الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم

                                                          * * *

                                                          كان تكرار النداء من موسى عليه السلام لعظم التنبيه، وخطر ما يدعوهم إليه، وعظم شأنه، وكان تكرار كلمة "يا قوم" للإشارة إلى أن فيما يطلبه منهم عزهم جميعا ورفعة أقدارهم، وقد قيلت أقوال كثيرة في الأرض المقدسة، وقد اتفقوا على أن معنى [ ص: 2111 ] التقديس البركة والنماء، فهي مباركة، ولكن ما هي هذه الأرض التي عناها موسى عليه السلام بطلبه، وأصح الأقوال وأولاها هو ما قاله ابن جرير الطبري إذ قال: "وأولى الأقوال عندي بالصواب أن يقال هي الأرض المقدسة، كما قال نبي الله تعالى موسى صلى الله تعالى عليه وسلم، لأن القول في ذلك بأنها أرض دون أرض لا تدرك حقيقته إلا بالخبر، ولا خبر بذلك يجوز قطع الشهادة به، غير أنها لن تخرج من أن تكون الأرض التي ما بين الفرات وعريش مصر، أي أنها تشمل سيناء والشامات كلها بما فيها فلسطين والأردن ولبنان".

                                                          ولا شك أن هذا الكلام جدير بالأخذ، لأن هذه الأرض المقدسة طلب منهم أن يدخلوها بعد أن اجتازوا البحر الأحمر، وعبروه إلى سيناء، وسمي بعضها الوادي المقدس، كما قال تعالى مخاطبا موسى: إنك بالواد المقدس طوى [طه]، وقد خصصها الأكثرون بأرض إيلياء بيت المقدس وما حوله. وقد قرر الله سبحانه أنه كتب لهم أن يدخلوا بقوله تعالى: كتب الله لكم وهنا نجد المفعول غير مذكور، إلا أن المحذوف قد وجد ما يدل عليه، والمعنى كتب لكم أن تدخلوها، أي قدر لكم أن تدخلوها، وفرض عليكم دخولها لإنقاذكم من الأهوال التي نزلت بكم في أرض مصر من فرعون وأعوانه، وقد تعدى فعل كتب باللام، ولم يتعد بعلى للإشارة إلى أن ما فرضه عليهم إنما هو لأجلهم، ولحفظهم، وللإشارة إلى أنه واقع لمنع ضياعهم.

                                                          ولا يصح أن يقدر المفعول ضميرا، كما نهج بعض المفسرين، فيكون تقدير القول "كتبها لكم"، لأن مؤدى ذلك أن تكون لهم دائما، مع أن النص الكريم لا يقتضيه ولا يصرح به، إذ الذي يصرح به أنه سبحانه قدر لهم أن يدخلوها، لا أن يكون قد كتبها وسجلها لهم.

                                                          وقد تمسك شذاب اليهود بأن الله تعالى قد كتب لهم أرض الميعاد، وأن ذلك مذكور في الكتب المقدسة عندهم، والحقيقة أن الله تعالى كتب عليهم أن يدخلوا بعد أن خرجوا مصر ليجدوا فيها مأوى لهم، وإنما الأرض لله يرثها عباده الصالحون، وليسوا منهم. [ ص: 2112 ] ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين توقع موسى عليه السلام أن يتخاذلوا إذ يدعوهم إلى العزة والنصر، فنبههم إلى ما يؤدي إليه التخاذل عن الدخول، وهذا التعبير "ارتد على دبره"، كتعبير "نكص على عقبيه"، وكتعبير "ولوا الأدبار" استعارة تمثيلية فيها تشبيه حال من يرجع عن الجهاد بعد أن توافرت أسبابه بحال من يتراجع سائرا بظهره إلى الوراء بدل أن يسير بمقدمه إلى الأمام، وهذا التعبير يصور قبح التخاذل حسا ومعنى.

                                                          ولقد كان رجوع بني إسرائيل -إذا لم يعملوا على دخول الأرض المقدسة- أن يعودوا إلى حكم فرعون، ويخسروا ما كسبوا من عزة وكرامة وحرية ويذهب عنهم، فإن البقاء على العزة يحتاج إلى مشقة الحصول عليها، ولئن ارتدوا عن العزة بعد نيلها، فإنهم الخاسرون، إذ لا يرضى بالعذاب الهون إلا الأخسرون.

                                                          وإن بني إسرائيل كانوا قد ضعفت همتهم، وماتت عزائمهم; ولذلك أجابوا دعوة العزة بقولهم:

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية