الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
تنبيهات .

الأول : لا خلاف أن كل ما هو من القرآن يجب أن يكون متواترا في أصله وأجزائه ، وأما في محله ووضعه وترتيبه فكذلك عند محققي أهل السنة ، للقطع بأن العادة تقضي بالتواتر في تفاصيل مثله ; لأن هذا المعجز العظيم الذي هو أصل الدين القويم والصراط المستقيم ، مما تتوفر الدواعي على نقل جمله وتفاصيله ، فما نقل آحادا ولم يتواتر ، يقطع بأنه ليس من القرآن قطعا .

وذهب كثير من الأصوليين : إلى أن التواتر شرط في ثبوت ما هو من القرآن بحسب أصله ، وليس بشرط في محله ووضعه وترتيبه ، بل يكثر فيها نقل الآحاد .

[ ص: 264 ] قيل : وهو الذي يقتضيه صنع الشافعي في إثبات البسملة من كل سورة .

ورد هذا المذهب بأن الدليل السابق يقتضي التواتر في الجميع ، ولأنه لو لم يشترط لجاز سقوط كثير من القرآن المكرر وثبوت كثير مما ليس بقرآن ، أما الأول : فلأنا لو لم نشترط التواتر في المحل جاز أن لا يتواتر كثير من المكررات الواقعة في القرآن ، مثل فبأي آلاء ربكما تكذبان [ الرحمن : 13 ] . وأما الثاني : فلأنه إذا لم يتواتر بعض القرآن بحسب المحل ، جاز إثبات ذلك البعض في الموضع بنقل الآحاد .

وقال القاضي أبو بكر في " الانتصار " : ذهب قوم من الفقهاء والمتكلمين إلى إثبات قرآن حكما لا علما بخبر الواحد دون الاستفاضة ، وكره ذلك أهل الحق وامتنعوا منه .

[ ص: 265 ] وقال قوم من المتكلمين : إنه يسوغ إعمال الرأي والاجتهاد في إثبات قراءة وأوجه وأحرف ; إذا كانت تلك الأوجه صوابا في العربية وإن لم يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ بها . وأبى ذلك أهل الحق ، وأنكروه ، وخطئوا من قال به . انتهى .

وقد بنى المالكية وغيرهم ممن قال بإنكار البسملة قولهم على هذا الأصل ، وقرروه بأنها لم تتواتر في أوائل السور ، وما لم يتواتر فليس بقرآن .

وأجيب من قبلنا بمنع كونها لم تتواتر ، فرب متواتر عند قوم دون آخرين ، وفي وقت دون آخر ، ويكفي في تواترها إثباتها في مصاحف الصحابة فمن بعدهم بخط المصحف ، مع منعهم أن يكتب في المصحف ما ليس منه ، كأسماء السور ، وآمين ، والأعشار ;فلو لم تكن قرآنا لما استجازوا إثباتها بخطه من غير تمييز ; لأن ذلك يحمل على اعتقادها ، فيكونون مغررين بالمسلمين ، حاملين لهم على اعتقاد ما ليس بقرآن قرآنا ، وهذا مما لا يجوز اعتقاده في الصحابة .

فإن قيل : لعلها أثبتت للفصل بين السور ; أجيب : بأن هذا فيه تغرير ، ولا يجوز ارتكابه لمجرد الفصل ; ولو كانت له لكتبت بين " براءة " والأنفال .

ويدل لكونها قرآنا منزلا : ما أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم وغيرهم ، عن أم سلمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين ( 2 ) . . . . الحديث ; وفيه : وعد بسم الله الرحمن الرحيم آية ، ولم يعد عليهم .

وأخرج ابن خزيمة والبيهقي في " المعرفة " بسند صحيح من طريق سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : استرق الشيطان من الناس أعظم آية من القرآن : بسم الله الرحمن الرحيم .

وأخرج البيهقي في الشعب ، وابن مردويه - بسند حسن - من طريق مجاهد ، عن ابن عباس قال : أغفل الناس آية من كتاب الله ، لم تنزل على أحد سوى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يكون سليمان بن داود : بسم الله الرحمن الرحيم .

[ ص: 266 ] وأخرج الدارقطني والطبراني في الأوسط بسند ضعيف ، عن بريدة قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا أخرج من المسجد حتى أخبرك بآية لم تنزل على نبي بعد سليمان غيري ، ثم قال : بأي شيء تفتتح القرآن إذا افتتحت الصلاة ، قلت : بسم الله الرحمن الرحيم قال : هي هي .

وأخرج أبو داود ، والحاكم ، والبيهقي ، والبزار من طريق سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعرف فصل السورة حتى تنزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم .

زاد البزار : فإذا نزلت عرف أن السورة قد ختمت واستقبلت ، أو ابتدئت سورة أخرى .

وأخرج الحاكم من وجه آخر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كان المسلمون لا يعلمون انقضاء السورة حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم ، فإذا نزلت علموا أن السورة قد انقضت . إسناده على شرط الشيخين .

وأخرج الحاكم - أيضا - من وجه آخر ، عن سعيد عن ابن عباس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا جاءه جبريل فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم علم أنها سورة . إسناده صحيح .

[ ص: 267 ] وأخرج البيهقي في الشعب وغيره : عن ابن مسعود قال : كنا لا نعلم فصلا بين السورتين ، حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم .

قال أبو شامة : يحتمل أن يكون ذلك وقت عرضه - صلى الله عليه وسلم - على جبريل ، كان لا يزال يقرأ في السورة إلى أن يأمره جبريل بالتسمية ، فيعلم أن السورة قد انقضت . وعبر - صلى الله عليه وسلم - بلفظ النزول إشعارا بأنها قرآن في جميع أوائل السور . ويحتمل أن يكون المراد أن جميع آيات كل سورة كانت تنزل قبل نزول البسملة ، فإذا كملت آياتها ، نزل جبريل بالبسملة واستعرض السورة ، فيعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قد ختمت ، ولا يلحق بها شيء .

وأخرج ابن خزيمة ، والبيهقي - بسند صحيح - ، عن ابن عباس ، قال : السبع المثاني : فاتحة الكتاب .

قيل : فأين السابعة ؟ .

قال : بسم الله الرحمن الرحيم .

وأخرج الدارقطني بسند صحيح : عن علي : أنه سئل عن السبع المثاني ، فقال : الحمد لله رب العالمين ( 2 ) ، فقيل : له : إنما هي ست آيات ، فقال : بسم الله الرحمن الرحيم آية .

وأخرج الدارقطني وأبو نعيم والحاكم في تاريخه - بسند ضعيف - عن نافع ، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال كان جبريل إذا جاءني بالوحي أول ما يلقي علي بسم الله الرحمن الرحيم .

وأخرج الواحدي من وجه آخر : عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : نزلت بسم الله الرحمن الرحيم في كل سورة .

[ ص: 268 ] وأخرج البيهقي من وجه ثالث ، عن نافع ، عن ابن عمر : أنه كان يقرأ في الصلاة بسم الله الرحمن الرحيم وإذا ختم السورة قرأها ، ويقول : ما كتبت في المصحف إلا لتقرأ .

وأخرج الدارقطني - بسند صحيح - ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا قرأتم " الحمد " فاقرءوا بسم الله الرحمن الرحيم إنها أم القرآن ، وأم الكتاب والسبع المثاني ، و بسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها .

وأخرج مسلم ، عن أنس ، قال : بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ، ثم رفع رأسه متبسما ، فقال : أنزلت لي آنفا سورة فقرأ : بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر ( 1 ) . الحديث .

فهذه الأحاديث تعطي التواتر المعنوي بكونها قرآنا منزلا في أوائل السور .

ومن المشكل على هذا الأصل ما ذكره الإمام فخر الدين ، قال : نقل في بعض الكتب القديمة أن ابن مسعود كان ينكر كون سورة الفاتحة والمعوذتين من القرآن ، وهو في غاية الصعوبة لأنا إن قلنا : إن النقل المتواتر كان حاصلا في عصر الصحابة يكون ذلك من القرآن ، فإنكاره يوجب الكفر .

