الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      [ ص: 376 ] قال المصنف - رحمه الله تعالى : ( وفي خمسة أوسق قولان : ( أحدهما ) لا يجوز ، وهو قول المزني ; لأن الأصل هو الحظر ، وقد ثبت جواز ذلك فيما دون خمسة أوسق لحديث أبي هريرة رضي الله عنه وفي خمسة أوسق شك ; لأنه روي في حديث أبي هريرة " فيما دون خمسة أوسق أو في خمسة أوسق " شك فيه داود بن الحصين فبقي على الأصل ، ولأن خمسة أوسق في حكم ما زاد ، بدليل أنه تجب الزكاة في الجميع فإذا لم تجز فيما زاد على خمسة أوسق لم تجز في خمسة أوسق ( والقول الثاني ) أنه يجوز لعموم حديث سهل بن أبي حثمة ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) الحديث المذكور رواه البخاري ومسلم رحمهما الله من حديث داود بن الحصين عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرايا في خمسة أوسق أو دون خمسة أوسق } هذا لفظ البخاري ، ولفظ مسلم : { رخص في بيع العرايا بخرصها فيما دون خمسة أوسق ، أو في خمسة أوسق } فشك داود ، وقال : " خمسة أو دون خمسة " والقولان نص عليهما الشافعي رضي الله عنه في موضعين على ما سأذكره ( أحد القولين ) أنه لا يجوز ، وهو مذهب أحمد ، وقول المزني ، وألزم به الشافعي ، وقد رأيته منصوصا للشافعي رحمه الله في كتاب الصرف ، وهو في الجزء السادس من الأم في باب العرية ، قال : ولا يشتري من العرايا إلا أقل من خمسة أوسق بشيء ما كان ، فإذا كان أقل من خمسة جاز البيع ، وكذلك قال في مختصر البويطي أيضا : العرية أن يشتري الرجل الرطب بتمر نقدا ما كان خرصه أقل من خمسة أوسق يأكله رطبا ، ولكن المزني ألزمه بحسب ما نقله عنه في المختصر فإن لفظه فيه : ( وأحب إلي أن تكون العرية أقل من خمسة أوسق ، ولا أفسخه في الخمسة الأوسق ; لأنها شك ) وهذا النص منقول من الأم من موضع آخر وتوجيهه ظاهر كما قالهالمصنف ، وكثيرون جزموا بهذا القول .

                                      [ ص: 377 ] وتقدم التنبيه على أن طرق حديث أبي هريرة رضي الله عنه كلها على الشك ، فالجواز فيما دون الخمسة حينئذ ; لأنه ثابت على التقديرين ، إن كان الثابت خمسة أو دون الخمسة ، فدون الخمسة جائز ، إما نصا وإما ضمنا ، والخمسة مشكوك فيها فتبقى على الأصل وهو التحريم الثابت ، فالنهي عن المزابنة وعن الغرر وعن الربا ، ووجه القياس الذي أشار إليه المصنف أن الخمسة تردد إلحاقها بين الناقص عنها والزائد عليها ، وقد عهد من الشرع التسوية بينها وبين الزائد عليها في حكم الزكاة وجعلها في حد الكثير فينبغي أن تلحق به ههنا ويكون أولى من إلحاقها بالناقص الذي لم يقدره الشرع ولم يشهد له نظير ، وهذا الاستدلال نقله القاضي أبو الطيب عن أبي إسحاق وهو لو تجرد عن الأصول المتقدمة كان كافيا في التحريم ، فكيف وقد اعتضد بها ؟ .

                                      واحتج لهذا القول أيضا بما أشار إليه أبو داود في بعض نسخ كتابه ورواه البيهقي من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : " { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة وأذن لأصحاب العرايا أن يبيعوها بمثل خرصها ثم قال : الوسق والوسقين والثلاثة والأربعة } واحتج له الماوردي بما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا صدقة في العرية ، والخمسة الأوسق ثبت فيها الصدقة } وهذا الحديث لا أعرفه ، وسأذكر ما يمكن أن يقال في مقابلة هذا القول - إن شاء الله تعالى ، وممن اختار هذا القول أبو بكر بن المنذر وأبو سليمان الخطابي ورجحه إمام الحرمين وصححه الروياني في حليته والبغوي والشاشي وابن أبي عصرون والغزالي في البسيط والنووي وهو الذي يقتضيه كلام القفال والقاضي حسين .

                                      ( تنبيه ) : نقل ابن الرفعة عن الرافعي أنه اختار قول المنع ومستنده في ذلك أن الرافعي قال : والثاني - وهو المختار - المنع . والظاهر أن الرافعي إنما أراد بذلك أنه مختار المزني في مقابلة ما نقله عن الشافعي رحمه الله - لا أنه مختار الرافعي نفسه ، وكلامه واستقراء عادته يدلان على ذلك ، وأن كلامه فيما بعد يميل إلى ترجيح المنع فإنه قال إنه الأظهر عند صاحب التهذيب والقاضي الروياني [ ص: 378 ] وغيرهما ، وهذه العبارة قد يوجد منها بعض ترجيح وعند التحقيق لا ترجيح فيها أيضا ، والقول [ الذي ] جزم به كثيرون أنه يجوز ، وبه قال مالك رحمه الله - ، ورواية عن أحمد ، وهو الصحيح عند المحاملي وأبي حامد والغزالي في الوجيز ، وهو المنقول عن نصه في باب بيع العرايا من كتاب البيوع من الأم ، قال : ولا يجوز أن يبيع صاحب العرية إلا خمسة أوسق أو دونها وأحب أن يكون دونها ; لأن ليس في النفس منه شيئا ، ولعله في الأم في موضع ولم أمعن الكشف ، وهذا الكلام مع كلام المختصر ليس صريحا في القول بالجواز ، بل كأنه متوقف في ذلك للشك في الرواية ، وإنه إن وقع لا يقول بفسخه لأجل الشك ، فهذا هو التوفية بمقتضى الشك أن لا يجزم فيه بإباحة ولا تحريم ، وتكون ( أو ) في كلامه للشك لا للتخيير ، وقال : أحب أن يكون أقل يعني لئلا يقع في الحرام المحتمل ، ولكن الأصحاب جعلوا ذلك قولا بالجواز وهو الصحيح عند المحاملي ، وكأن الشافعي رضي الله عنه لم ينظر إلى الأصول المذكورة ولا إلى القياس .

                                      أما النهي عن المزابنة فلأنه ورد مستثنى منه العرايا ، والعرايا قد وقع الشك في مقدارها فيكون ذلك كتخصيص العام بمجمل ، فإنه يمنع الاحتجاج به ، كذلك هنا يمتنع الاحتجاج بعموم النهي عن المزابنة في الخمسة ، وهذه مسألة مقررة في أصول الفقه .

                                      فالشك الذي في مقدار الرخصة يقتضي الشك في مقدار النهي عنه ، ويعدل إلى دليل آخر ، وقد نبه الأصحاب على ذلك ، ومثل ذلك ما قاله إمام الحرمين فيما إذا قال : وقفت على أولادي وأولاد أولادي إلا من يفسق منهم ، لما اعتقد أن ذلك متردد بين عود الأشياء إلى الكل أو إلى الأخير ، وحكم مع ذلك بأنه لا يصرف إلا إلى الأولاد لأجل التردد ، ومثل ذلك بحث جرى بيني وبين شيخنا أي ابن الرفعة في قوله صلى الله عليه وسلم { المؤمنون عند شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا } ورام الاستدلال بذلك على أنه متى شك في شرط وجب إدراجه في العموم ، والحكم بصحته حتى يقوم دليل على منعه ، وليس بجيد لما ذكرته مع المرجح عند الأصوليين ، نعم لو كان المنهي عن المزابنة في مجلس والترخيص المشكوك فيه في مجلس آخر - لم يقدح في التمسك بالعموم ، ولم يعلم ذلك ، بل الراوي قال : إلا أنه أرخص في العرايا ، والراوي الآخر شك في مقدارها ، ولعلهما حكيا قصة واحدة فتطرق الشك [ ص: 379 ] إلى عموم النهي ، فيعدل عن ذلك إلى عموم حديث سهل إلا فيما قام الإجماع عليه ، واقتضاه النهي من غير شك ، وهو الزائد على الخمسة ، وهذا أولى من التمسك بعموم النهي عن الغرر ; لأنه أأخص منه مع تفاقم أكثر الأغرار أبيحت وأخرجت من ذلك العموم ، وأولى من التمسك بكون الأصل في الربويات التحريم لما ذكرنا أنه أخص .

