تحريم فروج المسلمات على الكفار ، فلا وجه هاهنا للإكثار وإن كان مسلما ، فلا يخلو من أن يكون كانت حاملا فتمادى حملها ولم تضعه حتى أسلم زوجها ، فرده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليها في عدتها ، وهذا ما لم ينقل في خبر ، أو تكون قد خرجت من العدة فيكون أيضا ذلك منسوخا بالإجماع ; لأنهم قد أجمعوا أنه لا سبيل له إليها بعد العدة ، فكيف كان ذلك ؟

فخبر ابن عباس في رد أبي العاص إلى زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبر متروك لا يجوز العمل به عند الجميع فاستغني عن القول فيه .

وقد يحتمل قوله على النكاح الأول يريد على مثل النكاح الأول من الصداق ، على أنه قد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رد زينب إلى أبي العاص بنكاح جديد .

وكذلك يقول الشعبي على عمله بالمغازي : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يرد أبا العاص إلى ابنته زينب إلا بنكاح جديد ، وهذا يعضده الأصول .

[ ص: 25 ] حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا أبو معاوية عن حجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رد ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع بنكاح جديد .

وأما اختلاف الفقهاء في الحربية تخرج إلينا مسلمة ، فإن مالكا قال : إن أسلم الزوج قبل أن تحيض ثلاث حيض فهي امرأته ، وإن لم يسلم حتى حاضت ثلاث حيض ، فقد وقعت الفرقة . ولا فرق عنده بين دار الإسلام ودار الحرب ، وهو قول الشافعي سواء ، ولا حكم للدار عنده ، وكذلك قال الأوزاعي والليث بن سعد : اعتبر العدة .

وقال أبو حنيفة في الحربية تخرج إلينا مسلمة ولها زوج كافر بدار الحرب : فقد وقعت الفرقة بينهما ( ولا عدة عليها ، وقال أبو يوسف ومحمد : أما الفرقة فقد وقعت بينهما ) ولا سبيل له إليها إلا بنكاح جديد ، ولكن العدة عليها ، وهو قول الثوري .

وأما اختلافهم في الذميين إذا أسلم أحدهما قبل صاحبه فقول مالك والشافعي والليث والحسن بن حي والأوزاعي اعتبار العدة في وقوع الفرقة على ما ذكرنا عنهم في الحربية ، [ ص: 26 ] إلا أن الأوزاعي يقول : إذا أسلمت المرأة ولم يسلم زوجها إلا بعد انقضاء العدة فهي طليقة ، وهو خاطب .

وفي قول مالك والشافعي والليث والحسن بن حي إذا انقضت عدتها فلا سبيل له إليها ، وليست الفرقة عندهم طلاقا ، وإنما هو فسخ بغير طلاق ، وإذا أسلم في عدتها فهو أحق بها عند مالك والشافعي والليث والأوزاعي والحسن بن حي ، وسواء كانت المرأة قبل أن يسلم كتابية أو مجوسية زوجها أحق بها أبدا إن أسلم في عدتها ، فإن كانا مجوسيين وأسلم الرجل قبل ، فإن مالكا قال : يعرض عليها الإسلام في الوقت ، فإن أسلمت وإلا وقعت الفرقة بينهما .

قال إسماعيل بن إسحاق : إذا أسلم الرجل وزوجته مجوسية غائبة ، فإن الفرقة تقع بينهما حين يسلم ولا ينتظر بها ( لأنه لو انتظر بها ) كان متمسكا بعصمتها ، وقد قال الله - عز وجل - : ولا تمسكوا بعصم الكوافر ، قال : والحاضرة إذا عرض عليها الإسلام فليس الرجل ممسكا بعصمتها ; لأنه لا ينتظر بها شيئا غير حاضر ، إنما هو كلام وجواب ، فكأنها إذا أسلمت في هذه الحال قد أسلمت مع إسلامه إذا كان إنما ينتظر جوابها ، ألا ترى الآية لما نزلت وقعت الفرقة بين المسلمين الذين كانوا بالمدينة وبين أزواجهم اللاتي كن بمكة ولم ينتظر أن يعرض عليهن [ ص: 27 ] الإسلام ؟ وقد كان ذلك ممكنا في ذلك الوقت للهدنة التي كانت بينهم إلى أن نقضوا العهد بعد سنين من الصلح .

