الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
مسألة :

" ثم يقول بسم الله "

لما روي عن يعقوب بن سلمة الليثي عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا صلاة لمن لا وضوء له ولا وضوء لمن [ ص: 168 ] لم يذكر اسم الله عليه " رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه .

وعن سعيد بن زيد وأبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله ، رواهما أحمد وابن ماجه ؛ ولأن ذكر اسم الله مشروع في أول الأفعال العادية كالأكل والشرب والنوم ودخول المنزل والخلاء فلأن يشرع [ ص: 169 ] في أول العبادات أولى ، والمسنون التسمية ، هذا إحدى الروايتين عن الإمام أحمد . قال الخلال : الذي استقرت عليه الروايات أنه لا بأس به يعني إذا ترك التسمية ، وهي اختيار الخرقي وغيره ؛ لأن الأحاديث فيها ليست قوية .

وقال أحمد : ليس يثبت فيها حديث ولا أعلم فيها حديثا له إسناد جيد .

وقال الحسن بن محمد : ضعف أبو عبد الله الحديث في التسمية ، وقال : " أقوى شيء فيه حديث كثير عن ربيح " يعني حديث أبي سعيد ثم " ذكر رباحا أي من هو ومن أبو ثفال " يعني الذي يروي حديث سعيد بن زيد ، وقال البخاري في حديث أبي هريرة : " لا يعرف لسلمة سماع [ ص: 170 ] من أبي هريرة ، ولا ليعقوب سماع من أبيه " ولو صحت حملت على الذكر بالقلب وهو النية ، وكذلك قال ربيعة ؛ لما ذكرنا من الأحاديث .

والرواية الأخرى أنها واجبة ، اختارها أبو بكر والقاضي وأصحابه وكثير من أصحابنا بل أكثرهم ؛ لما ذكرنا من الأحاديث .

قال أبو إسحاق الجوزجاني : قال ابن أبي شيبة : " ثبت لنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا وضوء لمن لم يسم " وتضعيف أحمد لها محمول على أحد الوجهين ، إما أنها لا تثبت عنده أولا لعدم علمه بحال الراوي؛ ثم علمه فبنى عليه مذهبه برواية الوجوب ، ولهذا أشار إلى أنه لا يعرف رباحا ولا أبا ثفال ، وهكذا تجيء عنه كثيرا الإشارة إلى أنه لم يثبت عنده ثم زال ثبوتها ؛ فإن النفي سابق على الإثبات ، وأما أنه أشار إلى أنه لم يثبت على طريقة تصحيح المحدثين .

فإن الأحاديث تنقسم إلى صحيح وحسن وضعيف ، وأشار إلى أنه ليس بثابت ، أي ليس من جنس الصحيح الذي رواه الحافظ الثقة عن مثله ، وذلك لا ينفي أن يكون حسنا وهو حجة ، ومن تأمل الحافظ الإمام علم أنه لم يوهن [ ص: 171 ] الحديث ، وإنما بين مرتبته في الجملة أنه دون الأحاديث الصحيحة الثابتة ، وكذلك قال في موضع آخر : أحسنها حديث أبي سعيد ، ولو لم يكن فيها حسن لم يقل فيها أحسنها ، وهذا معنى احتجاج أحمد بالحديث الضعيف ، وقوله : ربما أخذنا بالحديث الضعيف ، وغير ذلك من كلامه يعني به الحسن .

فأما ما رواه متهم أو مغفل فليس بحجة أصلا ، ويبين ذلك وجوه : أحدها : أن البخاري أشار في حديث أبي هريرة إلى أنه لا يعرف السماع في رجاله ، وهذا غير واجب في العمل ، بل العنعنة مع إمكان اللقاء ما لم يعلم أن الراوي مدلس .

وثانيها : أنه قد تعددت طرقه وكثرت مخارجه ، وهذا مما يشد بعضه بعضا ، ويغلب على الظن أن له أصلا ، وروي أيضا مرسلا رواه سعيد عن مكحول عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا تطهر الرجل ، وذكر اسم الله طهر جسده كله ، وإذا لم يذكر اسم الله لم يطهر منه إلا مكان الوضوء " .

وهذا وإن احتج به على أن التسمية ليست واجبة ، فإنه دليل على وجوبها ؛ لأن الطهارة الشرعية التي تطهر الجسد كله حتى تصح الصلاة ومس المصحف بجميع البدن ، فإذا لم تحصل الشرعية جعلت الطهارة الحسية وهي مقتصرة على محلها كما لو لم ينو .

[ ص: 172 ] وروى الدراوردي ثنا محمد بن أبي حميد عن عمر بن يزيد " أن رجلا توضأ ، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم أعرض عنه ، وقال له : تطهر ، فرجع فتوضأ ثم اجتهد ، فجاء فسلم فأعرض عنه ، وقال : ارجع فتطهر ، فلقي الرجل عليا فأخبره بذلك فقال له علي : هل سميت الله حين وضعت يدك في وضوئك ، فقال : لا والله ، فقال : ارجع فسم الله في وضوئك ، فرجع فسمى الله على وضوئه ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه فرد عليه ، وأقبل عليه بوجهه ثم قال : إذا وضع أحدكم طهوره فليسم الله " . رواه الجوزجاني عن نعيم بن حماد عنه .

وثالثها : أن تضعيفه إما من جهة إرسال أو جهل راو ، وهذا غير قادح على إحدى الروايتين وعلى الأخرى، وهي قول من لا يحتج بالمرسل نقول : إذا عمل به جماهير أهل العلم وأرسله من أخذ العلم عن غير رجال المرسل الأول أو روي مثله عن الصحابة أو وافقه ظاهر القرآن فهو حجة ، وهذا الحديث قد اعتضد بأكثر من ذلك، فإن عامة أهل العلم عملوا به في شرع التسمية في الوضوء ، ولولا هذا الحديث لم يكن لذلك أصل ، وإنما اختلفوا في صفة شرعها هل هو إيجاب أو ندب ، وروي من وجوه متباينة مسندا ومرسلا ولعلك تجد [ ص: 173 ] في كثير من المسائل ليس معهم أحاديث مثل هذه .

ورابعها : أن الإمام أحمد قال : أحسنها يعني أحاديث هذا الباب حديث أبي سعيد ، وكذلك قال إسحاق بن راهويه ، وقد سئل أي حديث أصح في التسمية ، فذكر حديث أبي سعيد ، وقال البخاري : أحسن حديث في هذا الباب حديث سعيد بن زيد .

وهذه العبارة ، وإن كانوا إنما يقصدون بها بيان أن الأثر أقوى شيء في هذا الباب ، فلولا أن أسانيدها متقاربة لما قالوا ذلك وحملها على الذكر بالقلب أو على تأكيد الاستحباب خلاف مدلول الكلام وظاهره ، وإنما يصار إليه لموجب ولا موجب هنا ، وإذا قلنا بوجوبها فإنها تسقط بالسهو على إحدى الروايتين كالذبيحة وأولى ، فإن قلنا تسقط سمى متى ذكرها ، وإن قلنا : لا تسقط لغا ما فعله قبلها ، وهذا على المشهور ، وهو أنها تجب في أول الوضوء قبل غسل الوجه ، وقال الشيخ أبو الفرج : متى سمى أجزأه .

التالي السابق


الخدمات العلمية