الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 198 ] لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما .

لم تخل الحوادث التي أشارت إليها الآي السابقة ، ولا الأحوال التي حذرت منها ، من تناج وتحاور ، سرا وجهرا ، لتدبير الخيانات وإخفائها وتبييتها ، لذلك كان المقام حقيقا بتعقيب جميع ذلك بذكر النجوى وما تشتمل عليه ، لأن في ذلك تعليما وتربية وتشريعا ، إذ النجوى من أشهر الأحوال العارضة للناس في مجتمعاتهم ، لا سيما في وقت ظهور المسلمين بالمدينة ، فقد كان فيها المنافقون واليهود وضعفاء المؤمنين ، وكان التناجي فاشيا لمقاصد مختلفة ، فربما كان يثير في نفوس الرائين لتلك المناجاة شكا ، أي خوفا ، إذ كان المؤمنون في حال مناواة من المشركين وأهل الكتاب ، فلذلك تكرر النهي عن النجوى في القرآن نحو ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى الآيات ، وقوله إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى وقوله وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم ، فلذلك ذم الله النجوى هنا أيضا ، فقال لا خير في كثير من نجواهم . فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا لإفادة حكم النجوى ، والمناسبة قد تبينت .

والنجوى مصدر ، هي المسارة في الحديث ، وهي مشتقة من النجو ، وهو المكان المستتر الذي المفضي إليه ينجو من طالبه ، ويطلق النجوى على المناجين ، وفي القرآن إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى ، وهو وصف بالمصدر والآية تحتمل المعنيين . والضمير الذي أضيف إليه نجوى ضمير جماعة الناس كلهم ، نظير قوله تعالى ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه إلى قوله وما يعلنون في سورة هود ، وليس عائدا إلى ما عادت إليه الضمائر التي قبله في قوله يستخفون من الناس إلى هنا; لأن المقام مانع من عوده إلى تلك الجماعة إذ لم تكن نجواهم إلا فيما يختص بقضيتهم ، فلا عموم لها يستقيم معه الاستثناء في قوله إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس . وعلى هذا فالمقصود من الآية تربية اجتماعية دعت إليها المناسبة ، فإن شأن المحادثات [ ص: 199 ] والمحاورات أن تكون جهرة ، لأن الصراحة من أفضل الأخلاق لدلالتها على ثقة المتكلم برأيه ، وعلى شجاعته في إظهار ما يريد إظهاره من تفكيره ، فلا يصير إلى المناجاة إلا في أحوال شاذة يناسبها إخفاء الحديث . فمن يناجي في غير تلك الأحوال رمي بأن شأنه ذميم ، وحديثه فيما يستحيي من إظهاره ، كما قال صالح بن عبد القدوس :


الستر دون الفاحشات ولا يغشاك دون الخير من ستر

وقد نهى الله المسلمين عن النجوى غير مرة ، لأن التناجي كان من شأن المنافقين فقال : ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه وقال إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا .

وقد ظهر من نهي النبيء - صلى الله عليه وسلم - أن يتناجى اثنان دون ثالث أن النجوى تبعث الريبة في مقاصد المتناجين ، فعلمنا من ذلك أنها لا تغلب إلا على أهل الريب والشبهات ، بحيث لا تصير دأبا إلا لأولئك ، فمن أجل ذلك نفى الله الخير عن أكثر النجوى .

ومعنى لا خير أنه شر ، بناء على المتعارف في نفي الشيء أن يراد به إثبات نقيضه ، لعدم الاعتداد بالواسطة ، كقوله تعالى فماذا بعد الحق إلا الضلال ، ولأن مقام التشريع إنما هو بيان الخير والشر .

وقد نفى الخير عن كثير من نجواهم أو متناجيهم ، فعلم من مفهوم الصفة أن قليلا من نجواهم فيه خير ، إذ لا يخلو حديث الناس من تناج فيما فيه نفع . والاستثناء في قوله إلا من أمر بصدقة على تقدير مضاف ، أي : إلا نجوى من أمر ، أو بدون تقدير إن كانت النجوى بمعنى المتناجين ، وهو مستثنى من " كثير " ، فحصل من مفهوم الصفة ومفهوم الاستثناء قسمان من النجوى يثبت لهما الخير ، ومع ذلك فهما قليل من نجواهم . أما القسم الذي أخرجته الصفة ، فهو مجمل يصدق في الخارج على كل نجوى تصدر منهم فيها نفع ، وليس فيها ضرر ، كالتناجي في تشاور فيمن يصلح لمخالطة ، أو نكاح أو نحو ذلك .

[ ص: 200 ] وأما القسم الذي أخرجه الاستثناء فهو مبين في ثلاثة أمور : الصدقة ، والمعروف ، والإصلاح بين الناس . وهذه الثلاثة لو لم تذكر لدخلت في القليل من نجواهم الثابت له الخير ، فلما ذكرت بطريق الاستثناء علمنا أن نظم الكلام جرى على أسلوب بديع فأخرج ما فيه الخير من نجواهم ابتداء بمفهوم الصفة ، ثم أريد الاهتمام ببعض هذا القليل من نجواهم ، فأخرج من كثير نجواهم بطريق الاستثناء ، فبقي ما عدا ذلك من نجواهم ، وهو الكثير ، موصوفا بأن لا خير فيه وبذلك يتضح أن الاستثناء متصل ، وأن لا داعي إلى جعله منقطعا . والمقصد من ذلك كله الاهتمام والتنويه بشأن هذه الثلاثة ، ولو تناجى فيها من غالب أمره قصد الشر .

وقوله ومن يفعل ذلك إلخ وعد بالثواب على فعل المذكورات إذا كان لابتغاء مرضاة الله ، فدل على أن كونها خيرا وصف ثابت لها لما فيها من المنافع ، ولأنها مأمور بها في الشرع ، إلا أن الثواب لا يحصل إلا عن فعلها ابتغاء مرضاة الله كما في حديث إنما الأعمال بالنيات .

وقرأ الجمهور : " نؤتيه " بنون العظمة على الالتفات من الغيبة في قوله مرضاة الله إلى التكلم .

وقرأه أبو عمرو ، وحمزة ، وخلف بالتحتية على ظاهر قوله ابتغاء مرضاة الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية