الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فصل في الجنين ) .

قال : ( وإذا ضرب بطن امرأة فألقت جنينا ميتا ففيه غرة وهي نصف عشر الدية ) قال رضي الله عنه : [ ص: 300 ] معناه دية الرجل ، وهذا في الذكر ، وفي الأنثى عشر دية المرأة وكل منهما خمسمائة درهم . والقياس أن لا يجب شيء لأنه لم يتيقن بحياته ، والظاهر لا يصلح حجة للاستحقاق . وجه الاستحسان ما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال { في الجنين غرة عبد أو أمة قيمته خمسمائة } ويروى " أو خمسمائة " فتركنا القياس بالأثر ، وهو [ ص: 301 ] حجة على من قدرها بستمائة نحو مالك والشافعي ( وهي على العاقلة ) عندنا إذا كانت خمسمائة درهم . [ ص: 302 ] وقال مالك : في ماله لأنه بدل الجزء . ولنا أنه عليه الصلاة والسلام { قضى بالغرة على العاقلة } ، ولأنه بدل النفس ولهذا سماه عليه الصلاة والسلام دية حيث قال " دوه " وقالوا : { أندي من لا صاح ولا استهل } الحديث ، إلا أن العواقل لا تعقل ما دون خمسمائة .

التالي السابق


( فصل الجناية في الجنين ) .

لما ذكر أحكام الجناية المتعلقة بالآدمي من كل وجه شرع في بيان أحكامها المتعلقة بالآدمي من وجه دون وجه وهو الجنين . بيان ذلك ما ذكره شمس الأئمة السرخسي في أصوله أن الجنين ما دام مجتنا في البطن ليس له ذمة صالحة لكونه في حكم جزء من الآدمي لكنه منفرد بالحياة معد لأن يكون نفسا له ذمة ، فباعتبار هذا الوجه يكون أهلا لوجوب الحق له من عتق أو إرث أو نسب أو وصية ، وباعتبار الوجه الأول لا يكون أهلا لوجوب الحق عليه ، فأما بعدما يولد فله ذمة صالحة ، ولهذا لو انقلب [ ص: 300 ] على مال إنسان فأتلفه يكون ضامنا له ويلزمه مهر امرأته بعقد الولي ( قوله وهذا في الذكر وفي الأنثى عشر دية المرأة ، وكل منهما خمسمائة درهم ) أقول : في هذا التفصيل الذي ذكره بقوله وهذا في الذكر وفي الأنثى عشر دية المرأة استدراك بعد أن قال قبله معناه دية الرجل ، لأن عشر دية المرأة هو نصف عشر دية الرجل في المقدار بلا ريب ، إذ قد تقرر فيما مر أن دية المرأة نصف دية الرجل فعشر ديتها نصف عشر ديته لا محالة ، وقد نص عليه هنا بقوله وكل منهما خمسمائة درهم ، فما فائدة هذا التفصيل الفارق بين الذكر والأنثى في مجرد العبارة ، وإنما كان يظهر فائدته أن لو لم يفسر نصف عشر الدية الواقع في كلام القدوري بقوله معناه دية الرجل فإنه كان يحتمل حينئذ نصف عشر دية الرجل ونصف عشر دية المرأة فيفيد التفصيل المذكور ، وعن هذا فصل صاحب الكافي كما فصله المصنف ، ولم يتعرض قبله لتقييد عشر الدية بعشر دية الرجل ( قوله والقياس أن لا يجب شيء لأنه لم يتيقن بحياته ) قال في العناية وكثير من الشروح تتميما لما في الكتاب : وفعل القتل لا يتصور إلا في محل هو حي فلا يجب الضمان بالشك انتهى .

أقول : يرد على هذا البيان أنه إنما يتم أن لو ثبت كون الغرة جزاء فعل القتل وهو ممنوع لجواز أن يكون جزاء إتلاف عضو من الآدمي صالح للحياة كما يجب في إتلاف سائر أعضائه شيء من الدية على ما مر تفصيله . والأظهر في البيان هنا ما ذكر في غاية البيان ثانيا بقوله ولأن الجنين في حكم الأعضاء بدلالة أنه لا يكمل أرشه والأعضاء لو انفصلت بعد الموت لا تتقوم انتهى تدبر ( قوله والظاهر لا يصلح حجة للاستحقاق ) قال صاحب العناية في شرح هذا المحل : فإن قيل : الظاهر أنه حي أو معد للحياة . قلنا : الظاهر لا يصلح حجة للاستحقاق ، ولهذا لا يجب في جنين البهيمة إلا نقصان الأم إن تمكن ا هـ .

ورد بعض الفضلاء قوله أو معد للحياة في تقرير السؤال حيث قال : كونه معدا للحياة متيقن ليس من قبيل الظاهر انتهى . أقول : ليس بسديد ، فإن تيقن كونه معدا للحياة ممنوع لجواز أن يفسد الماء في الرحم فحينئذ ينتفي استعداده للحياة ، ولقد أشار إليه في النهاية حيث قال نقلا عن المبسوط : ثم الماء في الرحم ما لم يفسد فهو معد للحياة فيجعل كالحي في إيجاب ذلك [ ص: 301 ] الضمان بإتلافه كما يجعل بيض الصيد في حق المحرم كالصيد في إيجاب الجزاء عليه بكسره انتهى تبصر ( قوله وهي على العاقلة عندنا إذا كانت خمسمائة درهم ) اعلم أن الناظرين في هذا المقام تحيروا في توجيه هذا القيد : أعني قوله إذا كانت خمسمائة درهم ، فقال صاحب النهاية : قيد بهذا احترازا عن جنين الأمة إذا كانت قيمته لا تبلغ خمسمائة درهم كذا وجدت بخط شيخي ، لكن هذا لا يتضح لي لأن ما وجب في جنين الأمة هو في مال الضارب مطلقا من غير تقييد بالبلوغ إلى خمسمائة درهم على ما يجيء ، إلى هنا كلامه . وسائر الشراح أيضا ذكروا التوجيه الذي نقله صاحب النهاية عن خط شيخه ، وردوه بما رده به صاحب النهاية . وقال صاحب الغاية : وقوله إذا كانت خمسمائة كأنه سهو القلم وينبغي أن يكون إذ بسكون الذال بلا ألف بعدها : يعني أنها إنما تجب على العاقلة لأنها مقدرة بخمسمائة درهم ، والعاقلة تعقل خمسمائة ولا تعقل ما دونها انتهى .

وقد نقل صاحب العناية هذا التوجيه ولم يتعرض له برد بعد أن نقل التوجيه الأول مع رده حيث قال : قيل قيد به احترازا عن جنين الأمة إذا كانت قيمته لا تبلغ خمسمائة . ورد بأن ما يجب في جنين الأمة هو في مال الضارب مطلقا من غير تقيد بالبلوغ إلى خمسمائة على ما يجيء .

وقيل لعله وقع سهوا من الكاتب وكان في الأصل إذ كان خمسمائة تعليلا لكونها على العاقلة انتهى .

فكأنه ارتضى التوجيه الثاني . أقول : التوجيه الثاني أيضا مردود عندي ، إذ لا معنى لتعليل كونها على العاقلة بكونها خمسمائة درهم ، فإنه ينتقض بما يجب في جنين الأمة إذا بلغ خمسمائة درهم فإنه على الضارب كما دونه لا على العاقلة كما صرحوا به آنفا حيث قالوا : إن ما وجب في جنين الأمة فهو في مال الضارب مطلقا من غير تقييد بالبلوغ إلى خمسمائة مع جريان التعليل المذكور فيه عند بلوغه إلى خمسمائة درهم ، وينتقض بكل عمد سقط القصاص فيه بشبهة ووجب دية بالغة إلى خمسمائة درهم أيضا فيما فوقها ، فإن مثل ذلك كله في مال القاتل كما مر في الفصل السابق مع جريان التعليل المذكور فيه أيضا . ثم أقول : هنا توجيه آخر لم يذكره الشراح وهو ، [ ص: 302 ] أن يكون القيد المذكور للاحتراز عن جنين الأمة مطلقا بأن يكون معناه إذا كانت خمسمائة درهم على البتات بتقدير الشرع ذلك القدر المعين ، وهذا إنما يكون في جنين الحرة ، فإن الواجب في جنين الأمة نصف عشر قيمته لو كان حيا إن كان ذكرا ، وعشر قيمته حيا إن كان أنثى من غير تعيين قدر معين من العدد فضلا عن أن تبلغ خمسمائة فحينئذ يحصل المرام من غير كلفة كما ترى ( قوله وقال مالك في ماله : لأنه بدل الجزء ) أقول : في تعليله نظر ، لأن مجرد كونه بدل الجزء لا يقتضي كونه في مال الجاني ، بل لا بد من أن يكون البدل أقل من خمسمائة درهم والبدل فيما نحن فيه تمام خمسمائة درهم ، وقد مر قبيل هذا الفصل أن عمد الصبي والمجنون خطأ وفيه الدية على العاقلة ، وكذا كل جناية موجبها خمسمائة فصاعدا .

