الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 231 ] إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا استئناف عن قوله ومن يكفر بالله الآية ، لأنه إذا كان الكفر كما علمت ، فما ظنك بكفر مضاعف يعاوده صاحبه بعد أن دخل في الإيمان ، وزالت عنه عوائق الاعتراف بالصدق ، فكفره بئس الكفر .

وقد قيل : إن الآية أشارت إلى اليهود لأنهم آمنوا بموسى ثم كفروا به ، إذ عبدوا العجل ، ثم آمنوا بموسى ثم كفروا بعيسى ثم ازدادوا كفرا بمحمد ، وعليه فالآية تكون من الذم المتوجه إلى الأمة باعتبار فعل سلفها ، وهو بعيد ، لأن الآية حكم لا ذم ، لقوله لم يكن الله ليغفر لهم .

فإن الأولين من اليهود كفروا إذ عبدوا العجل ، ولكنهم تابوا فما استحقوا عدم المغفرة وعدم الهداية ، كيف وقد قيل لهم فتوبوا إلى بارئكم إلى قوله فتاب عليكم ، ولأن المتأخرين منهم ما عبدوا العجل حتى يعد عليهم الكفر الأول ، على أن اليهود كفروا غير مرة في تاريخهم فكفروا بعد موت سليمان وعبدوا الأوثان ، وكفروا في زمن بختنصر .

والظاهر على هذا التأويل أن لا يكون المراد بقوله ثم ازدادوا كفرا أنهم كفروا كفرة أخرى ، بل المراد الإجمال ، أي ثم كفروا بعد ذلك ، كما يقول الواقف : وأولادهم وأولاد أولادهم وأولاد أولاد أولادهم لا يريد بذلك الوقوف عند الجيل الثالث ، ويكون المراد من الآية أن الذين عرف من دأبهم الخفة إلى تكذيب الرسل ، وإلى خلع ربقة الديانة ، هم قوم لا يغفر لهم صنعهم ، إذ كان ذلك عن استخفاف بالله ورسله .

وقيل : نزلت في المنافقين إذ كانوا يؤمنون إذا لقوا المؤمنين ، فإذا رجعوا إلى قومهم كفروا ، ولا قصد حينئذ إلى عدد الإيمانات والكفرات . وعندي : أنه يعني أقواما من العرب من أهل مكة كانوا يتجرون إلى المدينة فيؤمنون ، فإذا رجعوا إلى مكة كفروا وتكرر منهم ذلك ، وهم الذين ذكروا عند تفسير قوله فما لكم في المنافقين فئتين .

[ ص: 232 ] وعلى الوجوه كلها فاسم الموصول من قوله إن الذين كفروا مراد منه فريق معهود ، فالآية وعيد لهم ونذارة بأن الله حرمهم الهدى فلم يكن ليغفر لهم ، لأنه حرمهم سبب المغفرة ، ولذلك لم تكن الآية دالة على أن من أحوال الكفر ما لا ينفع الإيمان بعده . فقد أجمع المسلمون على أن الإيمان يجب ما قبله ، ولو كفر المرء مائة مرة ، وأن التوبة من الذنوب كذلك ، وقد تقدم شبه هذه الآية في آل عمران وهو قوله إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم .

فإن قلت : إذا كان كذلك فهؤلاء القوم قد علم الله أنهم لا يؤمنون وأخبر بنفي أن يهديهم وأن يغفر لهم ، فإذن لا فائدة في الطلب منهم أن يؤمنوا بعد هذا الكلام ، فهل هم مخصوصون من آيات عموم الدعوة .

قلت : الأشخاص الذين علم الله أنهم لا يؤمنون ، كأبي جهل ، ولم يخبر نبيئه بأنهم لا يؤمنون فهم مخاطبون بالإيمان مع عموم الأمة ، لأن علم الله تعالى بعدم إيمانهم لم ينصب عليه أمارة ، كما علم من مسألة التكليف بالمحال لعارض في أصول الفقه ، وأما هؤلاء فلو كانوا معروفين بأعيانهم لكانت هذه الآية صارفة عن دعوتهم إلى الإيمان بعد ، وإن لم يكونوا معروفين بأعيانهم فالقول فيهم كالقول فيمن علم الله عدم إيمانه ولم يخبر به ، وليس ثمة ضابط يتحقق به أنهم دعوا بأعيانهم إلى الإيمان بعد هذه الآية ونحوها .

والنفي في قوله لم يكن الله ليغفر لهم أبلغ من : لا يغفر الله لهم ، لأن أصل وضع هذه الصيغة للدلالة على أن اسم كان لم يجعل ليصدر منه خبرها ، ولا شك أن الشيء الذي لم يجعل لشيء يكون نابيا عنه ، لأنه ضد طبعه ، ولقد أبدع النحاة في تسمية اللام ، التي بعد كان المنفية لام الجحود .

التالي السابق


الخدمات العلمية