                                      وأما القياس المذكور فليس بالقوي ، ويمكن أن يعارض بأن الخمسة عهد اعتبار الشرع لها محلا لوجوب الزكاة ، فلتكن محلا لجواز البيع ، وأما دون الخمسة فلم يعهد اعتباره ، وإلحاق الجواز في الخمسة بوجوب الزكاة فيها أولى من إلحاق المنع فيها بوجوب الزكاة فيها ; لأن الوجوب أشبه بالجواز من المنع ; لأن الوجوب جواز متأكد بالطلب ، ووجه العموم في حديث سهل قوله : رخص في بيع العرايا ، وهو شامل لما إذا كان عليها خمسة أوسق وأكثر ، خرج الأكثر بدليل يقينا فيما عداه على مقتضى الحديث .

                                      وأما حديث جابر فإنه من رواية محمد بن إسحاق ، وفيه كلام ، وإن كان ضعيفا لكن قارن ذلك أن النهي ليس صريحا ; لأن الظاهر أن ذلك خرج على جهة التمثيل ، وإلا فيقتضي أنه لا يجوز أكثر من أربع ، والخصم لا يقول به .

                                      ( واعلم ) أن كل ذلك تمحل ، والإنصاف قول المزني وأن ذلك يمتنع ; لأن الأحاديث الدالة على منع بيع الرطب بالتمر كثيرة وليس في كلها الاستثناء ، فيبقى الذي ليس فيه الاستثناء على عمومه حتى يرد مبيح ، وكثرتها تقتضي الجزم فإنها أحاديث لا حديث واحد ورد الاستثناء معه .

                                      وفي حديث زيد الذي رواه مسلم المذكور فيما تقدم والذي يأتي عقيب هذا ما يدل على تأخر الرخصة عن النهي ، قال فيه : " رخص بعد ذلك في بيع العرية بالرطب أو التمر " يعني بعد النهي عند بيع التمر بالتمر ، قال بعضهم : لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أباح الخمسة لحفظه الله - تعالى حتى يصل إلينا مثبتا .

                                      وحكى القفال أن معنى القولين ههنا يرجع إلى أن النهي عن المزابنة ورد أولا ، ثم رخص في العرايا ، أو لم يرد النهي إلا والرخصة معه ، فعلى الأول وهو الأظهر والأصح لا يجوز في الخمسة ، وعلى الثاني يجوز ، حكاه عن [ ص: 380 ] القفال جماعة منهم القاضي الحسين ، وهذا يشير إلى ما قلته من البحث وهو أحسن في العبارة كما حكاه صاحب العدة عن الشيخ أبي علي أنه قال في الشرح : إن الخبر يعني خبر المزابنة هل مخصوص أو منسوخ ؟ يعني في قدر العرية فيه قولان ( الأصح ) الثاني ومرادهما واحد ، وإنما قلت : إن الأول أحسن ; لأن الرخصة وإن تأخرت لا يلزم أن تكون نسخا ، بل قد تكون تخصيصا وإن تأخر ، والله أعلم .

