الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
كتاب الديات قال ( وفي شبه العمد دية مغلظة على العاقلة وكفارة على القاتل ) وقد بيناه في أول الجنايات . [ ص: 271 ] قال : ( وكفارته عتق رقبة مؤمنة ) لقوله تعالى { فتحرير رقبة مؤمنة } الآية ( فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ) بهذا النص ( ولا يجزئ فيه الإطعام ) لأنه لم يرد به نص والمقادير تعرف بالتوقيف ، .

[ ص: 272 ] ولأنه جعل المذكور كل الواجب بحرف الفاء ، أو لكونه كل المذكور على ما عرف ( ويجزئه رضيع أحد أبويه مسلم ) لأنه مسلم به والظاهر بسلامة أطرافه ( ولا يجزئ ما في البطن ) لأنه لا تعرف حياته ولا سلامته . .

التالي السابق


( كتاب الديات )

قال الشراح : ذكر الديات بعد الجنايات ظاهر المناسبة ، لما أن الدية إحدى موجبي الجناية في الآدمي المشروعين صيانة ، لكن القصاص أشد صيانة فقدم انتهى .

أقول : يرد على ظاهر هذا الوجه أنه إنما يقتضي أن يذكر الديات في كتاب الجنايات كالقصاص بأن يوضع لكل واحد منهما باب مستقل من كتاب الجنايات لكون كل منهما موجب الجنايات ، لا أن يجعل الديات كتابا على حدة كما هو الواقع في الكتاب : والجواب أن مقصودهم هنا بيان وجه مناسبة ذكر الديات بعد ذكر الجنايات ، وهذا [ ص: 271 ] المقصود يحصل بما ذكروه قطعا .

وأما جعل الديات كتابا على حدة دون باب من أبواب الجنايات فله وجه آخر لم يذكروه أصالة ، وهو أنه لما كثرت مسائل الديات ومباحثها استحقت أن يجعل كتابا على حدة ككتاب الطهارات بالنسبة إلى سائر شروط الصلاة وكتاب الصرف بالنسبة إلى سائر أنواع البيع . ثم اعلم أن ما وقع في الكتاب وضع القدوري في مختصره ، وأما الشيخ أبو الحسن الكرخي فقدم في مختصره كتاب الديات على كتاب الجنايات ، والشيخ أبو جعفر الطحاوي قدم القصاص على الديات ، ولكن جعلهما في كتاب واحد وترجم الكتاب بكتاب القصاص والديات ، والإمام محمد رحمه الله ذكر أحكام الجنايات في كتاب الديات ولم يسم كتاب الجنايات أصلا ، لأن عامة أحكام الجنايات هي الديات ، فإن القصاص لا يجب إلا بالعمد المحض والدية تجب في شبه العمد ، وفي الخطإ وفي شبه الخطإ ، وفي القتل بسبب ، وفي العمد أيضا إذا تمكن فيه الشبهة فرجح جانب الدية في نسبة الكتاب إليها .

ثم إن الدية مصدر ودى القاتل المقتول إذا أعطى وليه المال الذي هو بدل النفس ، ثم قيل لذلك المال الدية تسمية بالمصدر ، كذا ذكر في المغرب وعامة الشروح . قال في القاموس : الدية بالكسر : حق القتيل جمعها ديات . وقال في الصحاح : وديت القتيل أديه دية : إذا أعطيت ديته . وقال في الكافي : الدية المال الذي هو بدل النفس ، والأرش اسم للواجب على ما دون النفس انتهى .

أقول : الظاهر من هذه المذكورات كلها أن تكون الدية مختصة بما هو بدل النفس ، وينافيه ما سيجيء في الفصل الآتي من أن في المارن الدية وفي اللسان الدية وفي اللحية الدية وفي شعر الرأس الدية وفي الحاجبين الدية وفي العينين الدية وفي اليدين الدية وفي الذكر الدية وفي الرجلين الدية إلى غير ذلك من المسائل التي أطلقت الدية فيها على ما هو بدل ما دون النفس ، وكذا ما ورد في الحديث وهو ما روى سعيد بن المسيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { في النفس الدية ، وفي اللسان الدية ، وفي المارن الدية } وهكذا هو في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم رضي الله عنه كما سيأتي .

فالأظهر في تفسير الدية ما ذكره صاحب الغاية آخرا ، فإنه بعد أن ذكر مثل ما ذكر في المغرب وعامة الشروح قال : والدية اسم لضمان يجب بمقابلة الآدمي أو طرف منه ، سمي بها لأنها تودى عادة ، لأنه قلما يجري فيه العفو لعظم حرمة الآدمي انتهى

( قوله وكفارته عتق رقبة مؤمنة لقوله تعالى { فتحرير رقبة مؤمنة } الآية { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين } بهذا النص ) قال صاحب العناية في شرح هذا المقام : وكفارته عتق رقبة مؤمنة لقوله تعالى { فتحرير رقبة مؤمنة } إلى قوله { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين } الآية ، وهو نص في كونها بالتحرير أو الصوم فقط فلا يجزئ فيه الإطعام لأنه لم يرد به نص ، والمقادير تعرف بالتوقيف انتهى .

