فصل :
وأما قولكم : " إنه استثناء يرفع جملة الطلاق فلم يصح ، كقوله : أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا " فما أبردها من حجة ; فإن الاستثناء لم يرفع حكم الطلاق بعد وقوعه ، وإنما منع من انعقاده منجزا ، بل انعقد معلقا ، كقوله : " أنت طالق إن شاء فلان " فلم يشأ فلان ; فإنها لا تطلق ، ولا يقال : إن هذا الاستثناء رفع جملة الطلاق .
وأما قولكم " : إنه من إنشاء حكم في محل ، فلم يرتفع بالمشيئة كالبيع والنكاح " فأبرد من الحجة التي قبلها ; فإن البيع والنكاح لا يصح تعليقهما بالشرط ، بخلاف الطلاق .
وأما قولكم : " إزالة ملك ; فلا يصح تعليقه على مشيئة الله كالإبراء " فكذلك أيضا ; فإن الإبراء لا يصح تعليقه على الشرط مطلقا عندكم ، سواء كان الشرط مشيئة الله أو غيرها ، فلو قال : " أبرأتك إن شاء زيد " لم يصح ، ولو قال : " أنت طالق إن شاء زيد " صح .
وأما قولكم : " إنه تعليق على ما لا سبيل إلى العلم به " فليس كذلك ، بل هو تعليق على ما لنا سبيل إلى علمه ; فإنه إذا أوقعه في المستقبل علمنا وجود الشرط قطعا ، وأن الله قد شاءه .
وأما قولكم " إن الله قد شاءه بتكلم المطلق به " فالذي شاءه الله إنما هو طلاق معلق ، والطلاق المنجز لم يشأه الله ; إذ لو شاءه لوقع ، ولا بد ، فما شاءه الله لا يوجب وقوع الطلاق في الحال ، وما يوجب وقوعه في الحال لم يشأه الله .
وأما قولكم : " إن الله تعالى وضع لإيقاع الطلاق هذه اللفظة شرعا وقدرا " فنعم وضع تعالى المنجز لإيقاع المنجز ، والمعلق لوقوعه عند وقوع ما علق به .
[ ص: 55 ] وأما قولكم : " لو لم يشأ الطلاق لم يأذن للمكلف في التكلم به " فنعم شاء المعلق ، وأذن فيه ، والكلام في غيره ، وقولكم : " إن هذا نظير قوله ، وهو متلبس بالفعل : أنا أفعل إن شاء الله " فهذا فصل النزاع في المسألة ، فإذا أراد بقوله : " أنت طالق إن شاء الله هذا التطليق الذي صدر مني " لزمه الطلاق قطعا ; لوجود الشرط ، وليس كلامنا فيه ، وإنما كلامنا فيما إذا أراد " إن شاء الله طلاقا مستقبلا " أو أطلق ، ولم يكن له نية ، فلا ينبغي النزاع في القسم الأول ، ولا يظن أن أحدا من الأئمة ينازع فيه ; فإنه تعليق على شرط مستقبل ممكن فلا يجوز إلغاؤه ، كما لو صرح به فقال : " إن شاء الله أن أطلقك غدا فأنت طالق " إلا أن يستروح إلى ذلك المسلك الوخيم أنه علق الطلاق بالمستحيل فلغا التعليق كمشيئة الحجر والميت .
وأما إذا أطلق ، ولم يكن له نية فيحمل مطلق كلامه على مقتضى الشرط لغة وشرعا وعرفا ، وهو اقتضاؤه للوقوع في المستقبل .
وأما استدلالكم بقول
يوسف لأبيه ، وإخوته : {
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=99ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين } فلا حجة فيه ; فإن الاستثناء إن عاد إلى الأمر المطلوب دوامه واستمراره فظاهر ، وإن عاد إلى الدخول المقيد به فمن أين لكم أنه قال لهم هذه المقالة حال الدخول أو بعده ؟ ولعله إنما قالها عند تلقيه لهم ، ويكون دخولهم عليه في منزل اللقاء فقال لهم حينئذ {
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=99ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين } فهذا محتمل .
وإن كان إنما قال لهم ذلك بعد دخولهم عليه في دار مملكته فالمعنى ادخلوها دخول استيطان واستقرار آمنين إن شاء الله .
وأما قولكم : " إنه لو أتى بالشهادتين ثم قال إن شاء الله أو قال أنا مسلم إن شاء الله صح إسلامه في الحال " فنعم إذا ; فإن الإسلام لا يقبل التعليق بالشرط ، فإذا علقه بالشرط تنجز ، كما لو علق الردة بالشرط فإنها تنجز ، وأما الطلاق فإنه يصح تعليقه بالشرط .
وأما قولكم : " إنه من المعلوم قطعا أن الله قد شاء تكلمه بالطلاق ، فقوله بعد ذلك إن شاء الله تحقيق لما علم أن الله قد شاءه " فقد تقدم جوابه ، وهو أن الله إنما شاء الطلاق المعلق ، فمن أين لكم أنه شاء المنجز ؟ ، ولم تذكروا عليه دليلا .
وقولكم : " إنه بمنزلة قوله أنت طالق إن كان الله أذن في الطلاق أو أباحه ، ولا فرق بينهما " فما أعظم الفرق بينهما ، وأبينه حقيقة ولغة ، ، وذلك ظاهر عن تكلف بيانه ; فإن بيان الواضحات نوع من العي ، بل نظير ذلك أن يقول : أنت طالق إن كان الله قد شاء تلفظي بهذا اللفظ ; فهذا يقع قطعا .
[ ص: 56 ] وأما قولكم : " إن الكفارة أقوى من الاستثناء ; لأنها ترفع حكم اليمين ، والاستثناء يمنع عقدها ، وإذا لم تدخل الكفارة في الطلاق والعتاق فالاستثناء أولى " فما أوهنها من شبهة ، وهي عند التحقيق لا شيء ; فإن الطلاق والعتاق إذا وقعا لم تؤثر فيهما الكفارة شيئا ، ولا يمكن حلهما بالكفارة ، بخلاف الأيمان فإن حلها بالكفارة ممكن ، وهذا تشريع شرعه شارع الأحكام هكذا ، فلا يمكن تغييره ; فالطلاق والعتاق لا يقبل الكفارة كما لم تقبلها سائر العقود كالوقف والبيع والهبة والإجارة والخلع ، فالكفارة مختصة بالأيمان ، وهي من أحكامها التي لا تكون لغيرها ، وأما الاستثناء فيشرع في أعم من اليمين كالوعد والوعيد ، والخبر عن المستقبل ، كقول النبي : صلى الله عليه وسلم {
nindex.php?page=hadith&LINKID=39581وإنا إن شاء الله بكم لاحقون } وقوله عن
أمية بن خلف {
nindex.php?page=hadith&LINKID=16357 : بل أنا أقتله إن شاء الله } ، وكذا الخبر عن الحال نحو " أنا مؤمن إن شاء الله " ، ولا تدخل الكفارة في شيء من ذلك فليس بين الاستثناء والتكفير تلازم .
بل تكون الكفارة حيث لا استثناء ، والاستثناء حيث لا كفارة ، والكفارة شرعت تحلة لليمين بعد عقدها ، والاستثناء شرع لمعنى آخر ، وهو تأكيد التوحيد ، وتعليق الأمور بمشيئة من لا يكون شيء إلا بمشيئته ; فشرع للعبد أن يفوض الأمر الذي عزم عليه ، وحلف على فعله أو تركه إلى مشيئة الله ; ويعقد نطقه بذلك ، فهذا شيء ، والكفارة شيء آخر .
وأما قولكم : " إن الاستثناء إن كان رافعا فهو رافع لجملة المستثنى منه فلا يرتفع " فهذا كلام عار عن التحقيق ; فإن هذا ليس باستثناء بأداة إلا ، وأخواتها التي يخرج بها بعض المذكور ، ويبقى بعضه حتى يلزم ما ذكرتم ، وإنما هو شرط ينتفي المشروط عند انتفائه كسائر الشروط ، ثم كيف يقول هذا القائل في قوله : " أنت طالق إن شاء زيد اليوم " ، ولم يشأ ؟ فموجب دليله أن هذا لا يصح .
فإن قيل : فلو أخرجه بأداة إلا فقال " أنت طالق إلا أن يشاء الله " كان رفعا لجملة المستثنى منه ، قيل : هذه مغلطة ظاهرة ; فإن الاستثناء هاهنا ليس إخراج جملة ما تناوله المذكور ; ليلزم ما ذكرت ، وإنما هو تقييد لمطلق الكلام الأول بجملة أخرى مخصصة لبعض أحوالها ، أي : أنت طالق في كل حالة إلا حالة واحدة ، وهي حالة لا يشاء الله فيها الطلاق ، فإذا لم يقع منه طلاق بعد هذا علمنا بعدم وقوعه أن الله تعالى لم يشأ الطلاق ; إذ لو شاءه لوقع .
ثم ينتقض هذا بقوله " إلا أن يشاء زيد " و " إلا أن تقومي " ونحو ذلك ; فإن الطلاق لا يقع إذا لم يشأه زيد ، وإذا لم تقم ، وسمى هذا التعليق بمشيئة الله تعالى استثناء في لغة الشارع كقوله تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=17إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون } أي : لم
[ ص: 57 ] يقولوا إن شاء الله ; فمن حلف فقال إن شاء الله فقد استثنى ; فإن الاستثناء استفعال من ثنيت الشيء ، كأن المستثني بإلا قد عاد على كلامه فثنى آخره على أوله بإخراج ما أدخله أولا في لفظه ، وهكذا التقيد بالشرط سواء ; فإن المتكلم به قد ثنى آخر كلامه على أوله فقيد به ما أطلقه أولا ، وأما تخصيص الاستثناء بإلا ، وأخواتها فعرف خاص للنحاة .
وقولكم : " إن كان شرطا ، ويراد به إن كان الله قد شاء طلاقك في المستقبل فينفذ لمشيئة الله بمشيئته لسببه ، وهو الطلاق المذكور ، وإن أراد به إن شاء الله أن أطلقك في المستقبل فقد علقه بما لا سبيل إلى العلم به فيلغو التعليق ويبقى أصل الطلاق " فهذا هو أكبر عمدة الموقعين ، ولا ريب أنه إن أراد بقوله أنت طالق إن كان الله قد شاء تكلمي بهذا اللفظ أو شاء طلاقك بهذا اللفظ طلقت ، ولكن المستثني لم يرد هذا ، بل ، ولا خطر على باله ، فبقي القسم الآخر ، وهو أن يريد إن شاء الله وقوع الطلاق عليك فيما يأتي ، فهذا تعليق صحيح معقول يمكن العلم بوجود ما علق عليه بوجود سببه كما تقدم بيانه .
وأما قولكم : " إنه علق الطلاق بما لا يخرج عنه كائن ، فوجب نفوذه ، كما لو قال : أنت طالق إن علم الله ، أو إن قدر الله ، أو سمع الله - إلى آخره " فما أبطلها من حجة ، فإنها لو صحت لبطل حكم الاستثناء في الأيمان لما ذكرتموه بعينه ، ولا نفع الاستثناء في موضع واحد ، ومعلوم أن المستثني لم يخطر هذا على باله ، وإنما أراد تفويض الأمر إلى مشيئة الله وتعليقه به ، وأنه إن شاءه نفذ ، وإن لم يشأه لم يقع ، ولذلك كان مستثنيا ، أي : وإن كنت قد التزمت اليمين أو الطلاق أو العتاق فإنما التزمه بعد مشيئة الله وتبعا لها ، فإن شاءه فهو تعالى ينفذه بما يحدثه من الأسباب ، ولم يرد المستثني إن كان لله مشيئة أو علم أو سمع أو بصر فأنت طالق ، ولم يخطر ذلك بباله ألبتة .
يوضحه : أن هذا مما لا يقبل التعليق ، ولا سيما بأداة " إن " التي للجائز الوجود والعدم ، ولو شك في هذا لكان ضالا ، بخلاف المشيئة الخاصة ، فإنها يمكن أن تتعلق بالطلاق ، وأن لا تتعلق به ، وهو شاك فيها كما يشك العبد فيما يمكن أن يفعله الله به ، وأن لا يفعله هل شاءه أم لا ؟ فهذا هو المعقول الذي في فطر الحالفين والمستثنين ، وحذف مفعول المشيئة لم يكن لما ذكرتم ، وهو عدم إرادة مفعول معين ، بل للعلم به ، ودلالة الكلام عليه وتعين إرادته ; إذ المعنى إن شاء الله طلاقك فأنت طالق .