[ ص: 269 ] وإن قلنا : لم يكن حاصلا في ذلك الزمان ، فيلزم أن القرآن ليس بمتواتر في الأصل .

قال : وإلا غلب على الظن أن نقل هذا المذهب ، عن ابن سعود نقل باطل ، وبه يحصل الخلاص ، عن هذه العقدة .

وكذا قال القاضي أبو بكر : لم يصح عنه أنها ليست من القرآن ولا حفظ عنه . إنما حكها وأسقطها من مصحفه إنكارا لكتابتها ، لا جحدا لكونها قرآنا ; لأنه كانت السنة عنده ألا يكتب في المصحف إلا ما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإثباته فيه ، ولم يجده كتب ذلك ولا سمعه أمر به .

وقال النووي في شرح المهذب : أجمع المسلمون على أن المعوذتين والفاتحة من القرآن ، وأن من جحد منها شيئا كفر ، وما نقل عن ابن مسعود باطل ليس بصحيح .

وقال ابن حزم في المحلى : هذا كذب على ابن مسعود وموضوع ، وإنما صح عنه قراءة عاصم ، عن زر ، عنه ، وفيها المعوذتان والفاتحة .

وقال ابن حجر في شرح البخاري : قد صح عن ابن مسعود إنكار ذلك ، فأخرج أحمد وابن حبان عنه أنه كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه .

وأخرج عبد الله بن أحمد في زيادات المسند والطبراني وابن مردويه : من طريق الأعمش ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي ، قال : كان عبد الله بن مسعود يحك المعوذتين من مصاحفه ، ويقول : إنهما ليستا من كتاب الله .

وأخرج البزار والطبراني من وجه آخر عنه : أنه كان يحك المعوذتين من المصحف ، ويقول : إنما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتعوذ بهما وكان عبد الله لا يقرأ بهما . أسانيده صحيحة .

[ ص: 270 ] قال البزار : ولم يتابع ابن مسعود على ذلك أحد من الصحابة وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم قرأ بهما في الصلاة .

قال ابن حجر : فقول من قال : إنه كذب عليه مردود ، والطعن في الروايات الصحيحة بغير مستند لا يقبل ، بل الروايات صحيحة والتأويل محتمل .

قال : وقد أوله القاضي وغيره على إنكار الكتابة كما سبق .

قال : وهو تأويل حسن ; إلا أن الرواية الصريحة التي ذكرتها تدفع ذلك حيث جاء فيها : ( ويقول : إنهما ليستا من كتاب الله ) .

قال : ويمكن حمل لفظ ( كتاب الله ) على المصحف ، فيتم التأويل المذكور .

قال : لكن من تأمل سياق الطرق المذكورة ، استبعد هذا الجمع .

قال : وقد أجاب ابن الصباغ بأنه لم يستقر عنده القطع بذلك ، ثم حصل الاتفاق بعد ذلك ، وحاصله أنهما كانتا متواترتين في عصره ، لكنهما لم يتواترا عنده . انتهى .

وقال ابن قتيبة في " مشكل القرآن " : ظن ابن مسعود أن المعوذتين ليستا من القرآن لأنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوذ بهما الحسن والحسين ، فأقام على ظنه ، ولا نقول : إنه أصاب في ذلك وأخطأ المهاجرون والأنصار .

قال : وأما إسقاطه الفاتحة من مصحفه ، فليس لظنه أنها ليست من القرآن ، معاذ الله ! ولكنه ذهب إلى أن القرآن إنما كتب وجمع بين اللوحين مخافة الشك والنسيان والزيادة والنقصان ، ورأى أن ذلك مأمون في سورة الحمد ، لقصرها ووجوب تعلمها على كل واحد .

قلت : وإسقاطه الفاتحة من مصحفه ، أخرجه أبو عبيد بسند صحيح ، كما تقدم في أوائل النوع التاسع عشر .

التالي السابق


الخدمات العلمية