الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
البحث السادس

ينتظم قواعد تتعلق بالتشبيه

الأولى قد تشبه أشياء بأشياء ثم تارة يصرح بذكر المشبهات ، كقوله تعالى : وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء ( غافر : 58 ) وتارة لا يصرح به بل يجيء مطويا على سنن الاستعارة ؛ كقوله : وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ( فاطر : 12 ) ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ( الزمر : 29 ) الآية .

قال الزمخشري : والذي عليه علماء البيان أن التمثيلين جميعا من جملة التمثيلات المركبة لا المفرقة ؛ بيانه أن العرب تأخذ أشياء فرادى فتشبهها بنظائرها كما ذكرنا وتشبه كيفية حاصلة من مجموع أشياء تضامت حتى صارت شيئا واحدا بأخرى ، كقوله تعالى : مثل الذين حملوا التوراة ( الجمعة : 5 ) الآية .

ونظائره من حيث اجتمعت تشبيهات ؛ كما في تمثيل الله حال المنافقين أول سورة البقرة ، قال الزمخشري : وأبلغه الثاني ؛ لأنه أدل على فرط الحيرة ، وشدة الأمر وفظاعته ؛ ولذلك أخر ، قال : وهم يتدرجون في نحو هذا من الأهون إلى الأغلظ .

الثانية : أعلى مراتب التشبيه في الأبلغية ترك وجه الشبه وأداته ، نحو : زيد أسد ، أما ترك وجهه وحده فكقوله : زيد كالأسد ، وأما ترك أداته وحدها فكقوله : زيد الأسد شدة .

[ ص: 476 ] وفي كلام صاحب " المفتاح " إشارة إلى أن ترك وجه الشبه أبلغ من ترك أداته ؛ قال : لعموم وجه الشبه .

وخالفه صاحب " ضوء المصباح " ؛ لأنه إذا عم واحتمل التعدد ، ولم تبق دلالته على ما به الاشتراك دلالة منطوق بل دلالة مفهوم ؛ فيحتمل أن يكون ما به الاشتراك صفة ذم لا مدح ، وهو غير لازم في ترك الأداة ، إلا أن يقال : يلزم مثله من تركها ؛ لأن قرينة ترك الأداة تصرف إرادة المدح دون الذم .

وذكرهما كقولك : زيد كالأسد شدة .

الثالثة : قد تدخل الأداة على شيء وليس هو عين المشبه ، ولكنه ملتبس به ، واعتمد على فهم المخاطب ، كما قال تعالى : كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم ( الصف : 14 ) الآية ، المراد : كونوا أنصارا لله خالصين في الانقياد ؛ كشأن مخاطبي عيسى إذ قالوا .

ومما دل على السياق قوله تعالى : وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة ( الأعراف : 171 ) وفيه زيادة ، وهو تشبيه الخارق بالمعتاد .

الرابعة : إذا كانت فائدته إنما هي تقريب الشبه في فهم السامع وإيضاحه له ، فحقه أن يكون وجه الشبه في المشبه به أتم ، والقصد التنبيه بالأدنى على الأعلى ، مثل قياس النحوي ؛ ولا سيما إذا كان الدنو جدا أو العلو جدا ، وعليه بنى المعري قوله :


ظلمناك في تشبيه صدغيك بالمسك وقاعدة التشبيه نقصان ما يحكى

وقول آخر :

[ ص: 477 ]

كالبحر والكاف أنى ضفت زائدة     فيه فلا تظننها كاف تشبيه

وأما قوله تعالى : مثل نوره كمشكاة ( النور : 35 ) فيمكن أن يكون المشبه به أقوى ؛ لكونه في الذهن أوضح ؛ إذ الإحاطة به أتم .

وأما قوله تعالى : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم ( آل عمران : 59 ) فهو من تشبيه الغريب بالأغرب ؛ لأن خلق آدم أغرب من خلق عيسى ؛ ليكون أقطع للخصم ، وأوقع في النفس ، وفيه دليل على جواز القياس ، وهو رد فرع إلى أصل لشبه ما ؛ لأن عيسى رد إلى آدم لشبه بينهما ، والمعنى أن آدم خلق من تراب ، ولم يكن له أب ولا أم ، فكذلك خلق عيسى من غير أب .

وقوله : كأنهم خشب مسندة ( المنافقون : 4 ) شبههم بالخشب ؛ لأنه لا روح فيها ، وبالمسندة ؛ لأنه لا انتفاع بالخشب في حال تسنيده .

