الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ما لا يقطع فيه قال أبو بكر عموم قوله والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما يوجب قطع كل من تناول الاسم في سائر الأشياء ؛ لأنه عموم في هذا الوجه وإن كان مجملا في المقدار إلا أنه قد قامت الدلالة من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وقول السلف واتفاق فقهاء الأمصار على أنه لم يرد به العموم وأن كثيرا مما يسمى آخذه سارقا لا قطع فيه واختلف الفقهاء في أشياء منه .

ذكر الاختلاف في ذلك : قال أبو حنيفة ومحمد : لا قطع في كل ما يسرع إليه الفساد نحو الرطب والعنب والفواكه الرطبة واللحم والطعام الذي لا يبقى ولا في الثمر المعلق والحنطة في سنبلها سواء كان لها حافظ أو لم يكن ولا قطع في شيء من الخشب إلا الساج والقنا ولا قطع في الطين والنورة [ ص: 75 ] والجص والزرنيخ ونحوه ولا قطع في شيء من الطير ويقطع في الياقوت والزمرد ولا قطع في شيء من الخمر ولا في شيء من آلات الملاهي وقال أبو يوسف يقطع في كل شيء سرق من حرز إلا في السرقين والتراب والطين .

وقال مالك لا يقطع في الثمر المعلق ولا في حريسة الجبل وإذا آواه الجرين ففيه القطع وكذلك إذا سرق خشبة ملقاة فبلغ ثمنها ما يجب فيه القطع ففيه القطع وقال الشافعي لا قطع في الثمر المعلق ولا في الجمار ؛ لأنه غير محرز فإن أحرز ففيه القطع رطبا كان أو يابسا وقال عثمان البتي إذا سرق الثمر على شجرة فهو سارق يقطع قال أبو بكر روى مالك وسفيان الثوري وحماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان أن مروان أراد قطع يد عبد وقد سرق وديا فقال رافع بن خديج سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا قطع في ثمر ولا كثر . وروى سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد بن محمد بن حبان عن عمه واسع بن حبان بهذه القصة فأدخل ابن عيينة بين محمد بن حبان وبين رافع واسع بن حبان ورواه الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد عن محمد بن حبان عن عمة له بهذه القصة وأدخل الليث بينهما عمة له مجهولة ورواه الدراوردي عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن أبي ميمونة عن رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله فجعل الدراوردي بين محمد بن يحيى ورافع أبا ميمونة فإن كان واسع بن حبان كنيته أبو ميمونة فقد وافق ابن عيينة وإن كان غيره فهو مجهول لا يدرى من هو إلا أن الفقهاء قد تلقت هذا الحديث بالقبول وعملوا به فثبتت حجته بقبولهم له كقوله لا وصية لوارث واختلاف التابعين لما تلقاه العلماء بالقبول ثبتت حجته ولزم العمل به

وقد تنازع أهل العلم معنى قوله لا قطع في ثمر ولا كثر فقال أبو حنيفة ومحمد هو على كل ثمر يسرع إليه الفساد وعمومه يقتضي ما يبقى منه وما لا يبقى إلا أن الكل متفقون على القطع فيما قد استحكم ولا يسرع إليه الفساد فخص ما كان بهذا الوصف من العموم وصار ذلك أصلا في نفي القطع عن جميع ما يسرع إليه الفساد .

وروى الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا قطع في طعام وذلك ينفي القطع عن جميع الطعام إلا أنه خص ما لا يسرع إليه الفساد بدليل . وقال أبو يوسف ومن قدمنا قوله أن نفيه القطع عن الثمر والكثر لأجل عدم الحرز فإذا أحرز فهو وغيره سواء وهذا تخصيص بغير دلالة وقوله ولا كثر أصل في ذلك أيضا ؛ لأن الكثر قد قيل فيه وجهان أحدهما : الجمار والآخر الصغار وهو عليهما جميعا [ ص: 76 ] فإذا أراد به الجمار فقد نفى القطع عنه ؛ لأنه مما يفسد وهو أصل في كل ما كان في معناه وإن أراد به النخل فقد دل على نفي القطع في الخشب فنستعملهما على فائدتيهما جميعا وكذلك قال أبو حنيفة لا قطع في خشب إلا الساج والقنا وكذلك يجيء على قوله في الأبنوس .