كما لو قال : " والله لأسافرن إن شاء الله " أي : إن شاء الله سفري ، وليس مراده إن كان لله صفة هي المشيئة ; فالذي قدرتموه من المشيئة المطلقة هو الذي لم يخطر ببال الحالف والمطلق ، وإنما الذي لم يخطر بباله سواء هو المشيئة المعينة الخاصة .
[ ص: 58 ] وقولكم : " إن المستثني لو سئل عما أراد لم يفصح بالمشيئة الخاصة ، بل تكلم بلفظ الاستثناء بناء على ما اعتاده الناس من التكلم بهذا اللفظ " كلام غير سديد ، فإنه لو صح لما نفع الاستثناء في يمين قط ، ولهذا نقول : إن قصد التحقيق والتأكيد بذكر المشيئة ينجز الطلاق ، ولم يكن ذلك استثناء .
وأما قولكم " إن الاستثناء بابه الأيمان " إن أردتم به اختصاص الأيمان به فلم تذكروا على ذلك دليلا ، وقوله صلى الله عليه وسلم : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=36270من حلف فقال إن شاء الله فقد استثنى } ، وفي لفظ آخر {
nindex.php?page=hadith&LINKID=36270من حلف فقال إن شاء الله فهو بالخيار ; فإن شاء فعل ، وإن شاء لم يفعل } فحديث حسن ، ولكن لا يوجب اختصاص الاستثناء بالمشيئة باليمين ، وقد قال الله تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=23ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله } وهذا ليس بيمين ، ويشرع الاستثناء في الوعد والوعيد والخبر عن المستقبل ، كقوله : غدا أفعل إن شاء الله ، وقد عتب الله على رسوله صلى الله عليه وسلم حيث قال لمن سأله من
أهل الكتاب عن أشياء " غدا أخبركم " ، ولم يقل إن شاء الله ، فاحتبس الوحي عنه شهرا ، ثم نزل عليه : {
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=23ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت } أي : إذا نسيت ذلك الاستثناء عقيب كلامك فاذكره به إذا ذكرت ، هذا معنى الآية ، وهو الذي أراده
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس بصحة الاستثناء المتراخي ، ولم يقل
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس قط ، ولا من هو دونه : إن الرجل إذا قال لامرأته : " أنت طالق " أو لعبده : " أنت حر " ثم قال بعد سنة " إن شاء الله " إنها لا تطلق ، ولا يعتق العبد ، وأخطأ من نقل ذلك عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، أو عن أحد من أهل العلم ألبتة ، ولم يفهموا مراد
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، والمقصود أن الاستثناء لا يختص باليمين لا شرعا ، ولا عرفا ، ولا لغة ، وإن أردتم بكون بابه الأيمان كثرته فيها ; فهذا لا ينفي دخوله في غيرها .
وقولكم : " إنه لا يدخل في الإخبارات ، ولا في الإنشاءات ، فلا يقال : قام زيد إن شاء الله ، ولا قم إن شاء الله [ ولا بعت إن شاء الله ] فكذا لا يدخل في قوله : أنت طالق إن شاء الله " فليس هذا بتمثيل صحيح ، والفرق بين البابين أن الأمور الماضية قد علم أنها وقعت بمشيئة الله ، والشرط إنما يؤثر في الاستقبال ، فلا يصح أن يقول : قمت أمس إن شاء الله ، فلو أراد الإخبار عن وقوعها بمشيئة الله أتى بغير صيغة الشرط ، فيقول : فعلت كذا بمشيئة الله وعونه وتأييده ، ونحو ذلك ، بخلاف قوله : غدا أفعل إن شاء الله ، وأما قوله : " قم إن شاء الله " و " لا تقم إن شاء الله " فلا فائدة في هذا الكلام ; إذ قد علم أنه لا يفعل إلا بمشيئة الله ، فأي معنى لقوله : إن شاء الله لك القيام فقم ، وإن لم يشأه فلا تقم ؟ .
نعم لو أراد بقوله قم أو لا تقم الخبر ، وأخرجه مخرج الطلب تأكيدا ، أي : تقوم إن شاء الله ، صح ذلك ، كما إذا قال :
[ ص: 59 ] مت على الإسلام إن شاء الله ، ولا تمت إلا على توبة إن شاء الله ، ونحو ذلك ، وكذا إن أراد بقوله " قم إن شاء الله " رد المشيئة إلى معنى خبري ، أي : ولا تقوم إلا أن يشاء الله ; فهذا صحيح مستقيم لفظا ومعنى ، وأما " بعت إن شاء الله ، واشتريت إن شاء الله " فإن أراد به التحقيق صح وانعقد العقد ، وإن أراد به التعليق لم يكن المذكور إنشاء ، وتنافى الإنشاء والتعليق ; إذ زمن الإنشاء يقارن وجود معناه ، وزمن وقوع المعلق يتأخر عن التعليق ، فتنافيا .
وأما قولكم : " إن هذا الطلاق المعلق على المشيئة إما أن يريد طلاقا ماضيا أو مقارنا أو مستقبلا - إلى آخره " فجوابه ما قد تقدم مرارا أنه إن أراد به المشيئة إلى هذا اللفظ المذكور ، وأن الله إن كان قد شاءه فأنت طالق طلقت ، ولا ريب أن المستثني لم يرد هذا ، وإنما أراد ألا يقع الطلاق ، فرده إلى مشيئة الله ، وأن الله إن شاءه بعد هذا وقع ، فكأنه قال : لا أريد طلاقك ، ولا أرب لي فيه إلا أن يشاء الله ذلك فينفذ رضيت أم سخطت ، كما قال نبي الله
شعيب عليه السلام : {
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=89وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا } أي : نحن لا نعود في ملتكم ، ولا نختار ذلك ، إلا أن يشاء الله ربنا شيئا فينفذ ما شاءه ، وكذلك قال
إبراهيم : {
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=80ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما } أي : لا يقع بي مخوف من جهة آلهتكم أبدا ، إلا أن يشاء ربي شيئا فينفذ ما شاءه .
فرد الأنبياء ما أخبروا ألا يكون إلى مشيئة الرب تعالى وإلى علمه استدراكا واستثناء ، أي : لا يكون ذلك أبدا ، ولكن إن شاءه الله تعالى كان ، فإنه تعالى عالم بما لا نعلمه نحن من الأمور التي تقتضيها حكمته وحده .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ : " إنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ يَرْفَعُ جُمْلَةَ الطَّلَاقِ فَلَمْ يَصِحَّ ، كَقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا ثَلَاثًا " فَمَا أَبْرَدَهَا مِنْ حُجَّةٍ ; فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَمْ يَرْفَعْ حُكْمَ الطَّلَاقِ بَعْدَ وُقُوعِهِ ، وَإِنَّمَا مَنَعَ مِنْ انْعِقَادِهِ مُنَجَّزًا ، بَلْ انْعَقَدَ مُعَلَّقًا ، كَقَوْلِهِ : " أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ فُلَانٌ " فَلَمْ يَشَأْ فُلَانٌ ; فَإِنَّهَا لَا تَطْلُقُ ، وَلَا يُقَالُ : إنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ رَفَعَ جُمْلَةَ الطَّلَاقِ .
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ " : إنَّهُ مِنْ إنْشَاءِ حُكْمٍ فِي مَحَلٍّ ، فَلَمْ يَرْتَفِعْ بِالْمَشِيئَةِ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ " فَأَبْرَدُ مِنْ الْحُجَّةِ الَّتِي قَبْلَهَا ; فَإِنَّ الْبَيْعَ وَالنِّكَاحَ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُمَا بِالشَّرْطِ ، بِخِلَافِ الطَّلَاقِ .
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ : " إزَالَةُ مِلْكٍ ; فَلَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ كَالْإِبْرَاءِ " فَكَذَلِكَ أَيْضًا ; فَإِنَّ الْإِبْرَاءَ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ عَلَى الشَّرْطِ مُطْلَقًا عِنْدَكُمْ ، سَوَاءٌ كَانَ الشَّرْطُ مَشِيئَةَ اللَّهِ أَوْ غَيْرَهَا ، فَلَوْ قَالَ : " أَبْرَأْتُك إنْ شَاءَ زَيْدٌ " لَمْ يَصِحَّ ، وَلَوْ قَالَ : " أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ زَيْدٌ " صَحَّ .
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ : " إنَّهُ تَعْلِيقٌ عَلَى مَا لَا سَبِيلَ إلَى الْعِلْمِ بِهِ " فَلَيْسَ كَذَلِكَ ، بَلْ هُوَ تَعْلِيقٌ عَلَى مَا لَنَا سَبِيلٌ إلَى عِلْمِهِ ; فَإِنَّهُ إذَا أَوْقَعَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَلِمْنَا وُجُودَ الشَّرْطِ قَطْعًا ، وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ شَاءَهُ .
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ " إنَّ اللَّهَ قَدْ شَاءَهُ بِتَكَلُّمِ الْمُطَلِّقِ بِهِ " فَاَلَّذِي شَاءَهُ اللَّهُ إنَّمَا هُوَ طَلَاقٌ مُعَلَّقٌ ، وَالطَّلَاقُ الْمُنَجَّزُ لَمْ يَشَأْهُ اللَّهُ ; إذْ لَوْ شَاءَهُ لَوَقَعَ ، وَلَا بُدَّ ، فَمَا شَاءَهُ اللَّهُ لَا يُوجِبُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ فِي الْحَالِ ، وَمَا يُوجِبُ وُقُوعَهُ فِي الْحَالِ لَمْ يَشَأْهُ اللَّهُ .
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ : " إنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ لِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ هَذِهِ اللَّفْظَةَ شَرْعًا وَقَدَرًا " فَنَعَمْ وَضَعَ تَعَالَى الْمُنَجَّزَ لِإِيقَاعِ الْمُنَجَّزِ ، وَالْمُعَلَّقَ لِوُقُوعِهِ عِنْدَ وُقُوعِ مَا عُلِّقَ بِهِ .
[ ص: 55 ] وَأَمَّا قَوْلُكُمْ : " لَوْ لَمْ يَشَأْ الطَّلَاقَ لَمْ يَأْذَنْ لِلْمُكَلَّفِ فِي التَّكَلُّمِ بِهِ " فَنَعَمْ شَاءَ الْمُعَلَّقَ ، وَأَذِنَ فِيهِ ، وَالْكَلَامُ فِي غَيْرِهِ ، وَقَوْلُكُمْ : " إنَّ هَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ ، وَهُوَ مُتَلَبِّسٌ بِالْفِعْلِ : أَنَا أَفْعَلُ إنْ شَاءَ اللَّهُ " فَهَذَا فَصْلُ النِّزَاعِ فِي الْمَسْأَلَةِ ، فَإِذَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ : " أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ هَذَا التَّطْلِيقَ الَّذِي صَدَرَ مِنِّي " لَزِمَهُ الطَّلَاقُ قَطْعًا ; لِوُجُودِ الشَّرْطِ ، وَلَيْسَ كَلَامُنَا فِيهِ ، وَإِنَّمَا كَلَامُنَا فِيمَا إذَا أَرَادَ " إنْ شَاءَ اللَّهُ طَلَاقًا مُسْتَقْبَلًا " أَوْ أَطْلَقَ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ ، فَلَا يَنْبَغِي النِّزَاعُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ ، وَلَا يُظَنُّ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْأَئِمَّةِ يُنَازِعُ فِيهِ ; فَإِنَّهُ تَعْلِيقٌ عَلَى شَرْطٍ مُسْتَقْبَلٍ مُمْكِنٍ فَلَا يَجُوزُ إلْغَاؤُهُ ، كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ فَقَالَ : " إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ أُطَلِّقَك غَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ " إلَّا أَنْ يَسْتَرْوِحَ إلَى ذَلِكَ الْمَسْلَكِ الْوَخِيمِ أَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِالْمُسْتَحِيلِ فَلَغَا التَّعْلِيقَ كَمَشِيئَةِ الْحَجَرِ وَالْمَيِّتِ .
وَأَمَّا إذَا أَطْلَقَ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَيُحْمَلُ مُطْلَقُ كَلَامِهِ عَلَى مُقْتَضَى الشَّرْطِ لُغَةً وَشَرْعًا وَعُرْفًا ، وَهُوَ اقْتِضَاؤُهُ لِلْوُقُوعِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ .
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُكُمْ بِقَوْلِ
يُوسُفَ لِأَبِيهِ ، وَإِخْوَتِهِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=99اُدْخُلُوا مِصْرَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ } فَلَا حُجَّةَ فِيهِ ; فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إنْ عَادَ إلَى الْأَمْرِ الْمَطْلُوبِ دَوَامُهُ وَاسْتِمْرَارُهُ فَظَاهِرٌ ، وَإِنْ عَادَ إلَى الدُّخُولِ الْمُقَيَّدِ بِهِ فَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ حَالَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ ؟ وَلَعَلَّهُ إنَّمَا قَالَهَا عِنْدَ تَلَقِّيهِ لَهُمْ ، وَيَكُونُ دُخُولُهُمْ عَلَيْهِ فِي مَنْزِلِ اللِّقَاءِ فَقَالَ لَهُمْ حِينَئِذٍ {
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=99اُدْخُلُوا مِصْرَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ } فَهَذَا مُحْتَمَلٌ .
وَإِنْ كَانَ إنَّمَا قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ بَعْدَ دُخُولِهِمْ عَلَيْهِ فِي دَارِ مَمْلَكَتِهِ فَالْمَعْنَى اُدْخُلُوهَا دُخُولَ اسْتِيطَانٍ وَاسْتِقْرَارٍ آمَنِينَ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ : " إنَّهُ لَوْ أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَوْ قَالَ أَنَا مُسْلِمٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ صَحَّ إسْلَامُهُ فِي الْحَالِ " فَنَعَمْ إذًا ; فَإِنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ ، فَإِذَا عَلَّقَهُ بِالشَّرْطِ تَنَجَّزَ ، كَمَا لَوْ عَلَّقَ الرِّدَّةَ بِالشَّرْطِ فَإِنَّهَا تُنَجَّزُ ، وَأَمَّا الطَّلَاقُ فَإِنَّهُ يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ .
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ : " إنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ قَطْعًا أَنَّ اللَّهَ قَدْ شَاءَ تَكَلُّمَهُ بِالطَّلَاقِ ، فَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَحْقِيقٌ لِمَا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ شَاءَهُ " فَقَدْ تَقَدَّمَ جَوَابُهُ ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ إنَّمَا شَاءَ الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ ، فَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّهُ شَاءَ الْمُنَجَّزَ ؟ ، وَلَمْ تَذْكُرُوا عَلَيْهِ دَلِيلًا .
وَقَوْلُكُمْ : " إنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ كَانَ اللَّهُ أَذِنَ فِي الطَّلَاقِ أَوْ أَبَاحَهُ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا " فَمَا أَعْظَمَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ، وَأَبَيْنَهُ حَقِيقَةً وَلُغَةً ، ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ عَنْ تَكَلُّفِ بَيَانِهِ ; فَإِنَّ بَيَانَ الْوَاضِحَاتِ نَوْعٌ مِنْ الْعِيِّ ، بَلْ نَظِيرُ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ : أَنْتِ طَالِقٌ إنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ شَاءَ تَلَفُّظِي بِهَذَا اللَّفْظِ ; فَهَذَا يَقَعُ قَطْعًا .
[ ص: 56 ] وَأَمَّا قَوْلُكُمْ : " إنَّ الْكَفَّارَةَ أَقْوَى مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ ; لِأَنَّهَا تَرْفَعُ حُكْمَ الْيَمِينِ ، وَالِاسْتِثْنَاءُ يَمْنَعُ عَقْدَهَا ، وَإِذَا لَمْ تَدْخُلْ الْكَفَّارَةُ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَالِاسْتِثْنَاءُ أَوْلَى " فَمَا أَوْهَنَهَا مِنْ شُبْهَةٍ ، وَهِيَ عِنْدَ التَّحْقِيقِ لَا شَيْءَ ; فَإِنَّ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ إذَا وَقَعَا لَمْ تُؤَثِّرْ فِيهِمَا الْكَفَّارَةُ شَيْئًا ، وَلَا يُمْكِنُ حِلُّهُمَا بِالْكَفَّارَةِ ، بِخِلَافِ الْأَيْمَانِ فَإِنَّ حِلَّهَا بِالْكَفَّارَةِ مُمْكِنٌ ، وَهَذَا تَشْرِيعٌ شَرَعَهُ شَارِعُ الْأَحْكَامِ هَكَذَا ، فَلَا يُمْكِنُ تَغْيِيرُهُ ; فَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ لَا يَقْبَلُ الْكَفَّارَةَ كَمَا لَمْ تَقْبَلْهَا سَائِرُ الْعُقُودِ كَالْوَقْفِ وَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْإِجَارَةِ وَالْخُلْعِ ، فَالْكَفَّارَةُ مُخْتَصَّةٌ بِالْأَيْمَانِ ، وَهِيَ مِنْ أَحْكَامِهَا الَّتِي لَا تَكُونُ لِغَيْرِهَا ، وَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ فَيُشْرَعُ فِي أَعَمَّ مِنْ الْيَمِينِ كَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ ، وَالْخَبَرِ عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ ، كَقَوْلِ النَّبِيِّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
nindex.php?page=hadith&LINKID=39581وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ } وَقَوْلِهِ عَنْ
أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ {
nindex.php?page=hadith&LINKID=16357 : بَلْ أَنَا أَقْتُلُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ } ، وَكَذَا الْخَبَرُ عَنْ الْحَالِ نَحْوَ " أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ " ، وَلَا تَدْخُلُ الْكَفَّارَةُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلَيْسَ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالتَّكْفِيرِ تَلَازُمٌ .
بَلْ تَكُونُ الْكَفَّارَةُ حَيْثُ لَا اسْتِثْنَاءَ ، وَالِاسْتِثْنَاءُ حَيْثُ لَا كَفَّارَةَ ، وَالْكَفَّارَةُ شُرِعَتْ تَحِلَّةً لِلْيَمِينِ بَعْدَ عَقْدِهَا ، وَالِاسْتِثْنَاءُ شُرِعَ لِمَعْنًى آخَرَ ، وَهُوَ تَأْكِيدُ التَّوْحِيدِ ، وَتَعْلِيقُ الْأُمُورِ بِمَشِيئَةِ مَنْ لَا يَكُونُ شَيْءٌ إلَّا بِمَشِيئَتِهِ ; فَشُرِعَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُفَوِّضَ الْأَمْرَ الَّذِي عَزَمَ عَلَيْهِ ، وَحَلَفَ عَلَى فِعْلِهِ أَوْ تَرْكِهِ إلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ ; وَيَعْقِدُ نُطْقَهُ بِذَلِكَ ، فَهَذَا شَيْءٌ ، وَالْكَفَّارَةُ شَيْءٌ آخَرُ .