الخامسة : الأصل دخول أداة التشبيه على المشبه به ، وهو الكامل ، كقولك : ليس الفضة كالذهب ، وليس العبد كالحر ، وقد تدخل على المشبه لأسباب :

منها : وضوح الحال ؛ كقوله تعالى : وليس الذكر كالأنثى ( آل عمران : 36 ) فإن الأصل : وليس الأنثى كالذكر ، وإنما عدل عن الأصل ؛ لأن معنى وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت لها ؛ لأن الأنثى أفضل منه ، وقيل : لمراعاة الفواصل ؛ لأن قبله إني وضعتها أنثى ( آل عمران : 36 ) .

ووهم ابن الزملكاني في " البرهان " حيث زعم أن هذا من التشبيه المقلوب ، وليس كذلك لما ذكرنا من المعنى .

[ ص: 478 ] وقيل : لما كان جعل الفرع أصلا والأصل فرعا في التشبيه في حالة الإثبات ، يقتضي المبالغة في التشبيه ، كقولهم : القمر كوجه زيد ، والبحر ككفيه ، كان جعل الأصل فرعا والفرع أصلا في كماله الذي يقتضي نفي المبالغة في المشابهة لا نفي المشابهة ، وذلك هو المقصود هنا ؛ لأن المشابهة واقعة بين الذكر والأنثى في أعم الأوصاف وأغلبها ، ولهذا يقاد أحدهما بالآخر .

ومنها قصد المبالغة ، فيقلب التشبيه ، ويجعل المشبه هو الأصل ، ويسمى تشبيه العكس ؛ لاشتماله على جعل المشبه مشبها به ، والمشبه به مشبها ؛ كقوله تعالى : قالوا إنما البيع مثل الربا ( البقرة : 275 ) كان الأصل أن يقولوا : إنما الربا مثل البيع ؛ لأن الكلام في الربا لا في البيع ، لكن عدلوا عن ذلك وتجرءوا ، إذ جعلوا الربا أصلا ملحقا به البيع في الجواز ، وأنه الخليق بالحل .

ويحتمل أن يكون المراد إلزام الإسلام ، فيحرم البيع قياسا على الربا ؛ لاشتماله على الفضل طردا لأصلهم ، وهو في المعنى نقض على علة التحريم ، ويؤيده قوله تعالى : وأحل الله البيع وحرم الربا ( البقرة : 275 ) وفيه إشارة إلى أن الواجب اتباع أحكام الله واقتفاؤها من غير تعرض لإجرائها على قانون واحد ، وأن الأسرار الإلهية كثيرا ما تخفى ، وهو أعلم بمصالح عباده فيسلم له عنان الانقياد ، وأنهم جعلوا ذلك من باب إلزام الجدلي ، رجاء الجواب بفك الملازمة ، وأن الحكمة فرقت بينهما ، وفيه إبطال القياس في مقابلة النص .

ومنه قوله تعالى : أفمن يخلق كمن لا يخلق ( النحل : 17 ) فإن الظاهر العكس ؛ لأن الخطاب لعبدة الأوثان ؛ وسموها آلهة تشبيها بالله سبحانه ، وقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق ، فخولف في خطابهم ؛ لأنهم بالغوا في عبادتهم وغلوا ، حتى صارت عندهم أصلا في العبادة والخالق سبحانه فرعا فجاء الإشكال على وفق ذلك .

والظاهر أنهم لما قاسوا غير الخالق خوطبوا بأشد الإلزامين ؛ وهو تنقيص المقدس لا تقديس الناقص .

[ ص: 479 ] قال السكاكي : " وعندي أن المراد بـ " من لا يخلق " الحي القادر من الخلق ؛ تعريضا بإنكار تشبيه الأصنام بالله تعالى من طريق الأولى ، وجعل منه قوله تعالى : أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ( الجاثية : 23 ) بدل " هواه إلهه " فإنه جعل المفعول الأول ثانيا والثاني أول ؛ للتنبيه على أن الهوى أقوى وأوثق عنده من إلهه .

ومنه قوله تعالى : أفنجعل المسلمين كالمجرمين ( القلم : 35 ) .

وقوله : أم نجعل المتقين كالفجار ( ص : 28 ) فإن بعضهم أورد أن أصل التشبيه يشبه الأدنى بالأعلى ، فيقال : أفتجعل المجرمين كالمسلمين ، والفجار كالمتقين " فلم خولفت القاعدة .

ويقال : فيه وجهان :

أحدهما : أن الكفار كانوا يقولون : نحن نسود في الآخرة كما نسود في الدنيا ، ويكونون أتباعا لنا ، فكما أعزنا الله في هذه الدار يعزنا في الآخرة ، فجاء الجواب على معتقدهم أنهم أعلى وغيرهم أدنى .

