الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 6872 ) فصل : ويجب الضمان بالسبب ، كما يجب بالمباشرة ، فإذا حفر بئرا في طريق لغير مصلحة المسلمين ، أو في ملك غيره بغير إذنه ، أو وضع في ذلك حجرا أو حديدة ، أو صب فيه ماء ، أو وضع فيه قشر بطيخ أو نحوه ، وهلك فيه إنسان أو دابة ، ضمنه ; لأنه تلف بعدوانه فضمنه ، كما لو جنى عليه . روي عن شريح ، أنه ضمن رجلا حفر بئرا ، فوقع فيها رجل فمات . وروي ذلك عن علي رضي الله عنه . وبه قال النخعي ، والشعبي ، وحماد ، والثوري ، والشافعي ، وإسحاق .

                                                                                                                                            وإن وضع رجل حجرا ، وحفر آخر بئرا ، أو نصب سكينا ، فعثر بالحجر ، فوقع في البئر ، أو على السكين ، فهلك ، فالضمان على واضع الحجر دون الحافر وناصب السكين ; لأن واضع الحجر كالدافع له ، وإذا اجتمع الحافر والدافع فالضمان على الدافع وحده . وبهذا قال الشافعي . ولو وضع رجل حجرا ، ثم حفر عنده آخر بئرا ، أو نصب سكينا ، فعثر بالحجر ، فسقط عليهما ، فهلك ، احتمل أن يكون الحكم كذلك ; لما ذكرنا . واحتمل أن يضمن الحافر [ ص: 331 ] وناصب السكين ; لأن فعلهما متأخر عن فعله ، فأشبه ما لو كان زق فيه مائع وهو واقف ، فحل وكاءه إنسان ، وأماله آخر ، فسال ما فيه ، كان الضمان على الآخر منهما . وإن وضع إنسان حجرا أو حديدة في ملكه ، أو حفر فيه بئرا ، فدخل إنسان بغير إذنه ، فهلك به ، فلا ضمان على المالك ; لأنه لم يتعد ، وإنما الداخل هلك بعدوان نفسه ، وإن وضع حجرا في ملكه ، ونصب أجنبي فيه سكينا ، أو حفر بئرا بغير إذنه ، فعثر رجل بالحجر ، فوقع على السكين أو في البئر ، فالضمان على الحافر وناصب السكين ، لتعديهما ، إذا لم يتعلق الضمان بواضع الحجر ; لانتفاء عدوانه .

                                                                                                                                            وإن اشترك جماعة في عدوان تلف به شيء ، فالضمان عليهم . وإن وضع اثنان حجرا ، وواحد حجرا ، فعثر بهما إنسان ، فهلك ، فالدية على عواقلهم أثلاثا ، في قياس المذهب . وهو قول أبي يوسف ; لأن السبب حصل من الثلاثة أثلاثا ، فوجب الضمان عليهم وإن اختلفت أفعالهم ، كما لو جرحه واحد جرحين ، وجرحه اثنان جرحين ، فمات بهما .

                                                                                                                                            وقال زفر : على الاثنين النصف ، وعلى واضع الحجر وحده النصف ; لأن فعله مساو لفعلهما . وإن حفر إنسان بئرا ، ونصب آخر سكينا ، فوقع إنسان في البئر على السكين ، فمات ، فقال ابن حامد : الضمان على الحافر ، لأنه بمنزلة الدافع . وهذا قياس المسائل التي قبلها . ونص أحمد ، رحمه الله ، على أن الضمان عليهما . قال أبو بكر : لأنهما في معنى الممسك والقاتل ، الحافر كالممسك ، وناصب السكين كالقاتل ، فيخرج من هذا أن يجب الضمان على جميع المتسببين في المسائل السابقة . ( 6873 ) فصل : وإن حفر بئرا في ملك نفسه ، أو في ملك غيره بإذنه ، فلا ضمان عليه ; لأنه غير متعد بحفرها . وإن حفرها في موات ، لم يضمن ; لأنه غير متعد بحفرها . وكذلك إن وضع حجرا ، أو نصب شركا ، أو شبكة ، أو منجلا ، ليصيد بها .

                                                                                                                                            وإن فعل شيئا من ذلك في طريق ضيق ، فعليه ضمان من هلك به ; لأنه متعد . وسواء أذن له الإمام فيه ، أو لم يأذن ; فإنه ليس للإمام الإذن فيما يضر بالمسلمين ، ولو فعل ذلك الإمام لضمن ما تلف به ; لتعديه . وإن كان الطريق واسعا ، فحفر في مكان منها ما يضر بالمسلمين ، فعليه الضمان ; كذلك . وإن حفر في موضع لا ضرر فيه ، نظرنا ; فإن حفرها لنفسه ، ضمن ما تلف بها ، سواء حفرها بإذن الإمام أو غير إذنه . وقال أصحاب الشافعي : إن حفرها بإذن الإمام ، لم يضمن ; لأن للإمام أن يأذن في الانتفاع بما لا ضرر فيه ، بدليل أنه يجوز أن يأذن في القعود فيه ، ويقطعه لمن يبيع فيه .