وذلك أن الساج والأبنوس لا يوجد في دار الإسلام إلا مالا فهو كسائر الأموال . وإنما اعتبر ما يوجد في دار الإسلام مالا من قبل أن الأملاك الصحيحة هي التي توجد في دار الإسلام وما كان في دار الحرب فليس بملك صحيح ؛ لأنها دار إباحة وأملاك أهلها مباحة فلا يختلف فيها حكم ما كان منه مالا مملوكا وما كان منه مباحا فلذلك سقط اعتبار كونها مباحة في دار الحرب فاعتبر حكم وجودها في دار الإسلام فلما لم توجد في دار الإسلام إلا مالا كانت كسائر أموال المسلمين التي ليست مباحة الأصل فإن قال قائل النخل غير مباح الأصل قيل له هو مباح الأصل في كثير من المواضع كسائر الجنس المباح الأصل وإن كان بعضها مملوكا بالأخذ والنقل من موضع إلى موضع .

وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمر قال جاء رجل من مزينة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله كيف ترى في حريسة الجبل قال هي عليه ومثلها والنكال وليس في شيء من الماشية قطع إلا ما أواه المراح فإذا أواه المراح فبلغ ثمن المجن ففيه قطع اليد وما لم يبلغ ثمن المجن ففيه غرامة مثله وجلدات النكال قال يا رسول الله كيف ترى في الثمر المعلق قال هي ومثله معه والنكال وليس في شيء من الثمر المعلق قطع إلا ما أواه الجرين فما أخذه من الجرين فبلغ ثمن المجن ففيه القطع وما لم يبلغ ففيه غرامة مثله وجلدات النكال .

فنفى في حديث رافع بن خديج القطع عن الثمر رأسا ونفى في حديث عبد الله بن عمر القطع عن الثمر إلا ما أواه الجرين وقوله حتى يأويه الجرين يحتمل معنيين : أحدهما : الحرز والآخر الإبانة عن حال استحكامه وامتناع إسراع الفساد إليه

لأنه لا يأويه الجرين إلا وهو مستحكم في الأغلب وهو كقوله تعالى وآتوا حقه يوم حصاده ولم يرد به وقوع الحصاد .

وإنما أراد به بلوغه وقت الحصاد وقوله صلى الله عليه وسلم لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ولم يرد به وجود الحيض وإنما أخبر عن حكمها بعد البلوغ وقوله إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما ألبتة ولم يرد به السن وإنما أراد الإحصان وقوله في خمس وعشرين بنت مخاض .

أراد دخولها في السنة الثانية وإن لم يكن بأمها مخاض ؛ لأن الأغلب إذا صارت كذلك كان بأمها مخاض وكذلك قوله حتى يأويه [ ص: 77 ] الجرين يحتمل أن يريد به بلوغ حال الاستحكام فلم يجز من أجل ذلك أن يخص حديث رافع بن خديج في قوله لا قطع في ثمر ولا كثر وإنما لم يقطع في النورة ونحوها لما روت عائشة قالت لم يكن قطع السارق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشيء التافه يعني الحقير .

فكل ما كان تافها مباح الأصل فلا قطع فيه والزرنيخ والجص والنورة ونحوها تافه مباح الأصل ؛ لأن أكثر الناس يتركونه في موضعه مع إمكان القدرة عليه وأما الياقوت والجوهر فغير تافه وإن كان مباح الأصل بل هو ثمين رفيع ليس يكاد يترك في موضعه مع إمكان أخذه فيقطع فيه وإن كان مباح الأصل كما يقطع في سائر الأموال ؛ لأن شرط زوال القطع المعنيان جميعا من كونه تافها في نفسه ومباح الأصل وأيضا فإن الجص والنورة ونحوها أموال لا يراد بها القنية بل الإتلاف فهي كالخبز واللحم ونحو ذلك والياقوت ونحوه مال يراد به القنية والتبقية كالذهب والفضة وأما الطير فإنما لم يقطع فيه لما روي عن علي وعثمان أنهما قالا لا يقطع في الطير من غير خلاف من أحد من الصحابة عليهما وأيضا فإنه مباح الأصل فأشبه الحشيش والحطب .

التالي السابق


الخدمات العلمية