ويمكن أن يقال : إن مذهب مالك أن لا يجب بدل الجزء على العاقلة فيما إذا كان أقل من ثلث الدية كما صرحوا به ، وما نحن فيه كذلك ، فيكون هذا التعليل من قبيل ذلك ولكنه من باب رد المختلف على المختلف تأمل تقف ( قوله ولأنه بدل النفس ولهذا سماه عليه الصلاة والسلام دية حيث قال " دوه " ) أقول : في الاستدلال على أنه بدل النفس بتسمية النبي عليه الصلاة والسلام دية بحث ، فإنه عليه الصلاة والسلام سمى كثيرا من بدل الأعضاء والأجزاء دية ; ألا يرى إلى ما مر في فصل فيما دون النفس أن سعيد بن المسيب رضي الله عنه روى أن النبي عليه الصلاة والسلام قال { في النفس الدية ، وفي اللسان الدية ، وفي المارن الدية } وهكذا كتب لعمرو بن حزم رضي الله عنه ، وكتب له أيضا " وفي العينين الدية ، وفي إحداهما نصف الدية " إلى غير ذلك ، فليتأمل في الدفع ( قوله إلا أن العواقل لا تعقل ما دون خمسمائة ) قال صاحب الغاية : قول المصنف هذا يتعلق بقوله وهي على العاقلة عندنا إذا كانت خمسمائة ، وكأنه يقول : إذا كانت الغرة أقل من خمسمائة درهم لا تعقله العاقلة .

ولنا فيه نظر ، لأن في جنين الأمة لا وجوب على العاقلة أصلا لأن الواجب في جنين الأمة على الضارب مطلقا انتهى . أقول : نظره ساقط لأن قول المصنف إلا أن العواقل لا تعقل ما دون خمسمائة إنما يدل على أنها تعقل خمسمائة فصاعدا بطريق مفهوم المخالفة وهو ليس بمعتبر عندنا ولئن سلمنا اعتباره عندنا أيضا في الروايات فمفهوم قوله المذكور أنها تعقل خمسمائة فصاعدا في الجملة لأنها تعقلها في كل مادة حتى يرد النقض بالواجب في جنين الأمة إذا بلغ خمسمائة حيث يكون على الضارب لا على العاقلة . وقال صاحب العناية : قول المصنف إلا أن العواقل لا تعقل ما دون خمسمائة جواب عما يقال : الحديث يدل على أن الدية على العاقلة قليلة كانت أو كثيرة ، وأنتم قيدتم بقولكم إذا كانت [ ص: 303 ] خمسمائة وقد علمت ما يرد عليه من النظر انتهى .

أقول : الظاهر أن مراده بما يرد عليه من النظر ما ذكره فيما مر بقوله : ورد بأن ما يجب في جنين الأمة هو في مال الضارب مطلقا من غير تقييد بالبلوغ إلى خمسمائة ، إلا أنك علمت سقوطه أيضا بما بيناه في سقوط نظر صاحب غاية البيان آنفا . ثم أقول : في تقرير مراد المصنف هنا خلل ، إذ لا يتم حينئذ السؤال ولا الجواب . أما الأول فلأن مدلول الحديث المذكور { قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية جنين الحرة على العاقلة } وديته تبلغ خمسمائة درهم بالإجماع ، فمن أين يدل الحديث على أن الدية لو كانت قليلة بحيث لم تبلغ خمسمائة درهم تكون أيضا على العاقلة حتى يتوجه أن يقال إنه ينافي تقييدكم بقولكم إذا كانت خمسمائة درهم . وأما الثاني فلأن الحديث المذكور لو دل على أن الدية سواء كانت أقل من خمسمائة أو أكثر منها على العاقلة لما صلح مجرد قول المصنف إلا أن العواقل لا تعقل ما دون خمسمائة لأن يكون معمولا به في مقابلة ذلك الحديث دون بيان نص يشهد بذلك حتى يصلح للجواب عما ذكره كما قرره .




الخدمات العلمية