الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                      صفحة جزء
                                                                      باب في الرهن

                                                                      3526 حدثنا هناد عن ابن المبارك عن زكريا عن الشعبي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبن الدر يحلب بنفقته إذا كان مرهونا والظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا وعلى الذي يركب ويحلب النفقة قال أبو داود وهو عندنا صحيح

                                                                      التالي السابق


                                                                      42 - باب في الرهن

                                                                      بفتح الراء وسكون الهاء في اللغة الاحتباس ، من قولهم رهن الشيء إذا دام وثبت ، وفي الشرع : جعل مال وثيقة على دين ويطلق أيضا على العين المرهونة تسمية للمفعول بها باسم المصدر ، وأما الرهن بضمتين فالجمع ويجمع أيضا على رهان بكسر الراء .

                                                                      [ ص: 349 ] ( لبن الدر ) : بفتح الدال المهملة وتشديد الراء مصدر بمعنى الدارة أي ذات الضرع ( يحلب ) : بصيغة المجهول ( والظهر ) : أي ظهر الدابة ، وقيل الظهر الإبل القوي يستوي فيه الواحد والجمع . ولعله سمي بذلك لأنه يقصد لركوب الظهر ( يركب ) : بصيغة المجهول . وقوله : يحلب ويركب . هو خبر في معنى الأمر كقوله تعالى والوالدات يرضعن أولادهن : ( وعلى الذي يحلب ويركب النفقة ) : وقد قيل إن فاعل الركوب والحلب لم يتعين فيكون الحديث مجملا .

                                                                      وأجيب بأنه لا إجمال بل المراد المرتهن بقرينة أن انتفاع الراهن بالعين المرهونة لأجل كونه ملكا ، والمراد هنا الانتفاع في مقابلة النفقة ، وذلك يختص بالمرتهن كما وقع التصريح به في بعض الروايات .

                                                                      وفيه دليل على أنه يجوز للمرتهن الانتفاع بالرهن إذا قام بما يحتاج إليه ولو لم يأذن المالك ، وبه قال أحمد وإسحاق والليث والحسن وغيرهم . وقال الشافعي وأبو حنيفة ومالك وجمهور العلماء : لا ينتفع المرتهن من الرهن بشيء ، بل الفوائد للراهن والمؤن عليه . كذا في النيل .

                                                                      وقال الحافظ في الفتح : وعلى الذي يحلب ويركب النفقة أي كائنا من كان ، هذا ظاهر الحديث ، وفيه حجة لمن قال : يجوز للمرتهن الانتقاع بالرهن إذا قام بمصلحته ولو لم يأذن له المالك ، وهو قول أحمد وإسحاق ، وطائفة قالوا : ينتفع المرتهن من الرهن بالركوب والحلب بقدر النفقة ولا ينتفع بغيرها لمفهوم الحديث . وأما دعوى الإجمال فيه فقد دل بمنطوقه على إباحة الانتفاع في مقابلة الإنفاق ، وهذا يختص بالمرتهن لأن الحديث وإن كان مجملا لكنه يختص بالمرتهن لأن انتفاع الراهن بالمرهون لكونه مالك رقبته لا لكونه منفقا عليه بخلاف المرتهن .

                                                                      وذهب الجمهور إلى أن المرتهن لا ينتفع من المرهون بشيء ، وتأولوا الحديث [ ص: 350 ] لكونه ورد على خلاف القياس من وجهين ، أحدهما : التجويز لغير المالك أن يركب ويشرب بغير إذنه ، والثاني تضمينه ذلك بالنفقة لا بالقيمة .

                                                                      قال ابن عبد البر : هذا الحديث عند جمهور الفقهاء يرده أصول مجمع عليها وآثار ثابتة لا يختلف في صحتها ، ويدل على نسخه حديث ابن عمر لا تحلب ماشية امرئ بغير إذنه انتهى . وتعقب بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال ، والتاريخ في هذا متعذر ، والجمع بين الأحاديث ممكن . وذهب الأوزاعي والليث وأبو ثور إلى حمله على ما إذا امتنع الراهن من الإنفاق على المرهون فيباح حينئذ للمرتهن الإنفاق على الحيوان حفظا لحياته ولإبقاء المالية فيه وجعل له في مقابلة نفقته الانتفاع بالركوب أو بشرب اللبن بشرط أن لا يزيد قدر ذلك أو قيمته على قدر علفه وهي من جملة مسائل الظفر . انتهى ما في فتح الباري .

                                                                      ويجاب عن دعوى مخالفة هذا الحديث الصحيح للأصول بأن السنة الصحيحة من جملة الأصول فلا ترد إلا بمعارض أرجح منها بعد تعذر الجمع . وعن حديث ابن عمر الذي عند البخاري في أبواب المظالم بأنه عام وحديث الباب خاص فيبنى العام على الخاص . قال في النيل : وأجود ما يحتج به للجمهور حديث أبي هريرة لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه له غنمه وعليه غرمه لأن الشارع قد جعل الغنم والغرم للراهن ، ولكنه قد اختلف في وصله وإرساله ورفعه ووقفه ، وذلك مما يوجب عدم انتهاضه لمعارضة ما في صحيح البخاري وغيره انتهى .

                                                                      قلت : أخرج الشافعي والدارقطني وقال : هذا إسناد حسن متصل عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه له غنمه وعليه غرمه وأخرجه أيضا الحاكم والبيهقي وابن حبان في صحيحه وأخرجه أيضا ابن ماجه من طريق أخرى . وصحح أبو داود والبزار والدارقطني وابن القطان إرساله عن سعيد بن المسيب بدون ذكر أبي هريرة .

                                                                      قال الحافظ في التلخيص : وله طرق في الدارقطني والبيهقي كلها ضعيفة . وقال في بلوغ المرام : إن رجاله ثقات إلا أن المحفوظ عند أبي داود وغيره إرساله انتهى . وساقه ابن حزم بإسناده إلى الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة [ ص: 351 ] قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغلق الرهن لمن رهنه له غنمه وعليه غرمه قال ابن حزم : هذا إسناد حسن . وتعقبه الحافظ بأن قوله في السند : نصر بن عاصم . تصحيف ، وإنما هو عبد الله بن نصر الأصم الأنطاكي وله أحاديث منكرة . وقد رواه الدارقطني من طريق عبد الله بن نصر المذكور وصحح هذه الطريق عبد الحق وصحح أيضا وصله ابن عبد البر ، وقال هذه اللفظة يعني " له غنمه وعليه غرمه " اختلفت الرواة في رفعها ووقفها ، فرفعها ابن أبي ذئب ومعمر وغيرهما . ووقفها غيرهم . وقد روى ابن وهب هذا الحديث فجوده وبين أن هذه اللفظة من قول سعيد بن المسيب .

                                                                      وقال أبو داود في المراسيل : قوله " له غنمه وعليه غرمه " من كلام سعيد بن المسيب نقله عنه الزهري . وقال الأزهري : الغلق في الرهن ضد الفك فإذا فك الراهن الرهن فقد أطلقه من وثاقه عند مرتهنه . وروى عبد الرزاق عن معمر أنه فسر غلاق الرهن بما إذا قال الرجل : إن لم آتك بمالك فالرهن لك . قال ثم بلغني عنه أنه قال : إن هلك لم يذهب حق هذا إنما هلك من رب الرهن له غنمه وعليه غرمه .

                                                                      وقد روي أن المرتهن في الجاهلية كان يتملك الرهن إذا لم يؤد الراهن إليه ما يستحقه في الوقت المضروب فأبطله الشارع . كذا في النيل .

                                                                      قال المنذري : وأخرجه البخاري والترمذي وابن ماجه ، وقال أبو داود : هو عندنا صحيح .




                                                                      الخدمات العلمية