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ : " إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إنْ كَانَ رَافِعًا فَهُوَ رَافِعٌ لِجُمْلَةِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَلَا يَرْتَفِعُ " فَهَذَا كَلَامٌ عَارٍ عَنْ التَّحْقِيقِ ; فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِاسْتِثْنَاءٍ بِأَدَاةِ إلَّا ، وَأَخَوَاتِهَا الَّتِي يَخْرُجُ بِهَا بَعْضُ الْمَذْكُورِ ، وَيَبْقَى بَعْضُهُ حَتَّى يَلْزَمَ مَا ذَكَرْتُمْ ، وَإِنَّمَا هُوَ شَرْطٌ يَنْتَفِي الْمَشْرُوطُ عِنْدَ انْتِفَائِهِ كَسَائِرِ الشُّرُوطِ ، ثُمَّ كَيْفَ يَقُولُ هَذَا الْقَائِلُ فِي قَوْلِهِ : " أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ زَيْدٌ الْيَوْمَ " ، وَلَمْ يَشَأْ ؟ فَمُوجِبُ دَلِيلِهِ أَنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ .
فَإِنْ قِيلَ : فَلَوْ أَخْرَجَهُ بِأَدَاةِ إلَّا فَقَالَ " أَنْتِ طَالِقٌ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ " كَانَ رَفْعًا لِجُمْلَةِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ ، قِيلَ : هَذِهِ مَغْلَطَةٌ ظَاهِرَةٌ ; فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ هَاهُنَا لَيْسَ إخْرَاجُ جُمْلَةِ مَا تَنَاوَلَهُ الْمَذْكُورُ ; لِيَلْزَمَ مَا ذَكَرْت ، وَإِنَّمَا هُوَ تَقْيِيدٌ لِمُطْلَقِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ بِجُمْلَةٍ أُخْرَى مُخَصَّصَةٍ لِبَعْضِ أَحْوَالِهَا ، أَيْ : أَنْتِ طَالِقٌ فِي كُلِّ حَالَةٍ إلَّا حَالَةً وَاحِدَةً ، وَهِيَ حَالَةٌ لَا يَشَاءُ اللَّهُ فِيهَا الطَّلَاقَ ، فَإِذَا لَمْ يَقَعْ مِنْهُ طَلَاقٌ بَعْدَ هَذَا عَلِمْنَا بِعَدَمِ وُقُوعِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَشَأْ الطَّلَاقَ ; إذْ لَوْ شَاءَهُ لَوَقَعَ .
ثُمَّ يُنْتَقَضُ هَذَا بِقَوْلِهِ " إلَّا أَنْ يَشَاءَ زَيْدٌ " وَ " إلَّا أَنْ تَقُومِي " وَنَحْوَ ذَلِكَ ; فَإِنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ إذَا لَمْ يَشَأْهُ زَيْدٌ ، وَإِذَا لَمْ تَقُمْ ، وَسَمَّى هَذَا التَّعْلِيقَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى اسْتِثْنَاءً فِي لُغَةِ الشَّارِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=17إذْ أَقْسَمُوا لِيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ } أَيْ : لَمْ
[ ص: 57 ] يَقُولُوا إنْ شَاءَ اللَّهُ ; فَمَنْ حَلَفَ فَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَقَدْ اسْتَثْنَى ; فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ اسْتِفْعَالٌ مِنْ ثَنَيْتُ الشَّيْءَ ، كَأَنَّ الْمُسْتَثْنِيَ بِإِلَّا قَدْ عَادَ عَلَى كَلَامِهِ فَثَنَى آخِرَهُ عَلَى أَوَّلِهِ بِإِخْرَاجِ مَا أَدْخَلَهُ أَوَّلًا فِي لَفْظِهِ ، وَهَكَذَا التَّقَيُّدُ بِالشَّرْطِ سَوَاءٌ ; فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِهِ قَدْ ثَنَى آخِرَ كَلَامِهِ عَلَى أَوَّلِهِ فَقَيَّدَ بِهِ مَا أَطْلَقَهُ أَوَّلًا ، وَأَمَّا تَخْصِيصُ الِاسْتِثْنَاءِ بِإِلَّا ، وَأَخَوَاتِهَا فَعُرْفٌ خَاصٌّ لِلنُّحَاةِ .
وَقَوْلُكُمْ : " إنْ كَانَ شَرْطًا ، وَيُرَادُ بِهِ إنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ شَاءَ طَلَاقَك فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَيَنْفُذُ لِمَشِيئَةِ اللَّهِ بِمَشِيئَتِهِ لِسَبَبِهِ ، وَهُوَ الطَّلَاقُ الْمَذْكُورُ ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ أُطَلِّقَك فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَقَدْ عَلَّقَهُ بِمَا لَا سَبِيلَ إلَى الْعِلْمِ بِهِ فَيَلْغُو التَّعْلِيقُ وَيَبْقَى أَصْلُ الطَّلَاقِ " فَهَذَا هُوَ أَكْبَرُ عُمْدَةِ الْمُوَقِّعِينَ ، وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ شَاءَ تَكَلُّمِي بِهَذَا اللَّفْظِ أَوْ شَاءَ طَلَاقَك بِهَذَا اللَّفْظِ طَلُقَتْ ، وَلَكِنَّ الْمُسْتَثْنِيَ لَمْ يُرِدْ هَذَا ، بَلْ ، وَلَا خَطَرَ عَلَى بَالِهِ ، فَبَقِيَ الْقِسْمُ الْآخَرُ ، وَهُوَ أَنْ يُرِيدَ إنْ شَاءَ اللَّهُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ عَلَيْك فِيمَا يَأْتِي ، فَهَذَا تَعْلِيقٌ صَحِيحٌ مَعْقُولٌ يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِوُجُودِ مَا عَلَّقَ عَلَيْهِ بِوُجُودِ سَبَبِهِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ : " إنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِمَا لَا يَخْرُجُ عَنْهُ كَائِنٌ ، فَوَجَبَ نُفُوذُهُ ، كَمَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إنْ عَلِمَ اللَّهُ ، أَوْ إنْ قَدَّرَ اللَّهُ ، أَوْ سَمِعَ اللَّهُ - إلَى آخِرِهِ " فَمَا أَبْطَلَهَا مِنْ حُجَّةٍ ، فَإِنَّهَا لَوْ صَحَّتْ لَبَطَلَ حُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْأَيْمَانِ لِمَا ذَكَرْتُمُوهُ بِعَيْنِهِ ، وَلَا نَفَعَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُسْتَثْنِيَ لَمْ يَخْطُرْ هَذَا عَلَى بَالِهِ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ تَفْوِيضَ الْأَمْرِ إلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ وَتَعْلِيقِهِ بِهِ ، وَأَنَّهُ إنْ شَاءَهُ نَفَذَ ، وَإِنْ لَمْ يَشَأْهُ لَمْ يَقَعْ ، وَلِذَلِكَ كَانَ مُسْتَثْنِيًا ، أَيْ : وَإِنْ كُنْت قَدْ الْتَزَمْت الْيَمِينَ أَوْ الطَّلَاقَ أَوْ الْعَتَاقَ فَإِنَّمَا الْتَزَمَهُ بَعْدَ مَشِيئَةِ اللَّهِ وَتَبَعًا لَهَا ، فَإِنْ شَاءَهُ فَهُوَ تَعَالَى يُنْفِذُهُ بِمَا يُحْدِثُهُ مِنْ الْأَسْبَابِ ، وَلَمْ يُرِدْ الْمُسْتَثْنِيَ إنْ كَانَ لِلَّهِ مَشِيئَةٌ أَوْ عِلْمٌ أَوْ سَمْعٌ أَوْ بَصَرٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، وَلَمْ يَخْطُرْ ذَلِكَ بِبَالِهِ أَلْبَتَّةَ .
