الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 419 ] مختصر من كتاب الشهادات وما دخله من الرسالة .

باب من تجوز شهادته ومن لا تجوز ومن يشهد بعد رد شهادة من الجامع ومن اختلاف الحكام وأدب القاضي وغير ذلك .

( قال الشافعي ) ليس من الناس أحد نعلمه إلا أن يكون قليلا يمحض الطاعة والمروءة حتى لا يخلطهما بمعصية ولا يمحض المعصية وترك المروءة حتى لا يخلطهما شيئا من الطاعة والمروءة فإن كان الأغلب على الرجل الأظهر من أمره الطاعة والمروءة قبلت شهادته وإذا كان الأغلب الأظهر من أمره المعصية وخلاف المروءة ردت شهادته ولا يقبل الشاهد حتى يثبت عنده بخبر منه أو بينة أنه حر ولا تجوز شهادة جار إلى نفسه ولا دافع عنها ولا على خصم ; لأن الخصومة موضع عداوة ولا لولد بنيه ولا لولد بناته وإن سفلوا ولا لآبائه وأمهاته وإن بعدوا ولا من يعرف بكثرة الغلط أو الغفلة .

ولو كنت لا أجيز شهادة الرجل لامرأته لأنه يرثها ما أجزت شهادة الأخ لأخيه إذا كان يرثه ولا أرد شهادة الرجل من أهل الأهواء إذا كان لا يرى أن يشهد لموافقه بتصديقه وقبول يمينه وشهادة من يرى كذبه شركا بالله ومعصية تجب بها النار أولى أن تطيب النفس بقبولها من شهادة من يخفف المأثم فيها ، وكل من تأول حراما عندنا فيه حد أو لا حد فيه لم نرد بذلك شهادته .

ألا ترى أن ممن حمل عنه الدين وجعل علما في البلدان منهم من يستحل المتعة والدينار بالدينارين نقدا وهذا عندنا وغيرنا حرام وأن منهم من استحل سفك الدماء ولا شيء أعظم منه بعد الشرك ومنهم من تأول فاستحل كل مسكر غير الخمر وعاب على من حرمه ولا نعلم أحدا من سلف هذه الأمة يقتدى به ولا من التابعين بعدهم رد شهادة أحد بتأويل ، وإن خطأه وضلله واللاعب بالشطرنج والحمام بغير قمار وإن كرهنا ذلك أخف حالا .

( قال المزني ) رحمه الله فكيف يحد من شرب قليلا من نبيذ شديد ويجيز شهادته .

( قال الشافعي ) رحمه الله ومن شرب عصير العنب الذي عتق حتى سكر وهو يعرفها خمرا ردت شهادته ; لأن تحريمها نص ومن شرب سواها من المنصف أو الخليطين فهو آثم ولا ترد شهادته إلا أن يسكر ; لأنه عند جميعهم حرام .

( قال الشافعي ) وأكره اللعب بالنرد للخبر وإن كان يديم الغناء ويغشاه المغنون معلنا فهذا سفه ترد به شهادته وإن كان ذلك يقل لم ترد فأما الاستماع للحداء ونشيد الأعراب فلا بأس به { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للشريد أمعك من شعر أمية شيء ؟ قال : نعم ، قال هيه فأنشده بيتا فقال هيه حتى بلغت مائة بيت } { وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحداء والرجز ، وقال لابن رواحة حرك بالقوم فاندفع يرجز } ( قال المزني ) رحمه الله سمعت الشافعي يقول : كان سعيد بن جبير يلعب بالشطرنج استدبارا فقلت له : كيف يلعب بها استدبارا ؟ قال يوليها ظهره ثم يقول بأي شيء وقع " فيقول بكذا فيقول أوقع بكذا .

( قال ) وإذا كان هكذا كان تحسين الصوت بذكر الله والقرآن أولى محبوبا .

( قال الشافعي ) رحمه الله وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي حسن الترنم [ ص: 420 ] بالقرآن } { وسمع النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن قيس يقرأ فقال لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود } .

( قال الشافعي ) رحمه الله لا بأس بالقراءة بالألحان وتحسين الصوت بأي وجه ما كان وأحب ما يقرأ إلي حدرا وتحزينا .

( قال المزني ) رحمه الله سمعت الشافعي يقول : لو كان معنى يتغنى بالقرآن على الاستغناء لكان يتغانى ، وتحسين الصوت هو يتغنى ولكنه يراد به تحسين الصوت ( وقال ) وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه والعصبية المحضة أن يبغض الرجل ; لأنه من بني فلان فإذا أظهرها ودعا إليها وتألف عليها فمردود ، وقد جمع الله تبارك وتعالى المسلمين بالإسلام وهو أشرف أنسابهم فقال جل ثناؤه { إنما المؤمنون إخوة } وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { كونوا عباد الله إخوانا } فمن خالف أمر الله عز وجل وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ردت شهادته والشعر كلام فحسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيحه وفضله على الكلام أنه سائر ، وإذا كان الشاعر لا يعرف بشتم الناس وأذاهم ولا يمتدح فيكثر الكذب المحض ولا يتشبب بامرأة بعينها ولا يشهرها بما يشينها ، فجائز الشهادة وإن كان على خلاف ذلك لم تجز ويجوز شهادة ولد الزنا في الزنا والمحدود فيما حد فيه والقروي على البدوي والبدوي على القروي إذا كانوا عدولا .

وإذا شهد صبي أو عبد أو نصراني بشهادة فلا يسمعها واستماعه لها تكلف وإن بلغ الصبي وأعتق العبد وأسلم النصراني ثم شهدوا بها بعينها قبلتها فأما البالغ المسلم أرد شهادته في الشيء ثم يحسن حاله فيشهد بها فلا أقبلها ; لأنا حكمنا بإبطالها وجرحه فيها ; لأنه من الشرط أن لا يختبر عمله قال : ولو ترك الميت ابنين فشهد أحدهما على أبيه بدين فإن كان عدلا حلف المدعي وأخذ الدين من الاثنين وإن لم يكن عدلا أخذ من يدي الشاهد بقدر ما كان يأخذه منه لو جازت شهادته ; لأن موجودا في شهادته أن له في يديه حقا وفي يدي الجاحد حقا فأعطيته من المقر ولم أعطه من المنكر ، وكذلك لو شهد أن أباه أوصى له بثلث ماله .

التالي السابق


الخدمات العلمية