الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الوجه الثاني: أن يقال: هب أنهم أرادوا بالتقدم تقدم العلة على المعلول، من غير تقدم بالزمان ولا تقدير الزمان، وكان اللازم هو الملزوم، لكن الشيء الواحد إذا عبر عنه بعبارتين تدل كل منهما على وصف غير الوصف الآخر، كان تعدد المعاني نافعا، وإن كانت الذات واحدة، ولهذا قد تعلم الذات بوصف ولا تعلم بوصف آخر، فإذا كان ذات التقدم ذات العلة، فليس المفهوم من نفس العلة هو المفهوم من نفس التقدم، وإن كانا متلازمين، بل معنى العلة أنه اقتضاه وأوجبه، ومعنى التقدم أنه قبله.

وقد يفهم السبق والقبلية من لا يعلم أنه علة بعد. فإذا قيل: لو كان علة قبله كان هذا صحيحا. ثم العقل يجزم بأن الشيء لا يكون قبل نفسه، فضلا عن أن يكون قبل ما هو قبل نفسه، بأي وجه فسر معنى السبق والقبلية. [ ص: 303 ]

وحينئذ فيستدل بهذا على ذلك من لم يفهم الامتناع من لفظ العلة. وأما من فهم الامتناع من لفظ العلة، كما عليه جمهور الفطر السليمة فلا يحتاج إلى هذا.

ولكن كون الشيء دليلا على الشيء معناه أنه يلزم من ثبوته ثبوته. والشيئان المتلازمان كل منهما يصلح أن يكون دليلا على الآخر، ثم من شأن الإنسان أن يستدل بالظاهر على الخفي، لكن الظهور والخفاء من الأمور النسبية، فقد يظهر لهذا ما لا يظهر لهذا، وقد يظهر للإنسان في وقت ما يخفى عليه في وقت آخر. فلهذا أمكن أن يستدل بهذا على ذاك، وبذاك على هذا، إذا قدر أن هذا أظهر من ذاك تارة، وذاك أظهر من هذا أخرى، وإما بحسب شخصين، وإما بحسب حالين.

وهذه المعاني من تفطن لها انجلت عنه شبه كثيرة فيما يورده الناس على الحدود والأدلة التي قد يقال إنه لا فائدة فيها ولا حاجة إليها، وذاك صحيح. وقد يقال: بل ينتفع بها وهذا أيضا صحيح.

لكن من حصر العلم بطريق عينه، هو مثل حد معين ودليل معين، أخطأ كثيرا، كما أن من قال: "إن حد غيره ودليله لا يفيد بحال" أخطأ كثيرا، وهذا كما أن الذين أوجبوا النظر، وقالوا: "لا يحصل العلم إلا به مطلقا" أخطأوا. والذين قالوا: "لا حاجة إليه بحال، بل المعرفة دائما ضرورية لكل أحد في كل حال" أخطأوا، بل المعرفة [ ص: 304 ] وإن كانت ضرورية في حق أهل الفطر السليمة، فكثير من الناس يحتاج فيها إلى النظر، والإنسان قد يستغني عنه في حال ويحتاج إليه في حال، وكذلك الحدود قد يحتاج إليها تارة ويستغنى عنها أخرى كالحدود اللفظية. والترجمة قد يحتاج إليها تارة وقد يستغنى عنها أخرى، وهذا له نظائر.

التالي السابق


الخدمات العلمية