الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الدليل الذي تمسك به الشيعة على أحقية علي بالخلافة، ورد أهل السنة عليهم

قال في «المرقاة»: تمسك الشيعة بأن هذا الحديث من النص الصريح بخلافة علي -رضي الله عنه-؛ حيث قالوا: معنى المولى: الأولى بالإمامة، وإلا، لما احتاج إلى جمعهم كذلك، وهذه أقوى شبههم. ودفعها علماء أهل السنة بأن المولى بمعنى: المحبوب، وهو -كرم الله وجهه- سيدنا وحبيبنا. وله معان أخر، ومنه: الناصر، وأمثاله، فخرج عن كونه نصا، فضلا عن أن يكون صريحا. ولو سلم أنه بمعنى: الأولى بالإمامة، فالمراد به: المآل، وإلا لزم أن يكون هو الإمام مع وجوده -عليه الصلاة والسلام- فتعين أن يكون المقصود، حين يوجد عقد البيعة له، فلا ينافيه تقديم الخلفاء الثلاثة الأئمة؛ لانعقاد إجماع من يعتد به، حتى من علي -رضي الله عنه- نفسه. ثم سكوته عن الاحتجاج به إلى أيام خلافته قاض على من له أدنى مسكة بأنه علم منه أنه نص فيه على خلافته عقب وفاته -عليه السلام- مع أن عليا -كرم الله وجهه- صرح نفسه بأنه -صلى الله عليه وسلم- لم ينص عليه، ولا غيره. انتهى حاصله.

قلت: ولو كان -صلى الله عليه وسلم- أراد بذلك خلافته، لم يكن له مانع من التصريح به. فلما لم يصرح، واختار لفظا له معان كثيرة، سقط الاحتجاج به على مراد الشيعة؛ فإن الاحتمال يسقط الاستدلال. ولو فرض أن له دلالة على الخلافة، فأين دلالته عليها بلا فضل، هل فيه لفظ يدل على ذلك؟ قل لي، إن كان بقي فيك بقية من الحياء والإنصاف. ولا منكر لخلافته في زمن بيعته، وسياق الحديث يأبى هذا الاحتجاج المنكر، المخالف للأدلة الصحيحة؛ لأن قوله -صلى الله عليه وسلم-: اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه نص واضح جلي على [ ص: 424 ] أن المراد بالمولى: المحبوب لا غير؛ لوقوع الموالاة في محاذاة المعاداة. فقد فسر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثه بنفسه الشريف، وعين مراده بذكر التولي والتبري، فهو في معنى الحديث المتقدم: لا يحبه إلا مؤمن، ولا يبغضه إلا منافق». ويدل له رواية أخرى في حديث الباب بلفظ: وأحب من أحبه، وأبغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار». وكل ذلك دعاء له -كرم الله وجهه- ولمن والاه وأحبه، ونصره ولم يخذله. وقد امتثل ذلك أولا عمر بن الخطاب، حيث هنأه بهذا الحديث، ثم تتابع عليه أهل السنة والجماعة.

وأما الرافضة، فخذلوه، ولم يوالوه، ولا نصروه، ولا أحبوه كما هو ظاهر من صنائعهم وبدائعهم، وإن كان بعضهم ألف في إثبات المولى بمعنى الأولى كتابا ضخيما في أجزاء كبار، حكى فيه أقوال الفقهاء وغيرهم من أهل السنة، وهذا لا ينفعه أبدا. فإن من معاني المولى: الأولى أيضا - نسلمه، ولكنه لا دلالة له على مراد الشيعة . فإن الأولوية لا تقتضي الخلافة بلا فصل ولا تقديم صاحبها على غيره، لا عقلا ولا شرعا. فأين هذا من ذاك؟ وأين السمك من السماك؟ وقد وقفت على كتاب في هذا الباب، فوجدت أن مؤلفه قلع الجبل، وأخرج الكلأ، وأضحك أهل المعرفة بكيفية الاستدلال عليه في الخلا والملأ.

قال في «الترجمة»: هذا الحديث أقوى متمسك للشيعة في ادعائهم النص التفصيلي على خلافة علي المرتضى -عليه السلام- [ ص: 425 ] قالوا: المولى هاهنا، بمعنى: الأولى بالإمامة؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «ألست أولى بكم؟» بمعنى: الناصر والمحبوب، وإلا لم تكن الحاجة ماسة إلى جمعهم وخطابهم بهذه المبالغة، ومثل هذا الدعاء لا يكون إلا لإمام معصوم مفروض الطاعة، فيكون له -رضي الله عنه- من الولاء ما كان له -صلى الله عليه وسلم- منه على الأمة.

قال: ولا شك أن هذا الحديث صحيح، رواه جماعة، منهم: الترمذي، والنسائي، وأحمد، وطرقه كثيرة، وروي من ستة عشر صحابيا، وسمعه منه -صلى الله عليه وسلم- أصحابه، وشهدوا به لعلي عند النزاع والخلاف معه في أيام خلافته، وأكثر أسانيده صحاح وحسان، ولا التفات إلى قول من تكلم في صحته، ولا إلى قول من قال: إن زيادة: «اللهم وال من والاه» موضوعة؛ لأنها وردت من طرق عديدة، صححها الذهبي كما قال ابن حجر المكي في «الصواعق». ولكن نقول في جواب الشيعة الشنيعة على طريقة الإلزام: إنهم اتفقوا على اعتبار التواتر في دليل الإمامة. وقالوا: متى لم يكن الخبر متواترا، لا يستدل به على صحة الإمامة، وقد تيقن أن هذا الحديث ليس بمتواتر مع وجود الخلاف فيه، وإن كان مردودا، بل الطاعن فيه بعض أئمة الحديث وعدولهم، الذين إليهم المرجع في هذا الباب. منهم: أبو داود السجستاني، وأبو حاتم الرازي، وغيرهما، ولم يروه أحد من أهل الحفظ والإتقان، الراحلين في طلب الحديث إلى أقصى البلدان؛ كالبخاري، ومسلم، والواقدي، ونحوهم من أكابر الحديث. وهذا وإن لم يكن مخلا في صحة الحديث، ولكن دعوى التواتر في مثله من أعجب العجائب. والشيعة اعتبروه في حديث الإمامة، فتدبر، وقد رد أهل السنة والجماعة عليهم، وكلامهم يطول جدا، وهو مذكور في «الصواعق المحرقة». وحاصله: أنا لا نسلم أن «المولى» هنا بمعنى: الحاكم والوالي، بل هو بمعنى المحبوب والناصر، كيف وهذه اللفظة مشتركة بين معان عديدة، منها: [ ص: 426 ] المعتق، والعتيق، والمتصرف في الأمر، وغيرها، ولا اعتبار بتعيين بعض المعاني المشتركة بلا دليل.

ونحن متفقون على صحة إرادة معنى المحبوب والناصر، وسياق الحديث أيضا ناظر في ذلك، وكون المولى بمعنى الإمام المعهود والمعلوم، لم يثبت من لغة ولا من شرع، ولم يذكر أحد من أئمة اللغة أن «مفعلا» أتى بمعنى أفعل. ويقال: هذا الشيء أولى من الشيء الفلاني، ولا يقال: مولى منه. فالغرض من التنصيص على موالاته: الاجتناب من بغضه، فإن التنصيص على ذلك أوفى وآكد، ولمزيد شرفه -رضي الله عنه- ولهذا صدر الحديث بقوله: « ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ »، ودعا أيضا لهذا السبب. وقد ورد في بعض طرقه ذكر أهل بيت النبوة عموما، وذكر علي خصوصا كما عند الطبراني وغيره بسند صحيح. وهذا يدل على أن المراد بذلك: الحث والترغيب والتأكيد على محبتهم. وورد أن سببه: أن بعض الصحابة كانوا في اليمن، وشكوا عنه -كرم الله وجهه- وأنكروا عليه في بعض الأمور؛ كبريدة الأسلمي، وهو في « البخاري »، وصححه الذهبي أيضا، فتغير وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقال: يا بريدة ! ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟... الحديث، وجمع الصحابة، وأكدهم في ذلك.

وقال ابن حجر المكي: سلمنا أن مولى بمعنى الأولى، ولكن من أين يستلزم لأن يكون المراد به أولى بالإمامة؟ بل المراد به: الأولى بالقرب والاتباع، كما قاله سبحانه: إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه [آل عمران: 68]، وليس عندنا دليل قاطع ظاهر يدل على نفي هذا الاحتمال. [ ص: 427 ] سلمنا أن المراد به: أولى بالإمامة، ولكن أين الدليل على إمامته في الحال؟ بل في المآل وقت البيعة معه -رضي الله عنه-. وتقديم الأئمة الثلاثة بإجماع من الصحابة، وعلي -رضي الله عنه- داخل في هذا الإجماع منهم، وبقرينة الأمور الأخرى المصرحة بخلافة أبي بكر بعده -صلى الله عليه وسلم-. وكيف يكون حجة ونصا على الإمامة، ولم يحتج به علي ولا العباس - رضي الله عنهما - به، ولا غيرهما عند مس الحاجة إليه؟ بل استدل به علي في زمن خلافته. فسكوته عن الاحتجاج به إلى أيام الخلافة، دليل بين على أنه علم أن هذا ليس بنص منه -صلى الله عليه وسلم- على خلافته بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم-.

وفي « البخاري »: أن عليا والعباس، خرجا من عنده -صلى الله عليه وسلم- في مرض الموت، فقال العباس لعلي : اطلب هذا الأمر يكون فينا، فقال علي: لا أطلب. ولو كان هذا الحديث نصا في إمامته -كرم الله وجهه- لم تكن الحاجة إلى المراجعة إليه -صلى الله عليه وسلم-، والسؤال عنه، ولم يقل العباس: اطلب هذا الأمر يكون فينا، مع قرب العهد بغدير خم نحو شهرين أو أقل أو أكثر. ولا يجوز العقل نسيان الصحابة كلهم أجمعين لهذا الخبر، وكذلك كتمانهم إياه مع العلم به. بل كانوا ذاكرين لهذا الحديث في حالة البيعة بأبي بكر الصديق -رضي الله عنه- عالمين به. وقد خطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد يوم «غدير خم»، وأظهر حق أبي بكر وعمر، وقال: «لا يكون أحد أميرا عليكم» كما في الأخبار. وقد ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- حث وحض على مودة أهل بيته ومحبتهم وموالاتهم في هذا الحديث وغيره، وبين الموالاة والخلافة فرق واضح.

[ ص: 428 ] وقالت الشيعة : إن الصحابة علموا بهذا النص، ولكن لم يتبعوه، ولم ينقادوا له؛ ظلما وعنادا ومكابرة، وترك علي الطلب والاحتجاج تقية. وهذا كذب وافتراء؛ لأنه -رضي الله عنه- كان شديد القوة، كثير العدد، شجاعا. وقد سمع من النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا النص، فلا يمكن ألا يحتج به، ولا يعمل به، بل هذا محال منه.

ولما احتج أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- بحديث: الأئمة من قريش»، لم لم يقل: إن النص واقع في خصوصه؟ فكيف تحتج بهذا العموم؟

التالي السابق


الخدمات العلمية