الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 263 ] قوله: عز وجل:

وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين

أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية -بعد الأمر بقتال المشركين- بأن يكون متى طلب مشرك عهدا يأمن به يسمع القرآن ويرى حال الإسلام أن يعطيه ذلك، وهي الإجارة وهو من الجوار.

ثم أمر بتبليغه المأمن إذا لم يرض الإسلام ولم يهد إليه، وقال الحسن: هي محكمة سنة إلى يوم القيامة، وقال مجاهد ، وقال الضحاك ، والسدي : هذا منسوخ بقوله تعالى: فاقتلوا المشركين ، وقال غيرهما: هذه الآية إنما كان حكمها مدة الأربعة الأشهر التي ضربت لهم أجلا.

وقوله سبحانه: حتى يسمع كلام الله يعني القرآن، وهي إضافة صفة إلى موصوف، لا إضافة خلق إلى خالق، والمعنى: ويفهم أحكامه وأوامره ونواهيه، فذكر السماع بالآذان إذ هو الطريق إلى الفهم، وقد يجيء السماع في كلام العرب مستعملا بمعنى الفهم، كما تقول لمن خاطبته فلم يقبل منك: "أنت لم تسمع قولي"، تريد: لم تفهمه، وذلك في كتاب الله تعالى في عدة مواضع. و"أحد" في هذه الآية مرتفع بفعل يفسره قوله تعالى: استجارك ويضعف فيه الابتداء لولاية الفعل لـ"إن". وقوله تعالى: "ذلك" إشارة إلى هذا اللطف في الإجارة والإسماع وتبليغ المأمن، و"لا يعلمون" نفي علمهم بمراشدهم في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم. [ ص: 264 ] وقوله تعالى: كيف يكون للمشركين عهد عند الله الآية.

لفظ استفهام وهو على جهة التعجب والاستبعاد، أي: على أي وجه يكون للمشركين عهد وهم قد نقضوا وجاهروا بالتعدي؟ ثم استثنى من عموم المشركين القوم الذين عوهدوا عند المسجد الحرام ، أي: في ناحيته وجهته، وقال ابن عباس رضي الله عنهما فيما روي عنه: المعني بهذا قريش. وقال السدي : المعني بنو جذيمة من الديل، وقال ابن إسحاق : هي قبائل بني بكر، كانوا دخلوا وقت الحديبية في المدة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش، فلم يكن نقض إلا قريش وبنو الديل من بني بكر، فأمر المسلمون بإتمام العهد لمن لم يكن نقض، وقال قوم: المعني خزاعة، قاله مجاهد ، وهو مردود بإسلام خزاعة عام الفتح، وقال بعض من قال إنهم قريش: إن هذه الآية نزلت فلم يستقيموا، بل نقضوا فنزل تأجيلهم أربعة أشهر بعد ذلك، وحكى الطبري هذا القول عن ابن زيد ، وهو ضعيف متناقض، لأن قريشا وقت الأذان بالأربعة الأشهر لم يكن منهم إلا مسلم ، وذلك بعد فتح مكة بسنة، وكذلك خزاعة، قاله الطبري وغيره.

وقوله تعالى: إن الله يحب المتقين يريد به الموفين بالعهد من المؤمنين، فلذلك جاء بلفظ معرف للوفاء بالعهد متضمن الإيمان.

التالي السابق


الخدمات العلمية