قال : والكوافر التي أنزل الله - عز وجل - فيهن هذا هن المشركات من العرب ، فكان سبيل المجوسيات سبيلهن ، فليس يجوز للمسلم أن يمسك بعصمة كافرة من غير أهل الكتاب كانت معه في دار الإسلام أو في غير دار الإسلام . قال : والفرقة بينهما بغير طلاق ; لأنهما مغلوبان على الفسخ ، وليس يراجعها في العدة إن أسلمت بخلافه إذا كان هو المتقدم الإسلام ; لأن إسلامه قبلها أشبه بالمفارق يرتجع ، والارتجاع إنما هو بالرجال لا بالنساء .

وقال الشافعي والأوزاعي والليث بن سعد والحسن بن حي : لا فرق بين الرجل والمرأة في ذلك وأيهما أسلم قبل ، ثم أسلم صاحبه في العدة كانا على نكاحهما ، وسواء عندهم أهل الكتاب في ذلك أو غير أهل الكتاب ، وكذلك سواء عندهم تقدم إسلام الرجل أو تقدم إسلام المرأة ; لأن أبا سفيان بن حرب وحكيم بن حزام أسلما قبل ، ثم أسلمت امرأتاهما فاستقرت كل واحدة منهما عند زوجها بالنكاح الأول إذ أسلمت في العدة ، وأسلمت امرأة صفوان وامرأة عكرمة فاستقرتا بالنكاح الأول وذلك قبل انقضاء العدة ، وهذا يدل على أن [ ص: 28 ] قوله - عز وجل - : لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن في حال دون حال ، وذلك التمادي في الإمساك بعد العدة على ما بينت وأحكمت في ذلك السنة .

وقال أبو حنيفة وأصحابه في الذميين : إذا أسلمت المرأة عرض على الزوج الإسلام ، فإن أسلم ، وإلا فرق بينهما ، قالوا ولو كانا حربيين وأسلمت هناك كانت امرأته حتى تحيض ثلاث حيض ، فإن لم يسلم وقعت الفرقة وفرقوا بين حكم دار الإسلام ودار الحرب .

وقال ابن شبرمة في النصراني تسلم امرأته قبل الدخول : يفرق بينهما ولا صداق لها ، ولو كانت المرأة مجوسية وأسلم الزوج قبل الدخول ثم لم تسلم المرأة حتى انقضت عدتها فلها نصف الصداق ، وإن أسلمت قبل أن تنقضي عدتها فهما على نكاحهما .

وقال الثوري كقول أبي حنيفة في عرض الإسلام على الزوج إذا أسلمت امرأته ، فإن أسلم وإلا فرق بينهما ، وقال في المهر : إن أسلمت وأبى فلها جميع المهر إن كان دخل بها ، وإن لم يكن دخل بها فلها النصف ، وإن أسلم وأبت وهي مجوسية فلا مهر إن لم يدخل بها .

[ ص: 29 ] وقال مالك في النصرانية تكون تحت نصراني فيخرج إلى بعض الأسفار فتسلم امرأته وهو غائب ، فإنها تؤمر بالنكاح إذا انقضت عدتها ولا ينتظر بها ، وليس له منها شيء إن قدم بعد انقضاء عدتها وهو مسلم ، نكحت أو لم تنكح ، هذا إذا أسلم بعد انقضاء عدتها ، فإن أسلم قبل انقضاء عدتها في غيبته ، فإن نكحت قبل أن يقدم زوجها أو يبلغها إسلامه ، فلا سبيل له إليها ، وإن أدركها قبل أن تنكح فهو أحق بها .

قال : وإن كانت الغيبة قريبة استؤني بتزويجها ، وكتب للسلطان فلعله قد أسلم قبلها ، وإن كانت بعيدة فلا .

وجملة قول مالك وأصحابه في صداق الكتابية والمجوسية إذا أسلمت قبل البناء أنه لا صداق لها ولا شيء منه معجل ولا مؤجل ، فإن قبضته ردته ; لأن الفراق من قبلها ، ولو بنى بها كان لها صداقها كاملا ، وكذلك المرتدة في الصداق .

[ ص: 30 ] ذكر إسماعيل بن أبي أويس عن مالك قال : الأمر عندنا في المرأة تسلم وزوجها كافر قبل أن يدخل بها ويمسها أنه لا صداق لها سمي لها أو لم يسم ، وليس لزوجها عليها رجعة ; لأنه لا عدة عليها ، ولو دخل بها كان له عليها الرجعة ما دامت في عدتها ، وكان لها صداقها كاملا ، فإن بقي لها عليه شيء من مهرها فلها بقيته أسلم في عدتها أو لم يسلم .

قال : وقال مالك في المجوسية يتزوجها المجوسي ثم يسلم أحدهما ولم يدخل بها ، فرض لها أو لم يفرض ، أنه لا صداق لها إن أسلمت قبله وأبى هو أن يسلم ، أو أسلم قبلها فأبت هي أن تسلم في الوجهين .

أخبرنا عبد الله بن محمد بن يحيى قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا نصر بن علي قال : حدثنا أبو جعفر عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : أسلمت امرأة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتزوجت فجاء زوجها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 31 ] فقال : يا نبي الله ، إني قد أسلمت وعلمت بإسلامي ، فانتزعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من زوجها الآخر وردها إلى زوجها الأول .

ورواه حفص بن جميع وسليمان بن معاذ ، وهذا لفظه عن سماك عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : أسلمت امرأة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهاجرت وتزوجت وكان زوجها قد أسلم ، فردها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى زوجها ذكره البزار .

وحدثنا قاسم بن محمد قال : حدثنا خالد بن سعد قال : حدثنا أحمد بن عمرو قال : حدثنا محمد بن سنجر قال : حدثنا عبد الله بن موسى قال : أخبرنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة ، عن ابن عباس قال أسلمت امرأة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتزوجت ، فجاء زوجها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إني قد أسلمت معها وعلمت بإسلامي ، فانتزعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من زوجها الآخر وردها إلى زوجها الأول .

قال أبو عمر : احتج الطحاوي لأبي حنيفة وأصحابه والثوري بأن قال : خبر ابن شهاب منقطع ، وفي الأصول أن العدة إذا [ ص: 32 ] وجهت على الطلاق ، فإنما تجب بعد ارتفاع النكاح ، وأما مع بقاء النكاح فلا عدة .

قال أبو عمر : لو ارتفع النكاح ما كان يعرض الإسلام على الثاني منهما معا ، وقد أجمعوا على ذلك في الفور ، روي ( عن ) عمر وابن عباس الفرقة بين الزوجين إذا أسلمت المرأة الذمية وأبى زوجها أن يسلم ولم يعتبر العدة .

وذكر ابن أبي شيبة حدثنا معتمر عن أبيه ، عن الحسن ، وعمر بن عبد العزيز قالا في النصرانية تسلم تحت زوجها : أخرجها عنه الإسلام .

وروى حماد بن سلمة عن زياد الأعلم عن الحسن ، في النصرانية تكون تحت النصراني فتسلم قبل الدخول ، قال : فرق بينهما الإسلام .

وروي عن علي بن أبي طالب نحو قول مالك والشافعي ، وحسبك بقول ابن شهاب أنه لم يبلغه غير ما حكى في حديثه المذكور في هذا الباب ، وأنه أحق بها إن أسلم في عدتها .

وذكر حماد بن سلمة قال : أخبرنا عبيد الله بن عمر عن الزهري أن امرأة عكرمة بن أبي جهل وامرأة سهيل بن عمرو أسلمتا في عدتهما فأقاما على نكاحهما .

[ ص: 33 ] وذكر ابن أبي شيبة عن عبد السلام بن حرب عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة عن الزهري أن امرأة عكرمة بن أبي جهل أسلمت قبله ، ثم أسلم وهي في العدة فردت إليه ، وذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وذكر مالك عن ابن شهاب أن ابنة الوليد بن المغيرة ، وكانت تحت صفوان بن أمية فأسلمت يوم الفتح ، ثم أسلم واستقرت عنده بذلك النكاح ، وكان بين إسلام صفوان بن أمية وبين إسلام امرأته نحو من شهر ، وأن أم حكيم بنت الحارث بن هشام كانت تحت عكرمة بن أبي جهل فأسلمت يوم الفتح ، ثم أسلم عكرمة فثبتا على نكاحهما ( ذلك ) .

وذكر مالك عن ابن شهاب قال : لم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى الله ورسوله وزوجها كافر بدار الحرب إلا فرقت هجرتها بينها وبين زوجها ، إلا أن يقدم زوجها مهاجرا قبل أن تنقضي عدتها .

[ ص: 34 ] وذكر أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا عبدة بن سليمان ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن مجاهد قال : إذا أسلم وهي في عدتها فهي امرأته ، يعني إذا كانت أسلمت قبله ، قال : وحدثنا ابن علية ، عن ابن أبي نجيح عن عطاء قال : إن أسلم وهي في العدة فهو أحق بها ، قال : وحدثنا عبد الله بن موسى عن سفيان عن عمرو بن ميمون عن عمر بن عبد العزيز قال : هو أحق بها ما دامت في العدة .

وذكر حماد بن سلمة عن عبيد الله بن عمر قال : إذا أسلم الرجل في عدة امرأته فهو أحق بها .

وفي حديث ابن شهاب المذكور أيضا في هذا الباب من الفقه إثبات الأمان للكافر ودعاؤه إلى الإسلام ، وإن كان له شوكة ، وكانت كلمة الإسلام العالية ، وهذا ما لا خلاف فيه على هذا الوجه ، ولا سيما إذا طمع بإسلامه .

وفيه التأمين على شروط تجوز وعلى الخيار فيها .

[ ص: 35 ] وفيه جواز تصحيح الأمارات في العقود ، وأن من صح عليه شيء منها أو صح عنده لزمه العمل بها وجاز ذلك عليه وله ، ألا ترى إلى إرسال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بردائه أمارة لأمانه .

وفيه بيان ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الاجتهاد والحرص على دخول الناس في الإسلام .

وفيه إجازة تكنية الكافر إذا كان وجها ذا شرف وطمع بإسلامه ، وقد يجوز ذلك ، وإن لم يطمع بإسلامه ; لأن الطمع ليس بحقيقة توجب عملا ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : إذا أتاكم كريم قوم أو كريمة قوم فأكرموه ، ولم يقل : إن طمعتم بإسلامه . ومن الإكرام دعاؤه بالتكنية ، وقد يقول في قول الله - عز وجل - : فقولا له قولا لينا قال كنياه ، وأما شهود صفوان بن أمية مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حنينا والطائف ، وهو كافر ، فإن مالكا قال : لم يكن ذلك بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال مالك : ولا [ ص: 36 ] أرى أن يستعان بالمشركين على قتال المشركين إلا أن يكونوا خدما أو نواتية .

وروى مالك عن الفضيل بن أبي عبيد الله عن عبد الله بن دينار الأسلمي ، عن عروة ، عن عائشة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل أتاه فقال : جئت لأتبعك وأصيب معك في حين خروجه إلى بدر : إنا لا نستعين بمشرك ، وهذا حديث قد اختلف عن مالك في إسناده ، وهكذا رواه أكثر أصحابه ، وقد روى أبو حميد الساعدي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله .

وقال الشافعي والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة وأصحابهم : لا بأس بالاستعانة بأهل الشرك على قتال المشركين إذا كان حكم الإسلام هو الغالب عليهم ، وإنما تكره الاستعانة بهم إذا كان حكم الشرك هو الظاهر . وقد روي أنه لما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع أبي سفيان للخروج إليه يوم أحد انطلق وبعث إلى بني [ ص: 37 ] النضير وهم يهود ، فقال لهم : إما قاتلتم معنا ، وإما أعرتمونا سلاحا .