الثاني : لما قيل قبل الآية : وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا ( ص : 27 ) أي : يظنون أن الأمر يهمل ، وأن لا حشر ولا نشر ، ولم يظنوا ذلك ، ولكن يظنون أنا نجعل المؤمنين كالمجرمين والمتقين كالفجار .

السادسة : أن التشبيه إذا كان في الذم يشبه الأعلى بالأدنى ؛ لأن الذم مقام الأدنى ، والأعلى ظاهر عليه ، فيشبه به في السلب ، ومنه قوله : يانساء النبي لستن كأحد من النساء ( الأحزاب : 32 ) أي : في النزول لا في العلو .

ومنه : أم نجعل المتقين كالفجار ( ص : 28 ) أي : في سوء الحال ، [ ص: 480 ] وإذا كان في المدح يشبه الأدنى بالأعلى فيقال : تراب كالمسك ، وحصى كالياقوت ، وفي الذم : مسك كالتراب ، وياقوت كالزجاج .

السابعة : قد يدخل التشبيه على لفظ وهو محذوف لامتناع ذلك ؛ لأنه بسبب المحذوف ، كقوله تعالى : ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع ( البقرة : 171 ) فإن التقدير : ومثل واعظ الذين كفروا ، فالمشبه الواعظ ، والمقصود تشبيه حال الواعظ منهم بالناعق للأغنام ، وهي لا تعقل معنى دعائه ، وإنما تسمع صوته ولا تفهم غرضه ، وإنما وقع التشبيه على الغنم التي ينعق بها الراعي ويمد صوته إليها ، فلم يحمل التشبيه فيها وصوله إلى الراعي الذي يصيح لما كان من الأمر تشبيه ، وفيه وجوه :

أحدها : أن المعنى : مثل الذين كفروا كمثل الغنم لا تفهم نداء الناعق ، فأضاف المثل إلى الناعق ، وهو في المعنى للمنعوق به ، على القلب .

ثانيها : ومثل الذين كفروا ومثلنا ومثلك ، كمثل الذي ينعق ، أي مثلهم في الإعراض ومثلنا في الدعاء والإرشاد ، كمثل الناعق بالغنم ، فحذف المثل الثاني اكتفاء بالأول ، كقوله : سرابيل تقيكم الحر ( النحل : 81 ) .

وثالثها : أن المعنى : ومثل الذين كفروا في دعائهم الأصنام - وهي لا تعقل ولا تسمع - كمثل الذي ينعق بما لا يسمع وعلى هذا فالنداء والدعاء منتصبان بـ " ينعق " و ( لا ) توكيد للكلام ومعناها الإلغاء .

رابعها : أن المعنى ومثل الذين كفروا في دعائهم الأصنام وعبادتهم لها واسترزاقهم إياها ، كمثال الراعي الذي ينعق بأغنامه ويناديها ، فهي تسمع نداء ولا تفهم معنى كلامه ، فيشبه من يدعوه الكفار من المعبودات من دون الله بالغنم من حيث لا تعقل الخطاب .

[ ص: 481 ] وهذا قريب من الذي قبله ، ويفترقان في أن الأول يقتضي ضرب المثل بما لا يسمع الدعاء والنداء جملة ، ويجب صرفه إلى غير الغنم ، وهذا يقتضي ضرب المثل بما لا يسمع الدعاء والنداء جملة ، وإن لم يفهمهما ، والأصنام من حيث كانت لا تسمع الدعاء جملة يجب أن يكون داعيها وناديها أسوأ حالا من منادي الغنم . ذكر ذلك الشريف المرتضى في كتاب " غرر الفوائد " .

ومنه قوله تعالى : كمثل ريح فيها صر ( آل عمران : 117 ) الآية ، وإنما وقع التشبيه على الحرث الذي أهلكته الريح ، يقول : أن يجعله على الحرث وصوله إلى الريح التي أهلكت الحرث لما كانت الريح من الأمر بسبب ، قيل : فيه إضمار ؛ أي : مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح .

قال ثعلب : فيه تقديم وتأخير ، أي : كمثل حرث قوم ظلموا أنفسهم أصابته ريح فيها صر فأهلكته .

وأما قوله تعالى : ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله ( البقرة : 165 ) فإن التقدير : كما يحب المؤمنون الله ، قال : وحذف الفاعل لأنه غير ملتبس .

واعترض عليه بأنه لا حاجة لذلك ؛ فإن المعنى حاصل بتقديره مبنيا للفاعل .

وأجيب بأنه تقدير معنى ، لكن محافظة على اللفظ فلا يقدر الفاعل ، إذ الفاعل في باب المصدر فضلة ، فلذلك جعله كذلك في التقدير .

التالي السابق


الخدمات العلمية