الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 193 ] وسئل رحمه الله تعالى هل يجوز شرب قليل ما أسكر كثيره من غير خمر العنب . كالصرماء والقمز والمزر ؟ أو لا يحرم إلا القدح الأخير ؟

                التالي السابق


                فأجاب : الحمد لله . قد ثبت في الصحيحين { عن أبي موسى قال : قلت يا رسول الله أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن البتع وهو العسل ينبذ حتى يشتد . و المزر وهو من الذرة ينبذ حتى يشتد قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطي جوامع الكلم فقال : كل مسكر حرام } { وعن عائشة قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع وهو نبيذ العسل وكان أهل اليمن يشربونه فقال : كل شراب أسكر فهو حرام } وفي صحيح مسلم عن جابر { أن رجلا من اليمن سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وسلم عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له : المزر فقال : أمسكر هو ؟ قال : نعم . فقال : كل مسكر حرام إن على الله عهدا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال قالوا : يا رسول الله وما طينة الخبال ؟ قال : عرق أهل النار ; أو عصارة أهل النار }

                . [ ص: 194 ] ففي هذه الأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أشربة من غير العنب كالمزر وغيره فأجابهم بكلمة جامعة وقاعدة عامة : { إن كل مسكر حرام } وهذا يبين أنه أراد كل شراب كان جنسه مسكرا حرام سواء سكر منه أو لم يسكر كما في خمر العنب . ولو أراد بالمسكر القدح الأخير فقط لم يكن الشراب كله حراما ; ولكان بين لهم ; فيقول اشربوا منه ولا تسكروا . ولأنه { سألهم عن المزر أمسكر هو ؟ فقالوا : نعم . فقال . كل مسكر حرام } . فلما سألهم " أمسكر هو ؟ " إنما أراد يسكر كثيره كما يقال . الخبز يشبع ; والماء يروي وإنما يحصل الري والشبع بالكثير منه لا بالقليل . كذلك المسكر إنما يحصل السكر بالكثير منه فلما قالوا له : هو مسكر . قال : { كل مسكر حرام } فبين أنه أراد بالمسكر كما يراد بالمشبع والمروي ونحوهما ولم يرد آخر قدح ; وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { كل مسكر خمر ; وكل خمر حرام } وفي لفظ : { كل مسكر حرام } ومن تأوله على القدح الأخير لا يقول : إنه خمر والنبي صلى الله عليه وسلم جعل كل مسكر حراما .

                وفي السنن عن النعمان بن بشير . قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن من الحنطة خمرا ومن الشعير خمرا ومن الزبيب خمرا ومن العسل خمرا } وفي الصحيح أن عمر بن الخطاب قال على منبر النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 195 ] : أما بعد أيها الناس إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة أشياء : من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير ; والخمر ما خامر العقل . والأحاديث في هذا الباب كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم تبين أن الخمر التي حرمها اسم لكل مسكر سواء كان من العسل أو التمر أو الحنطة أو الشعير ; أو لبن الخيل أو غير ذلك . وفي السنن عن عائشة ; قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { كل مسكر حرام وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام } قال الترمذي حديث حسن وقد روى أهل السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم { ما أسكر كثيره فقليله حرام } من حديث جابر وابن عمر ; وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وغيره وصححه الدارقطني وغيره .

                وهذا الذي عليه جماهير أئمة المسلمين : من الصحابة والتابعين وأئمة الأمصار والآثار ولكن بعض علماء المسلمين سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في النبيذ ; وأن الصحابة كانوا يشربون النبيذ : فظنوا أنه السكر ; وليس كذلك ; بل النبيذ الذي شربه النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة هو أنهم كانوا ينبذون التمر أو الزبيب أو نحو ذلك في الماء حتى يحلو فيشربه أول يوم وثاني يوم ; وثالث يوم ; ولا يشربه بعد ثلاث ; لئلا تكون الشدة قد بدت فيه ; وإذا اشتد قبل ذلك لم يشرب . وقد [ ص: 196 ] روى أهل السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها } وروي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم من أربعة أوجه وهذا يتناول من شرب هذه الأشربة التي يسمونها الصرماء وغير ذلك ; والأمر في ذلك واضح ; فإن خمر العنب قد أجمع المسلمون على تحريم قليلها وكثيرها ; ولا فرق في الحس ولا العقل بين خمر العنب والتمر والزبيب والعسل ; فإن هذا يصد عن ذكر الله وعن الصلاة ; وهذا يصد عن ذكر الله وعن الصلاة ; وهذا يوقع العداوة والبغضاء ; وهذا يوقع العداوة والبغضاء . والله سبحانه قد أمر بالعدل والاعتبار ; وهذا هو " القياس الشرعي " وهو التسوية بين المتماثلين ; فلا يفرق الله ورسوله بين شراب مسكر وشراب مسكر فيبيح قليل هذا ولا يبيح قليل هذا ; بل يسوي بينهما وإذا كان قد حرم القليل من أحدهما حرم القليل منهما ; فإن القليل يدعو إلى الكثير وأنه سبحانه أمر باجتناب الخمر ولهذا يؤمر بإراقتها ; ويحرم اقتناؤها وحكم بنجاستها ; وأمر بجلد شاربها ; كل ذلك حسما لمادة الفساد ; فكيف يبيح القليل من الأشربة المسكرة والله أعلم .




                الخدمات العلمية