                                      على أن الذي رأيته في شرح التلخيص أن القفال نقل القولين في كون ذلك نسخا أو تخصيصا كما حكاه صاحب العدة عن أبي علي ، وزعم الإمام أن ظاهر النص التصحيح في الخمسة ، وأن توجيهه عسير جدا ، وأخذ يتخيل بأن يحيل المزابنة على معاملة صادرة عن التحري من غير تثبت في الخرص ، وأن يتخيل الخرص متفاضلا في درك المقادير معتبرا في الزكاة ، سيما إذا جعلناه تضمينا ، والماهر يقل خطؤه ، والأخرق يتفاوت كيله ، والكيل بالإضافة إلى الوزن كالخرص بالإضافة إلى الكيل ، وفي كل حالة تقدير معتاد لائق بها ، فليقم الخرص في الرطب الذي لا يمكن كيله مقام الكيل ، وإذا احتمل الكيل ليسره مع إمكان الوزن فليحتمل الخرص حيث لا يتأتى الكيل ، والشافعي رحمه الله - يمنع بيع الرطب بالتمر لما يتخيله من التفاوت عند الجفاف ، متمسكا بقوله صلى الله عليه وسلم : " أينقص الرطب إذا يبس ؟ وهذه إشارة إلى المآل ، وما وراء الخمسة مردود بذكر الخمسة ، فإن التقدير نص في اقتضاء المفهوم ، قال : فهذا اقتضى الإمكان في توجيه النص ، وهو على نهاية الإشكال . ( قلت ) : وقد تقدم توجيهه بغير ذلك ، مع أن ظاهر النصوص خلافه ، وعلى مساق بحث الإمام وتخيله له يكون الأصل الجواز بالخرص ، وأخرج من ذلك ما زاد على الخمسة بالمفهوم ، بقيت الخمسة على مقتضى الأصل من الجواز وليس مع ذلك على نهاية الإشكال .

                                      وقد تعرض الإمام في كتاب الرهان في أصول الفقه لهذا البحث عند الكلام في النقص قال : الأصل الكيل أو الوزن وأثبت الشرع الخرص لحاجة في قضية مخصوصة ، فهو من المستثناة ، قال : ولكن ينقدح في هذا المجال أن الوزن أضبط من الكيل ، ثم الكيل متعين في بعض الأشياء مع إمكان الوزن ، فالخرص في محل الحاجة كالكيل في المكيل [ ص: 381 ] بالإضافة إلى الوزن ، فلا يتضح خروج الخرص بالكلية عن القانون حسب إيضاح خروج حمل العاقلة والكتابة الفاسدة .



                                      وقال أبو الحسن علي بن إسماعيل بن حسن الصنهاجي ثم الأنباري المالكي في شرحه : كذلك اختلف الناس في الخرص في الموضع المسموع ، هل هو أصل منفرد بنفسه غير رخصة ؟ أو هو معدود من الرخص ؟ ويظهر أثر هذا الاختلاف في مسائل : ( منها ) أنه هل يجوز أن يجمع في عقد واحد بين مكيل وجزاف أو يمنع ذلك كما يمنع البيع والقراض على رأي من منع ذلك ؟ والمشهور - عندهم على ما قال - المنع ، بناء على الرخصة فيما تشق معرفة مقداره : هو الكيل أو الوزن ، وأما ما لا تشق فلا يجوز الخرص فيه كالمعدود إلا أن يكون كثيرا كالجوز واللوز مثلا ، أو متفاوت الأجرام ، ولذلك اختلفوا في بيع العرايا في خمسة أوسق . وهذا الاختلاف ينبني على أن الأصل جواز الخرص إلا في موضع تحقق المنع ، أو الأصل المنع إلا في مواضع الإباحة ، قال : ( والأول ) هو المذهب . ( والثاني ) قول لبعضهم أي لبعض الأصحاب معنى عندهم . ( قلت : ) وإذا أخذ الخرص حيث الجملة فيظهر ترجيح اعتباره ، وأنه ليس من الغرر المجتنب لجواز إيراد العقد على الثمرة على رءوس النخل بالدراهم ، وأما الخرص في بيع الربوي بجنسه فينبغي أن يترجح أن الأصل المنع ; لأن المماثلة شرط ، والأصل عدمها ، والله أعلم .



                                      ( فرع ) إذا قلنا : يجب النقص عن الخمسة فهل يكفي أي قدر كان أم له ضابط ؟ الذي نص عليه الشافعي والأصحاب منهم الماوردي : الأول ، فإنه قال في باب العرية من الأم : ولا يشتري من العرايا إلا أقل من خمسة أوسق بشيء ما كان ، وقال الفوراني : يجوز في الأربعة ولا يجوز في ستة ، وفي الخمسة قولان ، وهذا على جهة ضرب المثال ، ونقل جماعة عن ابن المنذر أنه قال : وقد روى جابر ما ينتهي به إلى أربعة أوسق فهو المباح ، وما زاد عليه محظور ، ولم أر هذا الكلام في الأشراف ، وإنما أطلق فيه الإباحة فيما دون الخمسة ، ولعله في الأوسط أو غيره من كتبه . والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية