الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب ) الظاهر أن القائلين هذا : هم منافقون ; لأن الله تعالى إذا أمر بشيء لا يسأل عن علته من هو خالص الإيمان ، ولهذا جاء السياق بعده : ( وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك ) ، وهذا لا يصدر إلا من منافق . و ( لولا ) للتحضيض بمعنى هلا ، وهي كثيرة في القرآن . والأجل القريب هنا هو موتهم على فرشهم كذا قاله المفسرون . وذكر في حرف ابن مسعود : لولا أخرتنا إلى أجل قريب فنموت حتف أنفنا ، ولا نقتل ، فتسر بذلك الأعداء . ومن قال : إنه من قول المؤمنين ، فيكونون قد طلبوا التأخير في كتب القتال إلى وقت ظهور الإسلام [ ص: 299 ] وكثرته ، وهو بعيد ; لأن لفظ ( لم ) رد في صدر أمر الله وعدم استسلامهم له مع قولهم : وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك . وقال الزمخشري : لولا أخرتنا إلى أجل قريب استزادة في مدة الكف ، واستمهال إلى وقت آخر كقوله : ( لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق ) . وقال الراغب : وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال ، يجوز أن يكون تفوهوا به ، ويجوز أن يكون اعتقدوه ، وقالوا في أنفسهم ، فحكى تعالى ذلك عنهم تنبيها على أنهم لما استصعبوا ذلك دل استصعابهم على أنهم غير واثقين بأحوالهم .

( قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ) تقدم الكلام على كون متاع الدنيا قليلا في قوله : ( متاع قليل ) ، وإنما قل ; لأنه فان ، ونعيم الآخرة مؤبد ، فهو خير لمن اتقى الله ، وامتثل أمره في ما أحب ، وفي ما كان شاقا من قتال وغيره . وقرأ حمزة والكسائي ، وابن كثير ( ولا يظلمون ) بالياء ، وباقي السبعة بالتاء على الخطاب ، وهو التفات ; أي لا تنقصون من أجور أعمالكم ، ومشاق التكاليف أدنى شيء ؛ فلا ترغبوا عن الأجر .

( أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة ) ; أي هذا التأخر الذي سألوه لا فائدة فيه ; لأنه لا منجي من الموت سواء أكان بقتل أم بغيره ، فلا فائدة في خور الطبع ، وحب الحياة . وتحتمل هذه الجملة أن يكون ذلك تحت معمول قل ، ويحتمل أن يكون إخبارا من الله مستأنفا بأنه لا ينجو من الموت أحد . والبروج هنا القصور في الأرض ؛ قاله مجاهد ، وابن جريج والجمهور . أو القصور من حديد روي عن ابن عباس . أو قصور في سماء الدنيا مبنية قاله السدي . أو الحصون والآكام والقلاع ؛ قاله ابن عباس . أو البيوت التي تكون فوق الحصون قاله بعضهم . أو بروج السماء التي هي منازل القمر ؛ قاله الربيع وأنس والثوري ، وحكاه ابن القاسم عن مالك . وقال : ألا ترى إلى قوله : ( والسماء ذات البروج ) ، وجعل فيها بروجا ( ولقد جعلنا في السماء بروجا ) ، وقال زهير :


ومن هاب أسباب المنية يلقها ولو رام أسباب السماء بسلم

مشيدة مطولة ؛ قاله أبو مالك ومقاتل وابن قتيبة والزجاج . أو مطلية بالشيد ؛ قاله أبو سليمان الدمشقي . أو حصينة قاله ابن عباس وقتادة . ومن قال : إنها بروج في السماء ; فلأنها بيض شبهها بالمبيض بالشيد ، ولهذا قال الذي هي قصور بيض في السماء مبنية .

والجزم في يدرككم على جواب الشرط ، وأينما تدل على العموم ، وكأنه قيل في أي مكان تكونون فيه أدرككم الموت . ولو هنا بمعنى إن ، وجاءت لدفع توهم النجاة من الموت بتقدير : إن لو كانوا في بروج مشيدة ، ولإظهار استقصاء العموم في أينما . وقرأ طلحة بن سليمان : يدرككم برفع الكافين ، وخرجه أبو الفتح : على حذف فاء الجواب ; أي فيدرككم الموت ، وهي قراءة ضعيفة . قال الزمخشري : ويجوز أن يقال : حمل على ما يقع موقع ( أينما تكونوا ) ، وهو : أينما كنتم كما حمل ، ولا ناعب على ما يقع موقع ليسوا مصلحين ، وهو ليسوا بمصلحين . فرفع كما رفع زهير يقول : لا غائب ما لي ولا حرم . وهو قول نحوي سيبويهي ، انتهى .

ويعني : أنه جعل ( يدرككم ) ارتفع لكون ( أينما تكونوا ) في معنى أينما كنتم ، بتوهم أنه نطق به . وذلك أنه متى كان فعل الشرط ماضيا في اللفظ فإنه يجوز في المضارع بعده وجهان : أحدهما : الجزم على الجواب . والثاني : الرفع . وفي توجيه الرفع خلاف . الأصح أنه ليس الجواب ، بل ذلك على التقديم والتأخير والجواب محذوف . وإذا حذف الجواب فلا بد أن يكون فعل الشرط ماضي اللفظ ؛ فتخريج هذه القراءة على هذا يأباه كون فعل الشرط مضارعا . وحمله على ( ولا ناعب ) ليس بجيد ؛ لأن ( ولا ناعب ) عطف على التوهم والعطف على التوهم لا ينقاس . وقال الزمخشري أيضا ، ويجوز أن يتصل بقوله : ( ولا تظلمون فتيلا ) ; أي لا تنقصون شيئا مما كتب [ ص: 300 ] من آجالكم أينما تكونوا في ملاحم حروب أو غيرها . ثم ابتدأ بقوله : يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة . والوقف على هذا الوجه أينما تكونوا ، انتهى كلامه . وهذا تخريج ليس بمستقيم ، لا من حيث المعنى ، ولا من حيث الصناعة النحوية ; أما من حيث المعنى فإنه لا يناسب أن يكون متصلا بقوله : ولا تظلمون فتيلا ; لأن ظاهر انتفاء الظلم إنما هو في الآخرة لقوله : ( قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى )

وأما من حيث الصناعة النحوية فإنه على ظاهر كلامه يدل على أن أينما تكونوا متعلق بقوله : ولا تظلمون ، ما فسره من قوله ; أي لا تنقصون شيئا مما كتب من آجالكم أينما تكونوا في ملاحم الحرب أو غيرها ؛ وهذا لا يجوز ; لأن أينما اسم شرط ، فالعامل فيه إنما هو فعل الشرط بعده . ولأن اسم الشرط لا يتقدم عليه عامله ، فلا يمكن أن يعمل فيه ، ولا تظلمون . بل إذا جاء نحو : اضرب زيدا متى جاء ، لا يجوز أن يكون الناصب لمتى اضرب . فإن قال : يقدر له جواب محذوف يدل عليه ما قبله ، وهو : ولا تظلمون ؛ كما تقدر في اضرب زيدا متى جاء ؛ فالتقدير : أينما تكونوا فلا تظلمون فتيلا ; أي فلا ينقص شيء من آجالكم ، وحذفه لدلالة ما قبله عليه . قيل له : لا يحذف الجواب إلا إذا كان فعل الشرط بصيغة الماضي ، وفعل الشرط هنا مضارع . تقول العرب : أنت ظالم إن فعلت ، ولا تقل أنت ظالم إن تفعل . وقرأ نعيم بن ميسرة : مشيدة بكسر الياء وصفا لها بفعل فاعلها مجازا ، كما قال : قصيدة شاعرة ، وإنما الشاعر ناظمها .

التالي السابق


الخدمات العلمية