الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      مسألة [ هل يجب العمل بالعام قبل البحث عن مخصص ؟ ]

                                                      إذا جوزنا ورود العام مجردا عن مخصصه فهل يجب اعتقاد عمومه عند سماعه والمبادرة إلى العمل بمقتضاه ، أو يتوقف إلى أن ينظر دليل المخصص ؟ قال الشيخ أبو حامد الإسفراييني في كتابه : اختلف أصحابنا فيه ، فقال القاضي أبو بكر الصيرفي : يجب اعتقاد عمومه في الحال عند سماعه والعمل بموجبه .

                                                      وقال عامة أصحابنا أبو العباس بن سريج وأبو إسحاق المروزي وأبو سعيد الإصطخري وأبو علي بن خيران وأبو بكر القفال : يجب التوقف فيه ، حتى ينظر في الأصول التي يتعرف فيها الأدلة ، فإن دل الدليل على تخصيصه [ ص: 48 ] خص به ، وإن لم يجد دليلا يدل على التخصيص اعتقد عمومه ، وعمل بموجبه .

                                                      قال الشيخ أبو حامد : وحكى القفال أن الصيرفي سئل عن قوله تعالى : { فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه } هل تقول إن من سمع هذا يأكل جميع ما يجده من رزقه ؟ فقال : أقول إنه يبلع الدنيا بلعا .

                                                      قال الشيخ أبو حامد : وزعم الصيرفي أنه مذهب الشافعي ، لقوله في " الرسالة " : والكلام إذا كان عاما ظاهرا كان على ظاهره وعمومه ، حتى تأتي دلالة تدل على خلاف ذلك . وزعم آخرون أن مذهب الشافعي خلافه ، لأنه قال : وعلى أهل العلم بالكتاب والسنة أن يتطلبوا دليلا يفرقون به بين الحتم وغيره في الأمر والنهي . فأخبر أنه يجب طلب دليل يستدل به على موجب اللفظ . قلت : ومن هذه الطريقة يؤخذ حكاية قولين للشافعي في هذه المسألة . وهو غريب . وما حكاه الشيخ أبو حامد من الخلاف في وجوب اعتقاد العموم جرى عليه العراقيون من أصحابنا ، منهم القاضي ابن كج في كتابه في " الأصول " ، والقاضي أبو الطيب في " شرح الكفاية " ، وصاحبه الشيخ أبو إسحاق في " شرح اللمع " ; وسليم الرازي في " التقريب " ، وابن الصباغ في " العدة " ، ونصروا قول ابن سريج . وممن حكاه من المراوزة إمام الحرمين وأبو النصر بن القشيري في كتابه ، والقاضي الحسين في تعليقه قبيل كتاب القاضي إلى القاضي ، والإمام أبو عمر بن عبد البر [ ص: 49 ] ونقل التمسك بالعموم إلى أن يظهر المخصص عن أهل الحجاز ، والمنع منه عن أهل الكوفة . وكذلك صور المسألة والنقل ، القاضي أبو بكر في " التقريب " والإمام في " التلخيص " قال : وذهب ابن سريج ومعظم العلماء إلى أنه لا يسوغ اعتقاد العموم إلا بعد النظر في الأدلة ثم إذا نظر فيها جرى على قضيتها .

                                                      قال : وارتضاه القاضي أبو بكر ، وهو الصحيح . وكذلك صورها إلكيا الهراسي في " المدارك " ، ونقل موافقة ابن سريج عن القفال وابن خيران والإصطخري ، وكذلك ابن برهان في " الأوسط " إلا أنه اختار قول الصيرفي ، وقال : إنه الصحيح . وكذا اختاره ابن عقيل والمقدسي والقاضي أبو يعلى بن الفراء وأبو بكر الخلال من الحنابلة ، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد ، واختاره أيضا الإمام فخر الدين الرازي وأتباعه ، وأبو العباس القرطبي من المالكية . لكن الراجح عند أصحابنا أنه لا يجوز قبل البحث عن المخصص ، ونقل فيه الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني اتفاق أصحابنا ، واختاره الإمام في " البرهان " وزيف قول الصيرفي " ، وحكاه الماوردي عن ظاهر نص الشافعي .

                                                      وقال في كتاب " الأقضية " وتبعه الروياني في " البحر " : إنه مذهب الشافعي . قلت : هو ظاهر نص الشافعي في " أحكام القرآن " ، فإنه قال : وعلى أهل العلم عند تلاوة القرآن والسنة طلب الدلائل ليفرقوا بين الحتم وغيره في الأمر والنهي . هذا لفظه . فنص على طلب الدلائل المميزة بين مواقع [ ص: 50 ] الكلام ، ولم يكلهم إلى نفس الكلام وظاهره ، قبل البحث عن القرائن . لكنه نص في موضع آخر على ما يخالفه . فيصير له في المسألة قولان ، فذكر في " الأم " حديث أبي أيوب بعموم النهي عن الاستقبال بالغائط والبول ، وقال : - يعني أبا أيوب - بالحديث جملة كما سمعه جملة . قال الشافعي : وكذلك ينبغي لمن سمع الحديث أن يقول به على عمومه وجملته ، حتى يجدد دلالة يفرق منها فيه ، ثم مثل الدلالة المفرقة بحديث ابن عمر ، ثم ذكر حديث النهي عن الأوقاف المكروهة ، ثم قال الشافعي : وهكذا غير هذا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هو على الظاهر من العموم ، حتى تأتي الدلالة عنه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إجماع الأئمة الذين لا يمكن أن يجمعوا على خلاف سنة أنه باطن دون ظاهر ، وخاص دون عام . انتهى . هذا لفظه ، وذكر في " الرسالة " مثله ، واحتج بحديث أبي أيوب في قضاء الحاجة ، وأنه سمعه جملة ، فقال به جملة . وقد سبق في مسألة صيغ العموم نقل الصيرفي مثل ذلك عن نصوص الشافعي الكثيرة .

                                                      وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني في كتابه : اتفق أصحابنا على أن العموم إذا ورد وسمعه المكلف وفهم ما يجب ، وجب عليه عرضه إذا أراد تنفيذه على ما يقدر من أدلة العقول وأصول الشرع ، فإن كان فيه ما أوجب تخصيصه خصه به ، وإلا أجراه على ظاهره فيما اقتضاه لفظه ، وهذا وقف منه على مقدار الاجتهاد ، وليس هو من جنس ما تقوله الواقفية . انتهى .

                                                      وقال القفال الشاشي في أصوله " : إذا ورد الخطاب باللفظ العام [ ص: 51 ] نظر ، إن وجد دليل يخص اللفظ كان مقصودا عليه ، وإلا أجري على عمومه ، لأن العام محتمل للتخصيص ، فلا يجوز الهجوم على الحكم دون النظر في المراد به ، فإن قيل : فما الذي يعتقده السامع قبل النظر ؟ قلنا : قد يقترن بالخطاب من دلالة الحال ما يقف به السامع على مراد الخطاب ، وقد يتقدم الخطاب ما يتعقل لتخصيص اللفظ وقرينته عليه ، كما ورد أنه لما نزل قوله تعالى : { ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } شق ذلك على الصحابة ; فقال النبي صلى الله عليه وسلم { إن الشرك لظلم عظيم } " إذا ورد الخطاب مجردا من دلالة تقترن به ، فالواجب على المخاطب قبل النظر أن يعتقد ما حصل عنده من ظاهر اللفظ ، فإنه حق ولا يعتقد انصرافه إلى عموم ولا إلى خصوص ; لأنه إنما يجوز اعتقاد الشيء على ما هو به ، وليس عنده قبل النظر في هذا أكثر من اللفظ العام ، فالعام يرد عليه الحادثة وجهين فلا يعتقد في حكمها شيئا بعينه إلى أن ينظر فيتبين له الحكم . انتهى . وقد احتج بعضهم على العمل قبل البحث عن المخصص بما في الصحيحين عن حديث أبي عبيدة في العنبر الذي ألقاه البحر ، فإن أبا عبيدة حكم بتنجيس ميتة البحر تمسكا بعموم القرآن ، ثم إنه استباحها بحكم الاضطرار مع أن عموم القرآن في الميتة مخصص بقوله : { هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته } ولم يكن عنده ولا عند أحد من أصحابه خبر من هذا المخصص . [ ص: 52 ] وحصل بما ذكرنا أن في هذه المسألة عندنا طريقتين : إحداهما : حكاية لقولين أو وجهين . والثانية : القطع بوجوب البحث من غير خلاف على طريقة الأستاذ أبي إسحاق ، والقولان الأولان مشهوران من غير مذهبنا . ولهم فيها أيضا ثلاثة أقوال غريبة :

                                                      أحدها : إن سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم على طريق تعليم الحكم وجب اعتقاد عمومه في الحال ، وإن سمعه من غيره لزمه التثبت ، ونسب لأبي عبد الله الجرجاني من الحنفية .

                                                      والثاني : وحكاه الشيخ أبو حامد ، وسليم الرازي في " التقريب " عن أهل العراق أنه إن ورد بيانا بأن يكون جوابا لسؤال أو أمرا أو نهيا وجب حمله على عمومه ، وإن ورد ابتداء وجب التوقف فيه ، وحكاه أبو بكر الرازي في أصوله ، واختاره ، على غير هذا الوجه ، وهو التفصيل بين أن يرد جوابا عن سؤال أو أمرا أو نهيا ، فيجب حمله على عمومه ، لأنه لو كان خاصا لما تركه عليه الصلاة والسلام بلا بيان في الحال التي ألزم بتنفيذ الحكم مع جهل السائل .

                                                      وإن ورد ابتداء من غير تعلق بسؤال أو سمع آية من القرآن مبتدأة والسائل من أهل النظر والاجتهاد ، قال الرازي : ففيه وجهان : أحدهما : لا يحكم بظاهره حتى يبحث عن المخصص ، فإن لم يجده أمضاه على عمومه . [ ص: 53 ]

                                                      والثاني : إن كان مخاطبا بحكم اللفظ فليس يخليه الله تعالى عند سماع اللفظ من آية دلالة التخصيص عليه ، حتى يكون كالاستثناء المتعقب للجملة ، وأما من لم يكن مخاطبا بالحكم ، فليس عليه أن يعتقد فيه عموما ولا خصوصا .

                                                      قال : وأما العامي فليس له أن يعتقد شيئا من ذلك ، ولكنه إذا سأل عن حكم حادثة ممن يلزمه قبول قوله ، فأجابه بجواب مطلق أمضاه على ما سمعه ، ومنه من اقتصر على العموم من غير تفصيل ، وهو خطأ ; لأن فيه إيجاب اعتقاد عموم ما لا يعلم صحة عمومه لا سيما إذا كان مخصصا في نفس الأمر . ا هـ .

                                                      الثالث : وحكاه الماوردي والروياني في كتاب " الأقضية " التفصيل بين أن يدخله تخصيص أو لا ، فقيل التخصيص يستعمل على عمومه من غير اجتهاد ولا نظر ، وبعد التخصيص يحتمل . قال : وهو قول أهل العراق ، وكلام ابن كج يقتضي تخصيص الخلاف بما إذا لم يكن هناك ما يخصصه ، فإن وجدنا ما يخصصه وجب العمل بالعام بلا خلاف من غير توقف ، وإن كان يجوز أن يكون هناك مخصص آخر ، فإنه جعل هذا أصلا قاس عليه موضع الخلاف . وحكى ابن فورك مذهب الصيرفي ومقابله قولا بالتفصيل بين الأوامر والأخبار ، قال : ومنهم من جمع في الوقف بينهما ، وهو الأفقه ، ومنهم من حمله على ثلاثة ، وتوقف في الزائد عليه . والمشهور حكاية هذا في تأخير البيان عن وقت الحاجة . ونقل بعضهم عن " الأصول " للأستاذ أبي إسحاق أن محل الخلاف في هذه المسألة فيما إذا ورد الخطاب العام بعد وفاته عليه السلام فإن ورد [ ص: 54 ] في عهده ، وجب المبادرة إلى الفعل عمومه ; لأن أصول الشريعة لم تكن مقررة .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية