الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا )

الزعم : قول يقترن به الاعتقاد الظني . وهو بضم الزاي وفتحها وكسرها . قال الشاعر ، وهو أبو ذؤيب الهذلي :


فإن تزعميني كنت أجهل فيكم فإني شريت الحلم بعدك بالجهل



وقال ابن دريد : أكثر ما يقع على الباطل . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " مطية الرجل زعموا " . وقال الأعشى :


ونبئت قيسا ولم أبله     كما زعموا خير أهل اليمن

فقال الممدوح ، وما هو إلا الزعم ، وحرمه . وإذا قال سيبويه : زعم الخليل ؛ فإنما يستعملها فيما انفرد الخليل به ، وكان أقوى . وذكر صاحب العين : أن الأحسن في زعم أن توقع على أن قال ، قال : وقد توقع في الشعر على الاسم . وأنشد بيت أبي ذؤيب هذا ، وقول الآخر :


زعمتني شيخا ولست بشيخ     إنما الشيخ من يدب دبيبا

ويقال : زعم بمعنى كفل ، وبمعنى رأس ؛ فيتعدى إلى مفعول واحد مرة ، وبحرف جر أخرى . ويقال : زعمت الشاة ; أي سمنت ، وبمعنى هزلت ، ولا يتعدى . التوفيق : مصدر وفق والوفاق والوفق ضد المخالفة .

( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) سبب نزولها فيما رواه أبو صالح عن ابن عباس . وقاله مجاهد والزهري ، وابن جريج ومقاتل : ما ذكروا في قصة مطولة مضمونها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ مفتاح الكعبة من سادنيها عثمان بن طلحة ، وابن عمه شيبة بن عثمان بعد تأب من عثمان ، ولم يكن أسلم ، فسأل العباس الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجمع له بين السقاية والسدانة ؛ فنزلت فرد المفتاح إليهما ، وأسلم عثمان . وقال الرسول [ ص: 277 ] صلى الله عليه وسلم : خذوها يا بني طلحة خالدة تالدة لا يأخذها منكم إلا ظالم . وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وقاله زيد بن أسلم ، ومكحول ، واختاره أبو سليمان الدمشقي : نزلت في الأمراء أن يؤدوا الأمانة فيما ائتمنهم الله من أمر رعيته . وقيل نزلت عامة ، وهو مروي عن : أبي ، وابن عباس والحسن وقتادة .

ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر وعد المؤمنين ، وذكر عمل الصالحات ، نبه على هذين العملين الشريفين اللذين من اتصف بهما كان أحرى أن يتصف بغيرهما من الأعمال الصالحة ؛ فأحدهما ما يختص به الإنسان فيما بينه وبين غيره ، وهو أداء الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها ، والثاني ما يكون بين اثنين من الفصل بينهما بالحكم العدل الخالي عن الهوى ، وهو من الأعمال العظيمة التي أمر الله بها رسله وأنبياءه والمؤمنين . ولما كان الترتيب الصحيح أن يبدأ الإنسان بنفسه في جلب المنافع ودفع المضار ، ثم يشتغل بحال غيره ، أمر بأداء الأمانة أولا ثم بعده بالأمر بالحكم بالحق . والظاهر في : يأمركم أن الخطاب عام لكل أحد في كل أمانة .

وقال ابن جريج : خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في شأن مفتاح الكعبة . وقال علي وابن أسلم وشهر وابن زيد : خطاب لولاة المسلمين خاصة ؛ فهو للنبي صلى الله عليه وسلم ، وأمرائه ، ثم يتناول من بعدهم . وقال ابن عباس : في الولاة أن يعظوا النساء في النشوز ، ونحوه ، ويردوهن إلى الأزواج . وقيل خطاب لليهود أمروا برد ما عندهم من الأمانة ، من نعت الرسول أن يظهروه لأهله ; إذ الخطاب معهم قبل هذه الآية . ونقل التبريزي : أنها خطاب لأمراء السرايا بحفظ الغنائم ، ووضعها في أهلها . وقيل ذلك عام فيما كلفه العبد من العبادات . والأظهر ما قدمناه من أن الخطاب عام يتناول الولاة فيما إليهم من الأمانات في قسمة الأموال ، ورد الظلامات وعدل الحكومات . ومنه دونهم من الناس في الودائع والعواري والشهادات ، والرجل يحكم في نازلة . قال ابن عباس : لم يرخص الله لموسر ، ولا معسر أن يمسك الأمانة .

وقرئ : " أن تؤدوا الأمانة " على التوحيد ، وأن تحكموا ؛ ظاهره : أن يكون معطوفا على " أن تؤدوا " ، وفصل بين حرف العطف والمعطوف بإذا . وقد ذهب إلى ذلك بعض أصحابنا ، وجعله كقوله : ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ) ( وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا ) ( سبع سماوات ومن الأرض مثلهن ) ففصل في هذه الآية بين الواو والمعطوف بالمجرور . وأبو علي يخص هذا بالشعر ، وليس بصواب . فإن كان المعطوف مجرورا أعيد الجار نحو : امرر بزيد ، وغدا بعمرو . ولكن قوله : وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا ؛ ليس من هذه الآيات ; لأن حرف الجر يتعلق في هذه الآيات بالعامل في المعطوف ؛ والظرف هنا ظاهره أنه منصوب بأن تحكموا ، ولا يمكن ذلك ; لأن الفعل في صلة ( أن ) ، ولا يمكن أن ينتصب بالناصب ; لـ ( أن تحكموا ) ; لأن الأمر ليس واقعا وقت الحكم . وقد خرجه على هذا بعضهم . والذي يظهر أن ( إذا ) معمولة ; لـ ( أن تحكموا ) مقدرة ، وأن تحكموا المذكورة مفسرة لتلك المقدرة ؛ هذا إذا فرعنا على قول الجمهور . وأما إذا قلنا بمذهب الفراء فإذا منصوبة بـ ( أن تحكموا ) هذه الملفوظ بها ; لأنه يجيز : يعجبني العسل أن يشرب ، فتقدم معمول صلة ( أن ) عليها .

( إن الله نعما يعظكم به ) أصله : نعم ما ، و ( ما ) معرفة تامة على مذهب سيبويه والكسائي . كأنه قال : نعم الشيء يعظكم به ; أي شيء يعظكم به . ويعظكم صفة لشيء ، وشيء هو المخصوص بالمدح وموصولة على مذهب الفارسي في أحد قوليه . والمخصوص محذوف التقدير : نعم الذي يعظكم به تأدية الأمانة والحكم بالعدل ، ونكرة في موضع نصب على التمييز ، ويعظكم صفة له على مذهب الفارسي في أحد قوليه ، والمخصوص محذوف تقديره كتقدير ما قبله . وقد تأولت ( ما ) هنا على كل هذه [ ص: 278 ] الأقوال ، وتحقيق ذلك في علم النحو . وقال ابن عطية : وما المردفة على نعم إنما هي مهيئة لاتصال الفعل بها كما هي في ( ربما ) ، و ( مما ) في قوله : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يحرك شفتيه ، وكقول الشاعر :


وإنا لمما نضرب الكبش ضربة     على رأسه تلقي اللسان من الفم

ونحوه . وفي هذا هي بمنزلة ( ربما ) ، وهي لها مخالفة في المعنى ; لأن ( ربما ) معناها التقليل ، ومما معناها التكثير . ومع أن ( ما ) موطئة ، فهي بمعنى الذي . و ( ما ) وطأت إلا وهي اسم ، ولكن القصد إنما هو لما يليها من المعنى الذي في الفعل . انتهى كلامه . وهو كلام متهافت ; لأنه من حيث جعلها موطئة مهيئة لا تكون اسما ، ومن حيث جعلها بمعنى الذي لا تكون مهيئة موطئة فتدافعا . وقرأ الجمهور : ( نعما ) بكسر العين إتباعا لحركة العين . وقرأ بعض القراء : ( نعما ) بفتح النون على الأصل ; إذ الأصل نعم على وزن شهد . ونسب إلى أبي عمرو سكون العين ؛ فيكون جمعا بين ساكنين .

( إن الله كان سميعا ) ; أي لأقوالكم الصادرة منكم في الأحكام .

( بصيرا ) برد الأمانات إلى أهلها .

التالي السابق


الخدمات العلمية