يُوَضِّحُهُ : أَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ ، وَلَا سِيَّمَا بِأَدَاةِ " إنْ " الَّتِي لِلْجَائِزِ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ ، وَلَوْ شَكَّ فِي هَذَا لَكَانَ ضَالًّا ، بِخِلَافِ الْمَشِيئَةِ الْخَاصَّةِ ، فَإِنَّهَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِالطَّلَاقِ ، وَأَنْ لَا تَتَعَلَّقَ بِهِ ، وَهُوَ شَاكٌّ فِيهَا كَمَا يَشُكُّ الْعَبْدُ فِيمَا يُمْكِنُ أَنْ يَفْعَلَهُ اللَّهُ بِهِ ، وَأَنْ لَا يَفْعَلَهُ هَلْ شَاءَهُ أَمْ لَا ؟ فَهَذَا هُوَ الْمَعْقُولُ الَّذِي فِي فِطَرِ الْحَالِفِينَ وَالْمُسْتَثْنِينَ ، وَحَذْفُ مَفْعُولِ الْمَشِيئَةِ لَمْ يَكُنْ لِمَا ذَكَرْتُمْ ، وَهُوَ عَدَمُ إرَادَةِ مَفْعُولٍ مُعَيَّنٍ ، بَلْ لِلْعِلْمِ بِهِ ، وَدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ وَتَعَيُّنِ إرَادَتَهُ ; إذْ الْمَعْنَى إنْ شَاءَ اللَّهُ طَلَاقَك فَأَنْتِ طَالِقٌ .
كَمَا لَوْ قَالَ : " وَاَللَّهِ لَأُسَافِرَنَّ إنْ شَاءَ اللَّهُ " أَيْ : إنْ شَاءَ اللَّهُ سَفَرِي ، وَلَيْسَ مُرَادُهُ إنْ كَانَ لِلَّهِ صِفَةٌ هِيَ الْمَشِيئَةُ ; فَاَلَّذِي قَدَّرْتُمُوهُ مِنْ الْمَشِيئَةِ الْمُطْلَقَةِ هُوَ الَّذِي لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِ الْحَالِفِ وَالْمُطَلِّقِ ، وَإِنَّمَا الَّذِي لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ سَوَاءٌ هُوَ الْمَشِيئَةُ الْمُعَيَّنَةُ الْخَاصَّةُ .
[ ص: 58 ] وَقَوْلُكُمْ : " إنَّ الْمُسْتَثْنِيَ لَوْ سُئِلَ عَمَّا أَرَادَ لَمْ يُفْصِحْ بِالْمَشِيئَةِ الْخَاصَّةِ ، بَلْ تَكَلَّمَ بِلَفْظِ الِاسْتِثْنَاءِ بِنَاءً عَلَى مَا اعْتَادَهُ النَّاسُ مِنْ التَّكَلُّمِ بِهَذَا اللَّفْظِ " كَلَامٌ غَيْرُ سَدِيدٍ ، فَإِنَّهُ لَوْ صَحَّ لَمَا نَفَعَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي يَمِينٍ قَطُّ ، وَلِهَذَا نَقُولُ : إنْ قَصَدَ التَّحْقِيقَ وَالتَّأْكِيدَ بِذِكْرِ الْمَشِيئَةِ يُنَجَّزُ الطَّلَاقُ ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءٌ .
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ " إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بَابُهُ الْأَيْمَانُ " إنْ أَرَدْتُمْ بِهِ اخْتِصَاصَ الْأَيْمَانِ بِهِ فَلَمْ تَذْكُرُوا عَلَى ذَلِكَ دَلِيلًا ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=36270مَنْ حَلَفَ فَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَقَدْ اسْتَثْنَى } ، وَفِي لَفْظٍ آخَرَ {
nindex.php?page=hadith&LINKID=36270مَنْ حَلَفَ فَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ ; فَإِنْ شَاءَ فَعَلَ ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ } فَحَدِيثٌ حَسَنٌ ، وَلَكِنْ لَا يُوجِبُ اخْتِصَاصَ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْمَشِيئَةِ بِالْيَمِينِ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=23وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } وَهَذَا لَيْسَ بِيَمِينٍ ، وَيُشْرَعُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالْخَبَرِ عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ ، كَقَوْلِهِ : غَدًا أَفْعَلُ إنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَقَدْ عَتَبَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ لِمَنْ سَأَلَهُ مِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ عَنْ أَشْيَاءَ " غَدًا أُخْبِرُكُمْ " ، وَلَمْ يَقُلْ إنْ شَاءَ اللَّهُ ، فَاحْتَبَسَ الْوَحْيُ عَنْهُ شَهْرًا ، ثُمَّ نَزَلَ عَلَيْهِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=23وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّك إذَا نَسِيتَ } أَيْ : إذَا نَسِيتَ ذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءَ عَقِيبَ كَلَامِك فَاذْكُرْهُ بِهِ إذَا ذَكَرْت ، هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ ، وَهُوَ الَّذِي أَرَادَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ بِصِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَرَاخِي ، وَلَمْ يَقُلْ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ قَطُّ ، وَلَا مَنْ هُوَ دُونَهُ : إنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ : " أَنْتِ طَالِقٌ " أَوْ لِعَبْدِهِ : " أَنْتَ حُرٌّ " ثُمَّ قَالَ بَعْدَ سَنَةٍ " إنْ شَاءَ اللَّهُ " إنَّهَا لَا تَطْلُقُ ، وَلَا يُعْتَقُ الْعَبْدُ ، وَأَخْطَأَ مَنْ نَقَلَ ذَلِكَ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَوْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَلْبَتَّةَ ، وَلَمْ يَفْهَمُوا مُرَادَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَخْتَصُّ بِالْيَمِينِ لَا شَرْعًا ، وَلَا عُرْفًا ، وَلَا لُغَةً ، وَإِنْ أَرَدْتُمْ بِكَوْنِ بَابِهِ الْأَيْمَانَ كَثْرَتَهُ فِيهَا ; فَهَذَا لَا يَنْفِي دُخُولُهُ فِي غَيْرِهَا .
