الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال أصحابنا فيمن سرق ثوبا فقطع فيه ثم سرقه مرة أخرى وهو بعينه : ( لم يقطع فيه ) . والأصل فيه أنه لا يجوز عندنا إثبات الحدود بالقياس ، وإنما طريقها التوقيف أو الاتفاق ، فلما عدمناهما فيما وصفنا لم يبق في إثباته إلا القياس ، ولا يجوز ذلك عندنا .

فإن قيل : هلا قطعته بعموم قوله : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما قبل السرقة قيل له : السرقة الثانية لم يتناولها العموم ؛ لأنها توجب قطع الرجل لو وجب القطع ، والذي في الآية قطع اليد . وأيضا فإن وجوب قطع السرقة متعلق بالفعل والعين جميعا ، والدليل عليه أنه متى سقط القطع وجب ضمان العين ، كما أن حد الزنا لما تعلق بالوطء كان سقوط الحد موجبا ضمان الوطء ، ولما تعلق وجوب القصاص بقتل النفس كان سقوط القود موجبا ضمان النفس ؛ فكذلك وجوب ضمان العين في السرقة عند سقوط القطع يوجب اعتبار العين في ذلك . فلما كان فعل واحد في عينين لا يوجب إلا قطعا واحدا ، كان كذلك حكم الفعلين في عين واحدة ينبغي أن لا يوجب إلا قطعا واحدا ؛ إذ كان لكل واحد من العينين أعني الفعل والعين تأثير في إيجاب القطع .

فإن قيل : فلو زنى بامرأة فحد ثم زنى بها مرة أخرى حد ثانيا مع وقوع الفعلين في عين واحدة . قيل له : لأنه لا تأثير لعين المرأة في تعلق وجوب الحد بها ، وإنما يتعلق وجوب حد الزنا بالوطء لا غير ؛ والدليل على ذلك أنه متى سقط الحد ضمن الوطء ولم يضمن عين المرأة ، وفي السرقة متى سقط القطع ضمن عين السرقة . وأيضا فلما صارت السرقة في يده بعد القطع في حكم المباح التافه ، بدلالة أن استهلاكها لا يوجب عليه ضمانها ، وجب أن لا يقطع فيها بعد ذلك كما لا يقطع في سائر المباحات التافهة في الأصل وإن حصلت ملكا للناس كالطين والخشب والحشيش والماء ؛ ومن أجل ذلك قالوا : إنه لو كان غزلا فنسجه ثوبا بعدما قطع فيه ثم سرقه مرة أخرى قطع ؛ لأن حدوث هذا الفعل فيه يرفع حكم الإباحة المانعة كانت من وجوب القطع ، كما لو سرق خشبا لم يقطع فيه ، ولو كان بابا منجورا فسرق قطع لخروجه بالصنعة [ ص: 83 ] عن الحال الأولى .

وأيضا لما كان وقوع القطع فيه يوجب البراءة من استهلاكه قام القطع فيه مقام دفع قيمته ، فصار كأنه عوضه منه ، وأشبه من هذا الوجه وقوع الملك له في المسروق ؛ لأن استحقاق البدل عليه يوجب له الملك ، فلما أشبه ملكه من هذا الوجه سقط القطع لأنه يسقط بالشبهة أن يشبه المباح من وجه ويشبه الملك من وجه .

التالي السابق


الخدمات العلمية