الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب الكلام في الصلاة

حدثنا الربيع قال أخبرنا الشافعي قال أخبرنا سفيان عن عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن عبد الله قال { كنا نسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة قبل أن نأتي أرض الحبشة فيرد علينا وهو في [ ص: 651 ] الصلاة فلما رجعنا من أرض الحبشة أتيته لأسلم عليه فوجدته يصلي فسلمت عليه فلم يرد علي فأخذني ما قرب وما بعد فجلست حتى إذا قضى صلاته أتيته فقال إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإن مما أحدث الله أن لا تتكلموا في الصلاة } حدثنا الربيع قال أخبرنا الشافعي قال أخبرنا مالك عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من اثنتين ، فقال له ذو اليدين أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله ؟ فقال رسول الله أصدق ذو اليدين ؟ فقال الناس : نعم فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى اثنتين أخريين ثم سلم ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع } .

أخبرنا مالك عن داود بن الحصين عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد قال سمعت أبا هريرة يقول : { صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر فسلم من ركعتين فقام ذو اليدين فقال أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله ؟ فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس ، فقال أصدق ذو اليدين ؟ فقالوا : نعم فأتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بقي من الصلاة ثم سجد سجدتين وهو جالس بعد التسليم } .

أخبرنا عبد الوهاب الثقفي عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حصين قال { سلم النبي في ثلاث ركعات من العصر ثم قام فدخل الحجرة فقام الخرباق رجل بسيط اليدين فنادى يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت ؟ فخرج رسول الله مغضبا يجر رداءه فسأل فأخبر فصلى تلك الركعة التي كان ترك ثم سلم ثم سجد سجدتين ثم سلم } .

( قال الشافعي ) فبهذا كله نأخذ فنقول إن حتما أن لا يعمد أحد الكلام في الصلاة وهو ذاكر لأنه فيها فإن فعل انتقضت صلاته وكان عليه أن يستأنف صلاة غيرها لحديث ابن مسعود عن النبي ثم ما لا أعلم فيه مخالفا ممن لقيت من أهل العلم قال ومن تكلم في الصلاة وهو يرى أنه قد أكملها أو نسي أنه في صلاة فتكلم فيها بنى على صلاته وسجد للسهو ، ولحديث ذي اليدين وأن من تكلم في هذه الحال فإنما تكلم وهو يرى أنه في غير صلاة والكلام في غير الصلاة مباح وليس يخالف حديث ابن مسعود حديث ذي اليدين وحديث ابن مسعود في الكلام جملة ودل حديث ذي اليدين ، على { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرق بين كلام العامد والناسي } لأنه في صلاة أو المتكلم وهو يرى أنه قد أكمل الصلاة .

باب الخلاف في الكلام في الصلاة ساهيا

حدثنا الربيع قال : قال الشافعي فخالفنا بعض الناس في الكلام في الصلاة وجمع علينا فيها حججا ما جمعها علينا في شيء غيره إلا في اليمين مع الشاهد ومسألتين أخريين ( قال الشافعي ) فسمعته يقول حديث ذي اليدين حديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرو عن رسول الله شيء قط أشهر منه ، ومن حديث : العجماء جرحها جبار وهو أثبت من حديث العجماء جرحها جبار ولكن حديث ذي اليدين منسوخ فقلت ما نسخه ؟ فقال حديث ابن مسعود ثم ذكر الحديث الذي بدأت به الذي فيه { إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإن مما أحدث الله أن لا تتكلموا في الصلاة } فقلت له والناسخ إذا اختلف الحديثان الآخر منهما فقال نعم قلت له أو لست تحفظ في حديث ابن مسعود هذا أن ابن مسعود مر على النبي بمكة قال فوجدته يصلي في فناء الكعبة وأن ابن مسعود هاجر إلى أرض الحبشة ثم رجع إلى مكة ثم هاجر إلى المدينة وشهد بدرا ؟ قال : بلى فقلت له : فإذا كان مقدم ابن مسعود على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قبل هجرة النبي ثم كان عمران بن حصين يروي أن النبي أتى جذعا في مؤخر مسجده أليس تعلم أن النبي لم يصل في مسجده إلا بعد هجرته من مكة ؟ قال : بلى ، قلت فحديث عمران يدلك على أن حديث ابن مسعود ليس بناسخ لحديث ذي اليدين وأبو هريرة [ ص: 652 ] يقول صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فلا أدري ما صحبه أبو هريرة قلت قد بدأنا بما فيه الكفاية من حديث عمران الذي لا يشكل عليك وأبو هريرة إنما صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر وقال أبو هريرة صحبت النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ثلاث سنين أو أربعا قال الربيع أنا شككت وقد أقام النبي بالمدينة سنين سوى ما أقام بمكة بعد مقدم ابن مسعود وقبل يصحبه أبو هريرة فيجوز أن يكون حديث ابن مسعود ناسخا لما بعده قال : لا قلت له لو كان حديث ابن مسعود مخالفا حديث عمران وأبي هريرة كما قلت ، وكان عمد الكلام وأنت تعلم أنك في صلاة كهو إذا تكلمت ، وأنت ترى أنك أكملت الصلاة أو نسيت الصلاة كان حديث ابن مسعود منسوخا وكان الكلام في الصلاة مباحا ولكنه ليس بناسخ ولا منسوخ ولكن وجهه ما ذكرت من أنه لا يجوز الكلام في الصلاة على الذكر ، وأن التكلم في الصلاة إذا كان هكذا يفسد الصلاة وإذا كان النسيان والسهو وتكلم وهو يرى أن الكلام مباح بأن يرى أن قد قضى الصلاة أو نسي أنه فيها لم تفسد الصلاة قال : فأنتم تروون أن ذا اليدين قتل ببدر قلت فاجعل هذا كيف شئت أليست صلاة النبي بالمدينة في حديث عمران بن حصين والمدينة إنما كانت بعد حديث ابن مسعود بمكة ؟ قال : بلى قلت : وليست لك إذا كان كما أردت فيه حجة لما وصفت ، وقد كانت بدر بعد مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة بستة عشر شهرا ، قال أفذو اليدين الذي رويتم عنه المقتول ببدر ؟ قلت : لا عمران يسميه الخرباق ويقول قصير اليدين أو مديد اليدين والمقتول ببدر ذو الشمالين ولو كان كلاهما ذا اليدين كان اسما يشبه أن يكون وافق اسما كما تتفق الأسماء ، فقال بعض من ذهب مذهبه : فلنا حجة أخرى قلنا وما هي ؟ قال إن معاوية بن الحكم حكى أنه تكلم في الصلاة فقال رسول الله { إن الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام بني آدم } فقلت له فهذا عليك ولا لك إنما يروى مثل قول ابن مسعود سواء والوجه فيه ما ذكرت قال فإن قلت هو خلافه قلت فليس ذلك لك ونكلمك عليه فإن كان أمر معاوية قبل أمر ذي اليدين فهو منسوخ ويلزمك في قولك أن يصلح الكلام في الصلاة كما يصلح في غيرها وإن كان أمر معاوية معه أو بعده فقد تكلم فيها فيما حكيت وهو جاهل بأن الكلام غير محرم في الصلاة ولم يحك أن النبي أمره بإعادة الصلاة فهو مثل حديث ذي اليدين أو أكثر لأنه تكلم عامدا للكلام في حديثه إلا أنه حكى أنه تكلم وهو جاهل أن الكلام لا يكون محرما في الصلاة قال هذا في حديثه كما ذكرت قلت فهو عليك إن كان على ما ذكرته وليس لك إن كان كما قلنا قال فما تقول ؟ قلت أقول إنه مثل حديث ابن مسعود غير مخالف حديث ذي اليدين فقال فإنكم خالفتم حين فرعتم حديث ذي اليدين قلت فخالفناه في الأصل قال لا ولكن في الفرع قلت فأنت خالفته في نصه ، ومن خالف النص عندك أسوأ حالا ممن ضعف نظره فأخطأ التفريع قال : نعم وكل غير معذور .

( قال الشافعي ) فقلت له : فأنت خالفت أصله وفرعه ولم نخالف نحن من أصله ولا من فرعه حرفا واحدا فعليك ما عليك في خلافه وفيما قلت من أنا خالفنا منه ما لم نخالفه قال فأسألك حتى أعلم أخالفته أم لا ؟ قلت فسل قال ما تقول في إمام انصرف من اثنتين فقال له بعض من صلى معه قد انصرفت من اثنتين فسأل آخرين ، فقالوا صدق ؟ قلت أما المأموم الذي أخبره والذين شهدوا أنه صدق وهم على ذكر من أنه لم يقض صلاته فصلاتهم فاسدة قال فأنت تروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى وتقول قد قضى معه من حضر وإن لم تذكره في الحديث قلت أجل قال فقد خالفته قلت لا ولكن حال إمامنا مفارقة حال رسول الله قال فأين افتراق حاليهما في الصلاة والإمامة ؟ قال فقلت له إن الله كان ينزل فرائضه على رسوله فرضا بعد فرض فيفرض عليه ما لم يكن فرضه عليه ويخفف عنه بعض فرضه قال : أجل ؟ قلت : ولا نشك نحن ولا أنت ولا مسلم أن رسول الله لم ينصرف إلا وهو يرى أن قد أكمل الصلاة قال : أجل ، قلت : فلما فعل لم يدر ذو اليدين أقصرت الصلاة بحادث من الله أم نسي النبي وكان [ ص: 653 ] ذلك بينا في مسألته إذ قال أقصرت الصلاة أم نسيت ؟ قال : أجل ، قلت ولم يقبل النبي من ذي اليدين إذ سأل غيره ، قال : أجل ، قلت : ولما سأل غيره احتمل أن يكون سأل من لم يسمع كلامه فيكون مثله واحتمل أن يكون سأل من سمع كلامه ولم يسمع النبي رد عليه فلما لم يسمع النبي رد عليه كان في معنى ذي اليدين من أنه لم يستدل النبي بقوله ولم يدر أقصرت الصلاة أم نسي النبي فأجابه ومعناه معنى ذي اليدين من أن الفرض عليهم جوابه ألا ترى أن النبي لما أخبروه فقبل قولهم لم يتكلم ولم يتكلموا حتى بنوا على صلاتهم ، قال فلما قبض الله رسوله تناهت فرائضه فلا يزاد فيها ولا ينقص منها أبدا قال : نعم فقلت هذا فرق بيننا وبينه ، فقال من حضره هذا فرق بين لا يرده عالم لبيانه ووضوحه فقال فإن من أصحابكم من قال ما تكلم به الرجل في أمر الصلاة لم يفسد صلاته ، قال فقلت له : إنما الحجة علينا ما قلنا لا ما قال غيرنا .

( قال الشافعي ) وقال قد كلمت غير واحد من أصحابك فما احتج بهذا ولقد قال العمل على هذا فقلت له قد أعلمتك أن العمل ليس له معنى ولا حجة لك علينا بقول غيرنا قال : أجل ، قلت فدع ما لا حجة لك فيه وقلت له : قد أخطأت في خلافك حديث ذي اليدين مع ثبوته وظلمت نفسك بأنك زعمت أنا ومن قال به نحل الكلام والجماع والغناء في الصلاة وما أحللنا ولا هم من هذا شيئا قط وقد زعمت أن المصلي إذا سلم قبل أن يكمل الصلاة وهو ذاكر أنه لم يكملها فسدت صلاته لأن السلام زعمت في غير موضعه كلام ، وإن سلم وهو يرى أنه قد أكمل بنى فلو لم يكن عليك حجة إلا هذا كفى بها عليك حجة ونحمد الله على عيبكم خلاف الحديث وكثرة خلافكم له .

التالي السابق


الخدمات العلمية