قال أبو عمر : هذا قول يحتمل أن يكون لضرورة دعته إلى ذلك .

وقال الثوري والأوزاعي إذا استعين بأهل الذمة أسهم لهم .

وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا يسهم لهم ولكن يرضخ .

وقال الشافعي : يستأجرهم الإمام من مال لا مالك له بعينه ، فإن لم يفعل أعطاهم من سهم النبي صلى الله عليه وسلم .

وقال في موضوع آخر : يرضخ للمشركين إذا قاتلوا مع المسلمين .

قال أبو عمر : قد اتفقوا أن العبد ، وهو ممن يجوز أمانه إذا قاتل لم يسهم له ، ولكن يرضخ له فالكافر أولى بذلك أن لا يسهم له .

وفيه جواز العارية والاستعارة وجواز الاستمتاع بما استعير إذا كان على المعهود مما يستعار مثله ، وحديث صفوان هذا في العارية أصل في هذا الباب .

[ ص: 38 ] وقد اختلف الفقهاء في ضمان العارية ، فذهب مالك وأصحابه إلى أن العارية أمانة غير مضمونة إذا كانت حيوانا أو ما لا يغاب عليه إذا لم يتعد المستعير فيه ولا ضيع ، وكذلك ما يغاب عليه أمانة أيضا إذا ظهر هلاكه وصح من غير تضييع ولا تعد ، فإن خفي هلاكه ضمن ، ولا يقبل قول المستعير فيه إذا ادعى هلاكه وذهابه ولم يقم على ما قال بينة ، وتضمن أبدا إذا كان هكذا ، ولا يضمن إذا كان هلاكه ظاهرا معروفا أو قامت به بينة بلا تضييع ولا تفريط ، هذا هو المشهور من قول مالك ، وهو قول ابن القاسم .

وقال أشهب : يضمن كل ما يغاب عليه قامت بينة بهلاكه أو لم تقم ، وسواء هلك بسببه أو بغير سببه يضمن أبدا ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لصفوان حين استعار منه السلاح وهو مما يغاب عليه ، بل عارية مضمونة مؤداة ، قال : وأما الحيوان وما لا يغاب عليه فلا ضمان عليه ، وقول عثمان البتي في هذه المسألة نحو قول مالك ، قال عثمان البتي : المستعير ضامن لما استعاره إلا الحيوان والعقار ويضمن الحلي والثياب وغيرها . قال : وإن اشترط ضمان الحيوان ضمنه .

[ ص: 39 ] وقال الليث بن سعد : لا ضمان في العارية ، ولكن أبا العباس أمير المؤمنين قد كتب بأن يضمنها فالقضاء اليوم على الضمان .

وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي : مضمونة ، ولا يضمن شيئا منها إلا بالتعدي ، وهو قول ابن شبرمة .

وقال الشافعي : كل عارية مضمونة .

قال أبو عمر : احتج من قال بأن العارية مضمونة بما حدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ( ح ) وحدثنا عبد الله بن ( محمد ) بن عبد المومن قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عبد الوهاب بن نجدة الحويطي قالا جميعا : حدثنا إسماعيل بن عياش عن شرحبيل بن مسلم قال : سمعت أبا أمامة قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : العارية مؤادة والمنحة مردودة ، والدين مقضي ، والزعيم غارم .

ومن قال : إن العارية لا تضمن ، قال في قوله - صلى الله عليه وسلم - : العارية مؤداة دليل على أنها أمانة ; لأن الله - عز وجل - يقول : إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها فجعل الأمانات مؤداة .