                                                                                                                                            ولنا ، أنه تلف بحفر حفرة في حق مشترك ، بغير إذن أهله ، لغير مصلحتهم ، فضمن ، كما لو لم يأذن له الإمام ، ولا نسلم أن للإمام أن يأذن في هذا ، وإنما يأذن في القعود ; لأن ذلك لا يدوم ، وتمكن إزالته في الحال ، فأشبه القعود في المسجد ، ولأن القعود جائز من غير إذن الإمام ، بخلاف الحفر . وإن حفر البئر لنفع المسلمين ، مثل أن يحفره لينزل فيه ماء المطر من الطريق ، أو لتشرب منه المارة ، ونحوها ، فلا ضمان عليه ; لأنه محسن بفعله ، غير متعد بحفره ، فأشبه باسط الحصير في المسجد . وذكر بعض أصحابنا أنه لا يضمن إذا كان بإذن الإمام ، وإن كان بغير إذنه ، ففيه روايتان ; إحداهما : لا يضمن ، فإن أحمد قال ، في رواية إسحاق بن إبراهيم : إذا أحدث بئرا لماء المطر ، ففيه نفع للمسلمين ، أرجو أن لا يضمن [ ص: 332 ] والثانية : يضمن .

                                                                                                                                            أومأ إليه أحمد ; لأنه افتأت على الإمام . ولم يذكر القاضي سوى هذه الرواية ، والصحيح هو الأول ; لأن هذا مما تدعو الحاجة إليه ، ويشق استئذان الإمام فيه ، وتعم البلوى به ، ففي وجوب استئذان الإمام فيه تفويت لهذه المصلحة العامة ، لأنه لا يكاد يوجد من يتحمل كلفة استئذانه وكلفة الحفر معا ، فتضيع هذه المصلحة ، فوجب إسقاط استئذانه ، كما في سائر المصالح العامة ، من بسط حصير في مسجد ، أو تعليق قنديل فيه ، أو وضع سراج ، أو رم شعث فيه وأشباه ذلك . وحكم البناء في الطريق حكم الحفر فيها ، على ما ذكرنا من التفصيل والخلاف ، وهو أنه متى بنى بناء يضر ; إما لكونه في طريق ضيق ، أو في واسع يضر بالمارة ، أو بنى لنفسه ، فقد تعدى ، ويضمن ما تلف به ، وإن بنى في طريق واسع ، في موضع لا يضر البناء فيه ، لنفع المسلمين ، كبناء مسجد يحتاج إليه للصلاة فيه في زاوية ونحوها ، فلا ضمان عليه ، وسواء في ذلك كله أذن فيه الإمام أو لم يأذن .

                                                                                                                                            ويحتمل أن يعتبر إذن الإمام في البناء لنفع المسلمين دون الحفر ; لأن الحفر تدعو الحاجة إليه لنفع الطريق وإصلاحها ، وإزالة الطين والماء منها ، بخلاف البناء ، فجرى حفرها مجرى تنقيتها ، وحفر هدفة منها ، وقلع حجر يضر بالمارة ، ووضع الحصا في حفرة منها ليملأها ويسهلها بإزالة الطين ونحوه منها ، وتسقيف ساقية فيها ، ووضع حجر في طين فيها ليطأ الناس عليه أو يعبروا عليه ، فهذا كله مباح ، لا يضمن ما تلف به . لا أعلم فيه خلافا . وكذلك ينبغي أن يكون في بناء القناطر . ويحتمل أن يعتبر استئذان الإمام ; لأن مصلحته لا يعم وجودها ، بخلاف غيره . وإن سقف مسجدا ، أو فرش بارية فيه ، أو نصب عليه بابا ، أو جعل فيه رفا لينفع أهله ، أو علق فيه قنديلا ، أو بنى فيه حائطا ، فتلف به شيء ، فلا ضمان عليه .

                                                                                                                                            وقال أصحاب الشافعي : إن فعل شيئا من ذلك بغير إذن الإمام ، ضمن ، في أحد الوجهين . وقال أبو حنيفة : يضمن إذا لم يأذن فيه الجيران . ولنا ، أنه فعل أحسن به ، ولم يتعد فيه ، فلم يضمن ما تلف به ، كما لو أذن فيه الإمام والجيران ، ولأن هذا مأذون فيه من جهة العرف ، لأن العادة جارية بالتبرع به من غير استئذان ، فلم يجب ضمان ، كالمأذون فيه نطقا .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية