الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 378 ] باب على من يجب التأقيت في الإيلاء ومن يسقط عنه

                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " ولا تعرض للمولي ولا لامرأته حتى يطلب الوقف بعد أربعة أشهر فإما أن يفيء وإما أن يطلق " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : قد مضى الكلام في شروط الإيلاء ، فأما أحكامه فهي أن ينتظر به مدة التربص التي جعلها الله له ، وهي أربعة أشهر لا مطالبة عليه فيها بشيء : لأن الله تعالى أنظره بها فصار كالإنظار بآجال الديون لا يجوز المطالبة بها قبل انقضائها ، وأول وقت التربص من وقت الإيلاء ، لا من وقت المحاكمة ، بخلاف أجل العنة الذي يكون أوله من وقت المحاكمة ، والفرق بينهما من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن مدة الإيلاء مقدرة بالنص فلم تفتقر إلى حكم ، ومدة العنة مقدرة بالاجتهاد ، فافتقرت إلى حكم .

                                                                                                                                            والثاني : أن الإيلاء يقين فكان أول مدته من وقت وجوده ، والعنة مظنونة فكان أول مدتها من وقت التحاكم فيها ، فإذا انقضت مدة التربص بمضي أربعة أشهر استحقت الزوجة المطالبة ، إلا أنه لا اعتراض عليها فيه لأنه حق لها من حقوقها المحضة فوقف على خيارها ، فإن طالبت ومطالبتها إما أن تقول بين أمري ، وإما أن تقول أخرج إلي من حقي ، فإذا طالبت بأحد هذين الأمرين قيل للزوج قد خيرك الله تعالى بين أمرين : إما الفيئة أو الطلاق ، ويجوز أن يقول له ذلك حاكم وغير حاكم لأن هذا الحكم مأخوذ من النص ، فلم يفتقر إلى حكم إلا أن الذي يجبر عليه هو الحاكم : لأنه هو الذي يجبر على تأدية الحقوق ، فإن فاء فحكم الفيئة ما مضى ، وإن طلق فحكم الطلاق ما مضى ، وإن أبى أن يفعل أحدهما فعلى قولين مضيا :

                                                                                                                                            أحدهما : يحبس حتى يفيء أو يطلق .

                                                                                                                                            والثاني : يطلق عليه الحاكم .

                                                                                                                                            مسألة قال الشافعي رضي الله عنه : " ولو عفت ذلك ثم طلبته كان ذلك لها لأنها تركت ما لم يجب لها في حال دون حال " .

                                                                                                                                            [ ص: 379 ] قال الماوردي : إذا عفت الزوجة عن المطالبة بحقها من الإيلاء بعد انقضاء المدة صح عفوها في حقها ، وهو ما كان مأخوذا به من الفيئة أو الطلاق ، ولم يؤثر العفو في حكم اليمين ، لأن الحنث فيه مأخوذ به في حق الله تعالى لا يسقط بعفوها ويكون كحالف ليس بمول .

                                                                                                                                            إن حنث في يمينه ألزم حكم حنثه ، فإن عادت بعد العفو مطالبة بحكم الإيلاء كان ذلك لها ، ولم يكن عفوها مسقطا لحقها على الأبد ، وإنما كان كذلك لما أشار إليه الشافعي رضي الله عنه وهو أن الإيلاء يمين قصد بها إضرار الزوجة ليمتنع من إصابتها بيمينه وهذا الضرر يتجدد مع الأوقات ، فإذا عفت عنه كان عفوها إسقاطا لحقها من الضرر الماضي ، فسقط ، ولم يكن عفوا عن حقها في المستقبل ، لأنه عفو عما لم يجب ، وجرى ذلك مجرى عفوها عن النفقة يسقط حقها الماضي ، ولا يسقط حقها في المستقبل ، وخالف العنة التي تسقط بالعفو ولا يجوز العود في المطالبة بها ، والفرق بينهما أن العنة عيب مستديم يكون العفو عنه إسقاطا ، فجرى مجرى سائر العيوب في النكاح من الجب والبرص والجنون التي تسقط بالعفو ولا يجوز العود فيها ، وليس الإيلاء عيبا وإنما هو ضرر لا يستديم فكان العفو عنه تركا ، ولم يكن إسقاطا كالدين إذا تركه بالإنظار جاز العود فيه .

                                                                                                                                            فإن قيل فهلا كان العفو في الإيلاء جاريا مجرى الإبراء في الدين الذي لا يجوز العود فيه بعد الإبراء منه ، قيل الفرق بينهما أن الإبراء من الدين إسقاط للدين فلم يجز العود فيه بعد سقوطه ، وليس العفو في الإيلاء إسقاطا لليمين ، فجاز العود فيه بعد العفو لثبوته .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية