الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 354 ] ( فصل ) .

( ومن قتل عبدا خطأ فعليه قيمته لا تزاد على عشرة آلاف درهم ، فإن كانت قيمته عشرة آلاف درهم أو أكثر قضى له بعشرة آلاف إلا عشرة ، وفي الأمة إذا زادت قيمتها على الدية خمسة آلاف إلا عشرة ) وهذا عند أبي حنيفة ومحمد . وقال أبو يوسف والشافعي : تجب قيمته بالغة ما بلغت ، ولو غصب عبدا قيمته عشرون ألفا فهلك في يده تجب قيمته بالغة ما بلغت بالإجماع . لهما أن الضمان بدل المالية ولهذا يجب للمولى وهو لا يملك العبد إلا من حيث المالية ، ولو قتل العبد المبيع قبل القبض يبقى العقد وبقاؤه ببقاء المالية أصلا أو بدلا وصار كقليل القيمة وكالغصب . [ ص: 355 ] ولأبي حنيفة ومحمد قوله تعالى { ودية مسلمة إلى أهله } أوجبها مطلقا ، وهي اسم للواجب بمقابلة الآدمية ، ولأن فيه معنى الآدمية حتى كان مكلفا ، وفيه معنى المالية ، والآدمية أعلاهما فيجب اعتبارها بإهدار الأدنى عند تعذر الجمع بينهما وضمان الغصب بمقابلة المالية ، إذ الغصب لا يرد إلا على المال ، وبقاء العقد يتبع الفائدة حتى يبقى بعد قتله عمدا وإن لم يكن القصاص بدلا عن المالية فكذلك أمر الدية ، وفي قليل القيمة الواجب بمقابلة الآدمية إلا أنه لا سمع فيه فقدرناه بقيمته رأيا ، بخلاف كثير القيمة لأن قيمة الحر [ ص: 356 ] مقدرة بعشرة آلاف درهم ونقصنا منها في العبد إظهارا لانحطاط رتبته ، وتعيين العشرة بأثر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما . قال ( وفي يد العبد نصف قيمته لا يزاد على خمسة آلاف إلا خمسة ) لأن اليد من الآدمي نصفه فتعتبر بكله ، وينقص هذا المقدار إظهارا لانحطاط رتبته ، وكل ما يقدر من دية الحر فهو مقدر من قيمة العبد لأن القيمة في العبد كالدية في الحر إذ هو بدل الدم على ما قررناه ، وإن غصب أمة قيمتها عشرون ألفا فماتت في يده فعليه تمام قيمتها لما بينا أن ضمان الغصب ضمان المالية .

التالي السابق


لما فرغ من بيان أحكام جناية العبد شرع في بيان أحكام الجناية على العبد ، وقدم الأولى ترجيحا لجانب الفاعلية ، كذا في العناية وهو حق الأداء . وقال في النهاية وغاية البيان : إنما قدم جناية العبيد على الجناية عليهم لأن الفاعل قبل المفعول وجودا فكذا ترتيبا ، أقول : فيه بحث ، لأنه إن أريد أن ذات الفاعل قبل ذات المفعول وجودا فهو ممنوع ، إذ يجوز أن يكون وجود ذات المفعول قبل وجود ذات الفاعل مدة طويلة ، مثلا يجوز أن يكون عمر المجني عليه سبعين سنة أو أكثر وعمر الجاني عشرين سنة أو أقل ، وإن أريد أن فاعلية الفاعل قبل مفعولية المفعول وجودا فهو أيضا ممنوع فإن المفعولية والفاعلية توجدان معا في آن واحد وهو آن تعلق الفعل المتعدي بالمفعول بوقوعه عليه ، إذ قبل ذلك لا يتصف الفاعل بالفاعلية ولا المفعول بالمفعولية ، وكل [ ص: 355 ] ذلك غير خاف على الفطن العارف بالقواعد .

( قوله ولأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله قوله تعالى { ودية مسلمة إلى أهله } أوجبها مطلقا وهي اسم للواجب بمقابلة الآدمية ) وجه الاستدلال أن الله تعالى أوجب الدية مطلقا فيمن قتل خطأ حرا كان أو عبدا . والدية اسم للواجب بمقابلة الآدمية ، كذا في العناية وغيرها . أقول : لقائل أن يقول : لو كان الواجب فيمن قتل العبد أيضا خطأ هو الدية التي تكون واجبة بمقابلة الآدمية كان ينبغي أن لا تتفاوت ديات العبيد في المقدار لتساويهم في الآدمية ، كما لا تتفاوت ديات الأحرار في القيمة لتساويهم في ذلك وإن كان بعضهم أشرف من بعض بوجوه شتى ، مع أن ديات العبيد تتفاوت في المقدار بحسب تفاوت قيمتهم كما هو المذهب فتأمل .

( قوله ولأن فيه معنى الآدمية حتى كان مكلفا وفيه معنى المالية ، والآدمية أعلاهما فيجب اعتبارها بإهدار الأدنى عند تعذر الجمع بينهما ) قال صاحب العناية في شرح هذا المحل : ولأن فيه معنى الآدمية حتى كان مكلفا بلا خلاف ، وفيه معنى المالية حتى ورد عليه الملك بلا خلاف والآدمية أعلاهما لا محالة فيجب اعتبارها بإهدار الأدنى عند تعذر الجمع بينهما إذ العكس يفضي إلى إهدارهما جميعا ، لأن الآدمية أصل لقيام المالية بها ، وفي إهدار الأصل إهدار التابع ، وإهدار أحدهما أولى من إهدارهما انتهى ، واعترض عليه بعض الفضلاء بأنه منقوض بصورة الغصب فإن فيها إهدار الأصل دون التابع انتهى . أقول : ليس هذا بوارد ، فإن إهدار أحدهما إنما يتصور فيما إذا وجد إتلافهما معا فاعتبر أحدهما وأهدر الآخر بأن يعطى لإتلاف أحدهما حكم شرعي دون إتلاف الآخر كما فيما نحن فيه ، فإن في قتل العبد إتلاف آدمية ومالية معا ، بخلاف الغصب إذ ليس فيه إتلاف الآدمية أصلا ، وإنما الحاصل به إتلاف المالية بإزالة اليد المحقة عنه وإثبات اليد المبطلة فيه ، كما أشار إليه المصنف بقوله وضمان الغصب بمقابلة المالية ، إذ الغصب لا يرد إلا على المال ، فحيث لم يوجد فيه إتلاف الآدمية لم يلزم فيه إهدار الأصل الذي هو الآدمية ، فإن معنى إهداره أن لا يعطى لإتلافه حكم شرعي ، فإذا لم يوجد إتلافه لم يتصور أن يترتب عليه حكم شرعي فمن أين يلزم إهداره تفكر .

( قوله وفي قليل القيمة الواجب بمقابلة الآدمية إلا أنه لا سمع فيه فقدرناه بقيمته رأيا ) أقول : فيه إشكال ، إذ قد تقرر في علم الأصول وشاع في علم الفروع أيضا [ ص: 356 ] أن الرأي والقياس لا يجريان في المقادير ، بل إنما تعرف المقادير بالسمع فكيف يجوز التقدير بالقيمة هنا بالرأي من غير سمع ؟ وأيضا أن العبيد لا يتفاوتون في نفس الآدمية لا محالة ، وعن هذا لا يتفاوتون في شيء من تكاليف الشرع المتوجهة عليهم من حيث الآدمية ، كالتكليف بالإيمان والصلاة والصوم وغيرهما من شرائع المعاملات والعقوبات كما صرحوا به ، فكيف يتم تقدير الواجب عليهم بمقابلة الآدمية فيما نحن فيه بقيمتهم وهم متفاوتون في القيم .

( قوله : وإن غصب أمة قيمتها عشرون ألفا فماتت في يده فعليه تمام قيمتها ) أقول : لقائل أن يقول : ذكر هذه المسألة مرة فيما قبل حيث قال : ولو غصب عبدا قيمته عشرون ألفا وهلك في يده يجب قيمته بالغة ما بلغت بالإجماع فما وجه الإعادة هنا ، وتكرار مسألة واحدة في موضع قريب ليس من دأب المصنفين كما لا يخفى . ويمكن أن يقال : أصل المسألة ما ذكر هنا فإنه المذكور في الجامع الصغير والبداية ، والذي ذكر فيما قبل إنما هو بطريق الاستطراد فرقا بين مسألة قتل العبد خطأ وبين مسألة غصبه في الحكم ، حيث يجب في الأولى أقل من عشرة آلاف درهم إذا زادت قيمته على دية الحر عند أبي حنيفة ومحمد خلافا لأبي يوسف والشافعي ، ويجب في الثانية قيمته بالغة ما بلغت بالإجماع وجمعا لدليلي تينك المسألتين في البيان في موضع واحد .




الخدمات العلمية