[ ص: 40 ] قال : ويحتمل قوله العارية مؤداة إذا وجدت قائمة العين ، وهذا ما لا يختلف فيه ، وإنما التنازع فيها إذا تلفت هل يجب على المستعير ضمانها ؟

واحتج أيضا من قال : إن العارية مضمونة بما حدثنا عبد الله بن محمد بن يحيى قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا الحسن بن محمد وسلمة بن شبيب قالا : حدثنا يزيد بن هارون قال : حدثنا شريك عن عبد العزيز بن رفيع ، عن أمية بن صفوان بن أمية ، عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعار منه دروعا يوم خيبر فقال : أغصبا يا محمد ؟ فقال : بل عارية مضمونة ، قال أبو داود : هذه رواية يزيد ببغداد ، وفي روايته بواسط غير هذا قال أبو داود : وكان أعاره قبل أن يسلم ثم أسلم .

قال أبو عمر : حديث صفوان هذا اختلف فيه على عبد العزيز بن رفيع اختلافا يطول ذكره ، فبعضهم يذكر فيه الضمان وبعضهم لا ، وبعضهم يقول فيه عن عبد العزيز [ ص: 41 ] بن رفيع ، عن ابن أبي مليكة ، عن أمية بن صفوان ( عن أبيه ، وبعضهم يقول عن عبد العزيز ، عن ابن أبي مليكة ) ، عن ابن صفوان قال : استعار النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لا يقول عن أبيه ، ومنهم من يقول عن عبد العزيز بن رفيع عن أناس من آل صفوان ، أو من آل عبد الله بن صفوان مرسلا أيضا .

وبعضهم يقول فيه عن عبد العزيز بن رفيع عن عطاء عن ناس من آل صفوان ، ولا يذكر فيه الضمان ، ولا يقول مؤداة ، بل عارية فقط ، والاضطراب فيه كثير ، ولا يجب - عندي - بحديث صفوان هذا حجة في تضمين العارية والله أعلم .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا بكر بن حماد قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا أبو الأحوص قال : حدثنا عبد العزيز بن رفيع ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن ناس من آل صفوان قالوا : استعار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من صفوان بن أمية سلاحا ، فقال له صفوان : أعارية أم غصب ؟ فقال : بل عارية . فأعاره ما بين الثلاثين إلى الأربعين درعا ، فغزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حنينا ، فلما هزم الله المشركين قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : [ ص: 42 ] اجمعوا أدراع صفوان ، ففقدوا من أدراعه أدراعا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن شئت غرمناها لك ، فقال : يا رسول الله إن في قلبي اليوم من الإيمان ما لم يكن يومئذ .

ورواه جرير بن عبد الحميد عن عبد العزيز بن رفيع ، عن أناس من آل صفوان ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : يا صفوان ، هل عندك من سلاح ؟ قال : عارية أم غصب ؟ قال : بل عارية . فأعاره ما بين الثلاثين إلى الأربعين ، ثم ساق مثل حديث أبي الأحوص - سواء إلى آخره - بمعناه .

حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا جرير فذكره .

واحتج أيضا من ضمن العارية بما حدثنا عبد الله بن محمد بن يحيى قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا مسدد بن مسرهد قال : حدثنا يحيى ، عن ابن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن في هذا الحديث فقال : هو أمينك لا ضمان عليه .

[ ص: 43 ] وحدثنا عبد الوارث قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن الجهم قال : حدثنا عبد الوهاب قال : أخبرنا سعيد عن قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : على اليد ما أخذت حتى تؤديه ، ثم إن الحسن نسي قال : هو أمينك ، فلا ضمان عليه .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن الجهم قال : حدثنا عبد الوهاب قال : أخبرنا سعيد عن قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : على اليد ما أخذت حتى تؤدي ، قال قتادة : ثم إن الحسن نسي هذا الحديث فقال : أمينك لا ضمان عليه .

[ ص: 44 ] قال أبو عمر : قد اختلف في سماع الحسن من سمرة ، وقد ذكرنا ذلك فيما سلف من كتابنا والحمد لله .

وأما الصحابة - رضي الله عنهم - فروي عن عمر وعلي أن لا ضمان في العارية ، وروي عن ابن عباس وأبي هريرة أنها مضمونة ، والله الموفق للصواب .




الخدمات العلمية