وَقَوْلُكُمْ : " إنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْإِخْبَارَاتِ ، وَلَا فِي الْإِنْشَاءَاتِ ، فَلَا يُقَالُ : قَامَ زَيْدٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَلَا قُمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ [ وَلَا بِعْت إنْ شَاءَ اللَّهُ ] فَكَذَا لَا يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ " فَلَيْسَ هَذَا بِتَمْثِيلٍ صَحِيحٍ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبَابَيْنِ أَنَّ الْأُمُورَ الْمَاضِيَةَ قَدْ عَلِمَ أَنَّهَا وَقَعَتْ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ ، وَالشَّرْطُ إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي الِاسْتِقْبَالِ ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ : قُمْت أَمْسِ إنْ شَاءَ اللَّهُ ، فَلَوْ أَرَادَ الْإِخْبَارَ عَنْ وُقُوعِهَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ أَتَى بِغَيْرِ صِيغَةِ الشَّرْطِ ، فَيَقُولُ : فَعَلْت كَذَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَعَوْنِهِ وَتَأْيِيدِهِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ : غَدًا أَفْعَلُ إنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ : " قُمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ " وَ " لَا تَقُمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ " فَلَا فَائِدَةَ فِي هَذَا الْكَلَامِ ; إذْ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ إلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ ، فَأَيُّ مَعْنًى لِقَوْلِهِ : إنْ شَاءَ اللَّهُ لَك الْقِيَامَ فَقُمْ ، وَإِنْ لَمْ يَشَأْهُ فَلَا تَقُمْ ؟ .
نَعَمْ لَوْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ قُمْ أَوْ لَا تَقُمْ الْخَبَرَ ، وَأَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الطَّلَبِ تَأْكِيدًا ، أَيْ : تَقُومُ إنْ شَاءَ اللَّهُ ، صَحَّ ذَلِكَ ، كَمَا إذَا قَالَ :
[ ص: 59 ] مُتْ عَلَى الْإِسْلَامِ إنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَلَا تَمُتْ إلَّا عَلَى تَوْبَةٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ ، وَكَذَا إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ " قُمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ " رَدَّ الْمَشِيئَةَ إلَى مَعْنًى خَبَرِيٍّ ، أَيْ : وَلَا تَقُومُ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ; فَهَذَا صَحِيحٌ مُسْتَقِيمٌ لَفْظًا وَمَعْنًى ، وَأَمَّا " بِعْت إنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَاشْتَرَيْت إنْ شَاءَ اللَّهُ " فَإِنْ أَرَادَ بِهِ التَّحْقِيقَ صَحَّ وَانْعَقَدَ الْعَقْدُ ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ التَّعْلِيقَ لَمْ يَكُنْ الْمَذْكُورُ إنْشَاءً ، وَتَنَافَى الْإِنْشَاءُ وَالتَّعْلِيقُ ; إذْ زَمَنُ الْإِنْشَاءِ يُقَارِنُ وُجُودَ مَعْنَاهُ ، وَزَمَنُ وُقُوعِ الْمُعَلَّقِ يَتَأَخَّرُ عَنْ التَّعْلِيقِ ، فَتَنَافَيَا .
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ : " إنَّ هَذَا الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ عَلَى الْمَشِيئَةِ إمَّا أَنْ يُرِيدَ طَلَاقًا مَاضِيًا أَوْ مُقَارِنًا أَوْ مُسْتَقْبَلًا - إلَى آخِرِهِ " فَجَوَابُهُ مَا قَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا أَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِهِ الْمَشِيئَةَ إلَى هَذَا اللَّفْظِ الْمَذْكُورِ ، وَأَنَّ اللَّهَ إنْ كَانَ قَدْ شَاءَهُ فَأَنْتِ طَالِقٌ طَلُقَتْ ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمُسْتَثْنِيَ لَمْ يُرِدْ هَذَا ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَلَّا يَقَعَ الطَّلَاقُ ، فَرَدَّهُ إلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ ، وَأَنَّ اللَّهَ إنْ شَاءَهُ بَعْدَ هَذَا وَقَعَ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : لَا أُرِيدُ طَلَاقَك ، وَلَا أَرَبَ لِي فِيهِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ذَلِكَ فَيَنْفُذُ رَضِيتُ أَمْ سَخِطْتُ ، كَمَا قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ
شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=89وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا } أَيْ : نَحْنُ لَا نَعُودُ فِي مِلَّتِكُمْ ، وَلَا نَخْتَارُ ذَلِكَ ، إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا شَيْئًا فَيَنْفُذُ مَا شَاءَهُ ، وَكَذَلِكَ قَالَ
إبْرَاهِيمُ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=80وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا } أَيْ : لَا يَقَعُ بِي مَخُوفٌ مِنْ جِهَةِ آلِهَتِكُمْ أَبَدًا ، إلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا فَيَنْفُذُ مَا شَاءَهُ .
فَرَدَّ الْأَنْبِيَاءُ مَا أَخْبَرُوا أَلَّا يَكُونَ إلَى مَشِيئَةِ الرَّبِّ تَعَالَى وَإِلَى عِلْمِهِ اسْتِدْرَاكًا وَاسْتِثْنَاءً ، أَيْ : لَا يَكُونُ ذَلِكَ أَبَدًا ، وَلَكِنْ إنْ شَاءَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَانَ ، فَإِنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِمَا لَا نَعْلَمُهُ نَحْنُ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي تَقْتَضِيهَا حِكْمَتُهُ وَحْدَهُ .