الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              51 (13) باب

                                                                                              الإيمان شعب ، والحياء شعبة منها

                                                                                              [ 29 ] عن أبي هريرة ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : الإيمان بضع وسبعون شعبة ، والحياء شعبة من الإيمان .

                                                                                              وفي رواية : بضع وسبعون
                                                                                              - أو بضع وستون - شعبة ، فأفضلها : قول لا إله إلا الله ، وأدناها : إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان .


                                                                                              رواه أحمد ( 2 \ 414 و 445 ) ، والبخاري ( 9 ) ، ومسلم ( 35 ) ، وأبو داود ( 4676 ) ، والترمذي ( 2614 ) ، والنسائي ( 8 \ 110 ) ، وابن ماجه ( 57 ) .

                                                                                              [ ص: 216 ]

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ ص: 216 ] (13) ومن باب الإيمان شعب ، والحياء شعبة منها

                                                                                              (قوله : " الإيمان بضع وسبعون شعبة ") الإيمان في هذا الحديث يراد به : الأعمال ، بدليل أنه ذكر فيه أعلى الأعمال ، وهو قول : لا إله إلا الله ، وأدناها ، أي : أقربها ، وهو إماطة الأذى ، وهما عملان ; فما بينهما من قبيل الأعمال . وقد قدمنا القول في حقيقة الإيمان شرعا ولغة ، وأن الأعمال الشرعية تسمى إيمانا مجازا وتوسعا ; لأنها عن الإيمان تكون غالبا . والبضع والبضعة واحد ، وهو من العدد بكسر الباء ، وقد تفتح وهو قليل ; ذكره الجوهري . فأما من بضع اللحم فبفتح الباء لا غير ، والبضعة من اللحم ، بالفتح القطعة منه ، واستعملت العرب البضع في المشهور من كلامها : فيما بين الثلاث إلى العشر ، وقيل : إلى التسع ، وقال الخليل : البضع : سبع ، وقيل : هو ما بين اثنين إلى عشر ، وما بين عشر إلى عشرين ، ولا يقال في أحد عشر ، ولا في اثني عشر ، وقال الخليل أيضا : هو ما بين نصف العقد ، يريد من واحد إلى أربع .

                                                                                              والشعبة في أصلها : واحدة الشعب ، وهي أغصان الشجر ، وهي بضم الشين ، فأما شعب القبائل ، فواحدها : شعب بفتحها ، وقال الخليل : الشعب : الاجتماع والافتراق . وفي " الصحاح " : هو من الأضداد . فيراد بالشعبة في الحديث [ ص: 217 ] الخصلة ، ويعني : أن الإيمان ذو خصال معدودة ، وقد ذكر الترمذي هذا الحديث ، وسمى الشعبة بابا ، فقال : بضع وستون أو بضع وسبعون ، ولا يلتفت لهذا الشك ; فإن غيره من الثقات قد جزم بأنه بضع وسبعون ، ورواية من جزم أولى .

                                                                                              ومقصود هذا الحديث : أن الأعمال الشرعية تسمى إيمانا على ما ذكرناه آنفا ، وأنها منحصرة في ذلك العدد ، غير أن الشرع لم يعين ذلك العدد لنا ولا فصله .

                                                                                              وقد تكلف بعض المتأخرين تعديد ذلك ; فتصفح خصال الشريعة وعددها ، حتى انتهى بها - في زعمه - إلى ذلك العدد ، ولا يصح له ذلك ; لأنه يمكن الزيادة على ما ذكر ، والنقصان مما ذكر ; ببيان التداخل .

                                                                                              والصحيح : ما صار إليه أبو سليمان الخطابي وغيره : أنها منحصرة في علم الله تعالى ، وعلم رسوله ، وموجودة في الشريعة ، مفصلة فيها ، غير أن الشرع لم يوقفنا على أشخاص تلك الأبواب ، ولا عين لنا عددها ، ولا كيفية انقسامها ، وذلك لا يضرنا في علمنا بتفاصيل ما كلفنا به من شريعتنا ولا في عملنا ; إذ كل ذلك مفصل مبين في جملة الشريعة ، فما أمرنا بالعمل به عملناه ، وما نهينا عنه انتهينا ، وإن لم نحط بحصر أعداد ذلك ، والله تعالى أعلم .

                                                                                              والحياء : انقباض وحشمة يجدها الإنسان من نفسه عندما يطلع منه على [ ص: 218 ] ما يستقبح ويذم عليه ، وأصله غريزي في الفطرة ، ومنه مكتسب للإنسان ; كما قال بعض الحكماء في العقل :


                                                                                              رأيت العقل عقلين فمطبوع ومصنوع     ولا ينفع مصنوع
                                                                                              إذا لم يك مطبوع     كما لا تنفع العين
                                                                                              وضوء الشمس ممنوع

                                                                                              وهذا المكتسب : هو الذي جعله الشرع من الإيمان ، وهو الذي يكلف به .

                                                                                              وأما الغريزي فلا يكلف به ; إذ ليس ذلك من كسبنا ، ولا في وسعنا ، ولم يكلف الله نفسا إلا وسعها ; غير أن هذا الغريزي يحمل على المكتسب ، ويعين عليه ; ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : الحياء لا يأتي إلا بخير ، والحياء خير كله . وأول الحياء وأولاه : الحياء من الله تعالى ، وهو ألا يراك حيث نهاك ، وذلك لا يكون إلا عن معرفة بالله تعالى كاملة ، ومراقبة له حاصلة ، وهي المعبر عنها بقوله : أن تعبد الله كأنك تراه ; فإن لم تكن تراه فإنه يراك .

                                                                                              وقد روى الترمذي من حديث ابن مسعود أنه - عليه الصلاة والسلام - قال : استحيوا من الله حق الحياء ، فقالوا : إنا نستحيي والحمد لله ، فقال : ليس ذلك ، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء : أن تحفظ الرأس وما حوى ، والبطن وما وعى ، وتذكر الموت والبلى ، فمن فعل ذلك ، فقد استحيا من الله حق الحياء .

                                                                                              [ ص: 219 ] قال الشيخ : وأهل المعرفة في هذا الحياء منقسمون ; كما أنهم في أحوالهم متفاوتون كما تقدم ، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع له كمال نوعي الحياء ، فكان في الحياء الغريزي أشد حياء من العذراء في خدرها ، وفي حيائه الكسبي في ذروتها .




                                                                                              الخدمات العلمية