أقول : أخل الشارح المذكور بحق المقام في تحريره هذا أما أولا فلأنه خص بالذكر في بيان كفارة شبه العمد عتق رقبة مؤمنة ، وجعل قوله تعالى { فتحرير رقبة مؤمنة } إلى قوله { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين } دليلا عليه ، فقد قصر في البيان حيث لم يذكر كون كفارته شهرين متتابعين إذا لم يجد رقبة مؤمنة ، ولم يصب في سوق الدليل حيث جعل الدليل على كون كفارته عتق رقبة مؤمنة مجموع قوله تعالى { فتحرير رقبة مؤمنة } إلى قوله { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين } مع أن الدليل عليه قوله تعالى { فتحرير رقبة مؤمنة } وحده ، وإنما قوله تعالى { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين } دليل على القسم الآخر من كفارته الذي لم يذكره في المدعي ، بخلاف تحرير المصنف فإنه بين كل واحد من قسمي كفارته على ترتيبهما حيث قال : وكفارته عتق رقبة مؤمنة ، ثم قال : فإن لم يجد فصيام شهرين [ ص: 272 ] متتابعين .

واستدل على كل واحد منهما بدليل مستقل حيث قال في تعليل الأول لقوله تعالى { : فتحرير رقبة مؤمنة } ولم يذكر آخر الآية . وقال في تعليل الثاني بهذا النص : أي بآخر هذا النص وهو قوله تعالى { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين } .

وأما ثانيا فلأنه قال : وهو نص في كونها بالتحرير أو الصوم فقط ، وفرع عليه قوله فلا يجزئ فيه الإطعام ، فإن كان مدار قيد فقط في قوله وهو نص في كونها بالتحرير أو الصوم فقط وكذا مدار التفريع في قوله فلا يجزئ فيه الإطعام ، على أن تخصيص التحرير والصوم بالذكر في الآية يدل على نفي ما عداهما كان ذلك قولا بمفهوم المخالفة ، وهو ليس بحجة عندنا ، وإن كان مدارهما على ما ذكره المصنف فيما بعد من الاستدلال بالآية المذكورة على عدم إجزاء الإطعام بوجهين آخرين ، وهما قوله : ولأنه جعل المذكور كل الواجب بحرف الفاء ، وقوله : أو لكونه كل المذكور على ما عرف كان قوله لأنه لم يرد به نص إلخ بعد تفريع عدم إجزاء الإطعام على ما قبله كلاما مختلا ، إذ يكون المفرع عليه إذ ذاك دليلا على المفرع فيصير قوله فلا يجزئ فيه الإطعام من قبيل تفريع المدعي على الدليل فلا جرم يصير قوله لأنه لم يرد به نص إلخ دليلا آخر على ذلك المدعي فيجب فيه زيادة واو العطف بأن يقال : ولأنه لم يرد به نص إلخ كما لا يخفى على من له دربة بأساليب الكلام ، بخلاف تحرير المصنف فإنه جعل قوله ولا يجزئ فيه الإطعام كلاما مبتدأ مطلوبا بالبيان على الاستقلال ، واستدل عليه بوجوه ثلاثة كما ترى فلا غبار في أسلوب تحريره أصلا ( قوله ولأنه جعل المذكور كل الواجب بحرف الفاء ) قال الشراح : يعني أن الواقع بعد فاء الجزاء يجب أن يكون كل الجزاء ، إذ لو لم يكن كذلك لالتبس فلا يعلم أنه هو الجزاء أو بقي منه شيء ومثله مخل انتهى .

أقول : يشكل هذا بالحرمان عن الميراث فإنه جزاء القتل أيضا في العمد وشبهه والخطأ وشبهه كما مر في أول كتاب الجنايات مع أنه ليس بداخل في الواقع بعد فاء الجزاء في الآية المذكورة فليتأمل ( قوله أو لكونه كل المذكور على ما عرف ) يعني لو كان الغير مرادا لذكره لأنه موضع [ ص: 273 ] الحاجة إلى البيان ، وحيث لم يذكر دل أنه غير مراد لأن السكوت عن البيان في موضع الحاجة إلى البيان بيان كما عرف في أصول الفقه ، كذا في الشروح كلها .

قال صاحب الكفاية بعد ذلك : لا يقال : إن السكوت لا يدل على أن المذكور كل الواجب لقول النبي عليه الصلاة والسلام { ألا إن قتيل خطإ العمد قتيل السوط والعصا ، وفيه مائة من الإبل } ولم يذكر فيه الكفارة ، ومع ذلك قلتم بوجوب الكفارة . لأنا نقول : ثمة وجد بيان بنص آخر ; أو نقول : لا نسلم ، فإنه قال الجرجاني : وجدت رواية عن أصحابنا أن الكفارة لا تجب في شبه العمد انتهى .

أقول : في كل من جوابيه نظر . أما في الأول فلأن التشبث بوجود نص آخر في مادة النقض وعدم وجوده فيما نحن فيه مصير إلى الاستدلال بالوجه الأول الذي ذكره المصنف بقوله لأنه لم يرد به نص فيلزم أن لا يكون هذا الوجه الذي هو مورد السؤال دليلا مستقلا ، بل يلزم أن يكون مستدركا . وأما في الثاني فلأن اللازم للمجيب دفع النقض عما ذكر في الكتاب لأنه هو المورد للسؤال .

ولا شك أن ما ذكر فيه مبني على وجوب الكفارة في شبه العمد ، وأما رواية عدم وجوبها فيه فبمعزل عنه فلا وجه للمصير إليه هنا كما لا يخفى . ثم إن صاحب العناية قال في تفسير قول المصنف أو لكونه كل المذكور : أي لكون الصيام كل المذكور وتبعه العيني . أقول : ليس ذاك بسديد ، إذ لا يخفى أن كل المذكور في حق كفارة القتل في كتاب الله تعالى إنما هو تحرير رقبة مؤمنة وصيام شهرين متتابعين لا الصيام وحده .

وأما إطلاق الكل على الصيام لكونه الجزء الأخير الذي يتم به الكل فأمر قبيح لا يناسب شرح الكتاب . فالحق في التفسير أن يقال : أي ولكون ما ذكرنا من التحرير والصيام كل المذكور




الخدمات العلمية