الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              الآية الموفية عشرين قوله تعالى : { ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض } فيها اثنتا عشرة مسألة : [ ص: 501 ]

                                                                                                                                                                                                              المسألة الأولى : في حكمة الآية : انظروا رحمكم الله إلى مراعاة الباري سبحانه لمصالحنا وحسن تقديره في تدبيره لأحكامنا ; وذلك أنه لما ضرب الرق على الخلق عقوبة للجاني وخدمة للمعصوم ، وعلم أن العلاقة قد تنتظم بالرق في باب الشهوة التي رتبها جبلة ، ورتب النكاح عليها في اتحاد القرون وترتيب النظر ، وشرفه لشرف فائدته ومقصوده من وجود الآدمي عليه صان عنه محل المملوكية لثلاثة أوجه : أحدها : أن فيها سبب الحل وطريق التحريم ، والاستمتاع يكفي .

                                                                                                                                                                                                              الثاني : وهو المقصود صيانة النطفة عن التصوير بصورة الإرقاق .

                                                                                                                                                                                                              الثالث : صيانة لعقد النكاح حين كثر شروطه ، وأعلى درجته ، وكمل صفته ; وقد كان سبق في علمه أن أحوال الخلق ستستقيم بقسمته إلى ضيق وسعة وضرورة أذن في حال الضرورة للحر في تعريض نطفته للإرقاق ، لئلا يكون مراعاة أمر موهوم يؤدي إلى فساد حال متوقعة ، حتى قال بعض العلماء : إن الهوى يجيز نكاح الإماء ، وهذا منتهى نظر المحققين في مطالعة الأحكام من بحر الشرع وساحل العقل ; فاتخذوها مقدمة لكل مسألة تتعلق بها .

                                                                                                                                                                                                              المسألة الثانية : في فهم سياق الآية : اعلموا وفقكم الله تعالى أن العلماء اختلفوا في سياق هذه الآية ; فمنهم من قال : إنها سيقت مساق الرخص ، كقوله : { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين } وقوله : { فلم تجدوا ماء فتيمموا } ونحوه . فإذا كانت كذلك وجب أن تلحق بالرخص التي تكون مقرونة بأحوال الحاجة وأوقاتها ، ولا يسترسل في الجواز استرسال العزائم ; وإلى هذا مال جماعة من الصحابة ، واختاره مالك ; ومنهم من جعلها أصلا ، وجوز نكاح الأمة مطلقا ، ومال إليه أبو حنيفة . [ ص: 502 ] وقد جهل مساق الآية من ظن هذا فقد قال الله تعالى ما يدل على أنه لم يبح نكاح الأمة إلا بشرطين : أحدهما عدم الطول ، والثاني خوف العنت ; فجاء به شرطا على شرط ، ثم ذكر الحرائر من المؤمنات والحرائر من أهل الكتاب ذكرا مطلقا ; فلما ذكر الإماء المؤمنات ذكرها ذكرا مشروطا مؤكدا مربوطا .

                                                                                                                                                                                                              فإن قيل : حلقتم على دليل الخطاب بألفاظ هائلة ، وليس في هذه الآية إلا أن الله تعالى ذكر في نكاح الأمة وصفا أو وصفين فأردتم أن يكون الآخر بخلافه ، وهذا دليل الخطاب الذي نازعناكم فيه مذ كنا وكنتم .

                                                                                                                                                                                                              فالجواب عنه من وجهين : أحدهما : أنا نقول : دليل الخطاب أصل من أصولنا ، وقد دللنا عليه في أصول الفقه وحققناه تحقيقا لا قبل لكم به ، ومن أراد دراه .

                                                                                                                                                                                                              الثاني : أن هذه الآية ليست مسوقة مساق دليل الخطاب كما بينا ; وإنما هي مسوقة مساق الإبدال ، وإنما كانت تكون مسوقة مساق شبه دليل الخطاب لو قلنا : انكحوا المحصنات المؤمنات بطول وعند خوف عنت ، فأما وقد قال : { ومن لم يستطع منكم } ; فقرنه بالقدرة التي رتب عليها الإبدال في الشريعة وأدخلها في بابها بعبارتها ومعناها لم يقدر أحد أن يخرجها عنها ، فليس لرجل حكمه الله واضع .

                                                                                                                                                                                                              ومن غريب دليل الخطاب أن الباري تعالى قد يخص الوصف بالذكر للتنبيه ، وقد يخصه بالعرف ، وقد يخصه باتفاق الحال ، فالأول كقوله تعالى : { فلا تقل لهما أف } ، وقد قال تعالى : { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } فإنه تنبيه على حالة الإثراء ، وخص حالة الإملاق بالنهي ; لأنها هي التي يمكن أن يتعرض الأب لقتل الابن فيها . وكذلك قوله تعالى : [ ص: 503 ] { لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة } خص حالة الإكثار والإثراء التي تتعلق بها النفوس بالنهي ; فأما إذا وقع شرط بقدرة فهو نص في البدلية والرخصة ، وإن وقع بتنبيه مقرونا بحالة أو عادة كان ظاهرا ، كقوله صلى الله عليه وسلم : { من باع نخلا قد أبرت فثمرها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع } . وقد مهدنا ذلك في مسائل الخلاف ، وبينا أن خمسة من الأدلة تقتضي في المعنى أن نكاح الأمة رخصة ، فلما انتهى النظر إلى هذا المقام ، ورأى المحققون من أصحاب أبي حنيفة أن نكاح الأمة رخصة ، وأنه مشروط بعد الطول تحكم في الطول ، وهي :

                                                                                                                                                                                                              المسألة الثالثة : فقال : إن الطول هو وجود الحرة تحته ، فإذا كانت تحته حرة فهو ذو طول ، فلا يجوز له نكاح الأمة ، هذا تأويل أبي يوسف . وتحقيقه عندهم أن الطول في لسان العرب هو القدرة ، والنكاح هو الوطء حقيقة ، فمعناه من لم يقدر أن يطأ حرة فليتزوج أمة ، وهذا هو حقيقة في الذي تحته حرة فلا ينقل إلى المجاز إلا بدليل . أجاب علماؤنا بأن قالوا : الطول هو الغنى والسعة ، بدليل قوله : { استأذنك أولوا الطول منهم } .

                                                                                                                                                                                                              والنكاح هو العقد ، فمعناه من لم يكن عنده صداق حرة فليتزوج أمة ، وكذلك فسره جماعة من الصحابة والتابعين ، ويعضده قوله تعالى : { ذلك لمن خشي العنت منكم } ، وهذا أقوى ألفاظ الحصر ، كقوله في شروط المتعة في الحج : { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } . وأبو حنيفة لا يشترط خوف العنت .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية