الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فصل :

فإن قال : " أنت طالق إلا أن يشاء الله " فاختلف الذين يصححون الاستثناء في قوله " أنت طالق إن شاء الله " هاهنا : هل ينفعه الاستثناء ، ويمنع وقوع الطلاق أو لا ينفعه ؟ على قولين ، وهما وجهان لأصحاب الشافعي ، والصحيح عندهم : أنه لا ينفعه الاستثناء ويقع الطلاق ، والثاني : ينفعه الاستثناء ، ولا تطلق ، وهو قول أصحاب أبي حنيفة ، والذين لم يصححوا الاستثناء احتجوا بأنه أوقع الطلاق وعلق رفعه بمشيئة لم تعلم ; إذ المعنى قد وقع عليك الطلاق إلا أن يشاء الله رفعه ، وهذا يقتضي وقوعا منجزا ورفعا معلقا بالشرط ، والذين صححوا الاستثناء قولهم أفقه ; فإنه لم يوقع طلاقا منجزا ، وإنما أوقع طلاقا معلقا على المشيئة .

فإن معنى كلامه أنت طالق إن شاء الله طلاقك ، فإن شاء عدمه لم تطلقي ، بل لا تطلقين إلا بمشيئته ، فهو داخل في الاستثناء من قوله إن شاء الله ، فإنه جعل مشيئة الله لطلاقها شرطا فيه ، وهاهنا أضاف إلى ذلك جعله عدم مشيئته مانعا من طلاقها .

والتحقيق أن كل واحد من الأمرين يستلزم الآخر ; فقوله : " إن شاء الله " يدل على الوقوع عند وجود المشيئة صريحا ، وعلى انتفاء الوقوع عند انتفائها لزوما ، وقوله " : إلا أن يشاء الله " يدل على عدم الوقوع عند عدم المشيئة صريحا ، وعلى الوقوع عندها لزوما فتأمله .

فالصورتان سواء كما سوى بينهما أصحاب أبي حنيفة وغيرهم من الشافعية ، وقولهم " : إنه أوقع الطلاق وعلق رفعه بمشيئة لم تعلم " فهذا بعينه يحتج به عليهم من قال : إن الاستثناء لا ينفع في الإيقاع بحال ; فإن صحت هذه الحجة بطل الاستثناء في الإيقاع جملة ، وإن لم يصح لم يصح الفرق ، وهو لم يوقعه مطلقا ، وإنما علقه بالمشيئة نفيا ، وإثباتا كما قررناه ; فالطلاق مع الاستثناء ليس بإيقاع .

وعلى هذا فإذا قال : " إن شاء الله " ، وهو لا يعلم معناها أصلا ، فهل ينفعه هذا الاستثناء ؟ قال أصحاب أبي حنيفة : إذا قال " أنت طالق إن شاء الله " ، ولا يدري أي شيء " إن شاء الله " لا يقع الطلاق ، قالوا : لأن الطلاق مع الاستثناء ليس بإيقاع ، فعلمه وجهله سواء ، قالوا : ولهذا لما كان سكوت البكر رضا استوى فيه العلم والجهل ، حتى لو زوجها أبوها فسكتت ، وهي لا تعلم أن السكوت رضا صح النكاح ، ولم يعتبر جهلها .

[ ص: 48 ] ثم قالوا : فلو قال لها " أنت طالق " فجرى على لسانه من غير قصد " إن شاء الله " وكان قصده إيقاع الطلاق لم يقع الطلاق ; لأن الاستثناء قد وجد حقيقة ، والكلام مع الاستثناء لا يكون إيقاعا ، وهذا القول في طرف وقول من يشترط نية الاستثناء في أول الكلام أو قبل الفراغ منه في طرف آخر ، وبينهما أكثر من بعد المشرقين .

فلو قال : " أنت طالق إن لم يشأ الله ، أو ما لم يشأ الله " فهل يقع الطلاق في الحال أو لا يقع ؟ على قولين ، وهما وجهان في مذهب أحمد ، فمن أوقعه احتج بأن كلامه تضمن أمرين : محالا ، وممكنا ، فالممكن التطليق ، والمحال وقوعه على هذه الصفة ، وهو إذا لم يشأ الله ، فإن ما شاء الله وجب وقوعه ، فيلغو هذا التقييد المستحيل ، ويسلم أصل الطلاق فينفذ .

الوجه الثاني : لا يقع ، ولهذا القول مأخذان : أحدهما : أن تعليق الطلاق على الشرط المحال يمنع من وقوعه ; كما لو قال : " أنت طالق إن جمعت بين الضدين " أو " إن شربت ماء الكوز " ، ولا ماء فيه ; لعدم وقوع شرطه ، فهكذا إذا قال : " أنت طالق إن لم يشأ الله " فهو تعليق للطلاق على شرط مستحيل ، وهو عدم مشيئة الله ، فلو طلقت لطلقت بمشيئته ، وشرط وقوع الطلاق عدم مشيئته .

والمأخذ الثاني : - وهو أفقه - أنه استثناء في المعنى ، وتعليق على المشيئة ، والمعنى إن لم يشأ الله عدم طلاقك ; فهو كقوله " إلا أن يشأ الله " سواء كما تقدم بيانه .

التالي السابق


الخدمات العلمية