الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب الدعوى والبينات

حدثنا الربيع قال أخبرنا الشافعي قال أخبرنا مسلم بن خالد عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { البينة على المدعي } ( قال الشافعي ) وأحسبه ولا أثبته قال { واليمين على المدعى عليه } أخبرنا عبد الله بن الحارث عن سيف بن سليمان عن قيس بن سعد عن عمرو بن دينار عن ابن عباس { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد } قال عمرو في الأموال . حدثنا الربيع قال أخبرنا الشافعي قال أخبرنا إبراهيم بن محمد عن ربيعة بن عثمان عن معاذ بن عبد الرحمن التيمي عن ابن عباس ورجل آخر سماه لا أحفظ اسمه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد } . حدثنا الربيع قال أخبرنا الشافعي قال أخبرنا عبد الوهاب عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة { أن عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود خرجا إلى خيبر فتفرقا لحاجتهما فقتل عبد الله بن سهل فانطلق هو وعبد الرحمن أخو المقتول وحويصة بن مسعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له قتل عبد الله بن سهل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم قتيلكم أو صاحبكم قالوا يا رسول الله لم نشهد ولم نحضر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبرئكم يهود بخمسين يمينا قالوا يا رسول الله كيف نقبل أيمان قوم كفار ؟ } فزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عقله من عنده قال بشير قال سهل لقد ركضتني فريضة من تلك الفرائض في مربد لنا .

( قال الشافعي ) وبهذه الأحاديث كلها نأخذ وهي من الجمل التي يدل بعضها على بعض ومن سعة لسان العرب أو اقتصار المحدث على بعض ما يسمع دون بعض أو هما معا فإن ادعى على أحد شيئا سوى الذي في النفس خاصة يريد أخذه لم يكن له أخذه بدعواه بحال فقط إلا أن يقيم بينة على ما ادعى فإذا أقام شاهدين على ما دون الزنا أو شاهدا وامرأتين على الأموال قضى له بدعواه ولم يكن عليه أن يحلف مع بينته وإذا لم يقم على ما يدعي إلا [ ص: 669 ] شاهدا واحدا فإن كان مالا أحلف مع شاهده وأعطى المال وإن كان الذي يدعي غير مال لم يعط به شيئا وكان حكمه حكم من لم يأت ببينة .

( قال الشافعي ) رضي الله عنه : البينة في دلالة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بينتان بينة كاملة بعدد الشهود لا يحلف مقيمها معها وبينة ناقصة العدد يحلف مقيمها معها ( قال ) ومن ادعى شيئا لم يقم عليه بينة يؤخذ بها أحلف المدعى عليه فإن حلف برئ وإن نكل لم يأخذ الذي ادعى منه شيئا حتى يحلف على دعواه فيأخذ بيمينه مع نكول المدعى عليه ( قال ) والحكم بالدعوى بلا بينة والأيمان مخالف له بالبينة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقاس به لأنهما شيء واحد تضادا قال : ومن ادعى ما لا دلالة للحاكم على دعواه إلا بدعواه أحلفنا المدعى عليه كما يحلف فيما سوى الدماء وإذا كانت على دعوى المدعي دلالة تصدق دعواه كالدلالة التي كانت في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى فيها بالقسامة أحلف المدعون خمسين يمينا واستحقوا دية المقتول ولا يستحقون دما .

( قال ) وكل ما وصفت بين في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم نصا فإن أحكامه لا تختلف وأنها إذا احتملت أن يمضي كل شيء منها على وجهه أمضى ولم تجعل مختلفة وهكذا هذه الأحاديث فإن قال قائل فتجد في كتاب الله تعالى ما يشبه هذا ؟ قيل نعم قال الله - عز وجل - { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } وقال في الذين يرمون بالزنا { لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء } فكان حكم الله أن لا يثبت الحد على الزاني إلا بأربعة شهداء ، وقال الله تعالى في الوصية : { اثنان ذوا عدل منكم } فكان حكمه أن تقبل الوصية باثنين وكذلك يقبل في الحدود وجميع الحقوق اثنان في غير الزنا وقال في الدين { واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان } فكان حكمه في الدين يقبل بشاهدين أو شاهد وامرأتين ولا يقال لشيء من هذا مختلف على أن بعضه ناسخ لبعض ولكن يقال مختلف على أن كل واحد منه غير صاحبه قال : وإنما قلت لا يقسم المدعون الدم إلا بدلالة استدلالا بما وصفت من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أن الأنصار كانت من أعدى الناس لليهود لقطعها ما كان بينها وقتلها رجالها وإجلائها عن بلادها وفقد عبد الله بعد العصر ووجد قبل مغيب الشمس قتيلا في منزلهم ودارهم محصنة لا يخلطهم فيها غيرهم فكان فيما وصفت دلائل من علمها أنه لم يقتله إلا يهود لبعضهم فعرض النبي صلى الله عليه وسلم على الأنصار أن يحلفوا ويستحقوا فأبوا فعرض عليهم أن تحلف يهود فيبرئهم بخمسين يمينا فأبوا فوداه من عنده وذلك عندنا تطوع فإذا كان في مثل هذا وما في معناه أو أكثر منه مما يغلب على من يعلمه أن الجماعة التي فيها القتيل أو بعضها قتلته كانت القسامة فيه واستحق أهله بها العقل لا الدم وإذا أبوا حلف لهم من ادعوا عليه خمسين يمينا ثم يبرءون لأن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبرئكم يهود يدل على أنهم يبرءون بالأيمان ومثل هذا وأكثر منه تدخل الجماعة البيت فيدخل عليهم وفيهم القتيل فيغلب على العلم أنهم أو بعضهم قتله أو يوجد الرجل بالفلاة متلطخ الثياب بالدم أو السيف وعنده القتيل ليس قربه عين ولا أثر عين فيغلب على من علم هذا أنه قتله أو إخبار من يغلب على من يسمع خبره أنه لا يكذب إذا كان ذلك بحضرة القتيل وأتى واحد من جهة وامرأة من أخرى أو صبي من أخرى أو كافر من أخرى وأثبت كلهم رجلا فقالوا هذا قتله وغيب فأروا غيره فقالوا لم يقتله هذا وما كان في هذا المعنى فإذا لم يكن واحد من هذه المعاني فادعى أولياء الميت أن فلانا قتله ، وكان جماعة من وجه واحد ليس فيهم من تجوز شهادته يمكن أن يكونوا تواطئوا على الباطل بعد القتل فيما لا يمكن أن يكون الذين جاءوا من وجوه متفرقة اجتمعوا فتواطئوا على أن يقولوا إنه قتله لم يكن فيه قسامة يحلف المدعى عليهم ويبرءون . [ ص: 670 ] باب الخلاف في هذه الأحاديث

حدثنا الربيع قال : ( قال الشافعي ) رضي الله عنه فخالفنا بعض الناس في هذه الأحاديث فجرد خلاف حديث اليمين مع الشاهد وخالف بعض معنى { البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه } وقد كتبت عليه فيها حججا اختصرت في هذا الكتاب بعضها فكان مما رد به اليمين مع الشاهد إن قال . قال الله تبارك وتعالى { شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان } فقلت له لست أعلم في هذه الآية تحريم أن يجوز أقل من شاهدين بحال قال : فإن قلت فيها دلالة على أن لا يجوز أقل من شاهدين ؟ قلت فقله قال فقد قلته قلت فمن الشاهدان اللذان أمر الله - جل ثناؤه - بهما ؟ قال عدلان حران مسلمان قلت فلم أجزت شهادة أهل الذمة ؟ وقلت لم أجزت شهادة القابلة وحدها ؟ قال لأن عليا أجازها قلت فخلاف هي للقرآن ؟ قال : لا قلت فقد زعمت أن من حكم بأقل من شاهدين خالف القرآن ؟ وقلت له يجوز في شيء من الحديث أن يخالف القرآن ؟ قال : فإن قلته ؟ قلت فيقال لك قال الله تعالى : { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } إلى { فنصف ما فرضتم } - وقال { ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فمالكم عليهن من عدة تعتدونها } فزعمت أن الرجل إذا خلا بالمرأة وأغلق بابا وأرخى سترا أو خلا بها في صحراء وهما يتصادقان بأن لم يمسها كان لها المهر وعليها العدة فخالفت القرآن قال : لا قال عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت ما قلت وإذا قالا لم نجعله للقرآن خلافا قلت فما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المبين عن الله تعالى ألم تقولوا هذا فيه ، وهو أبعد من أن يكون خلافا لظاهر القرآن من هاتين الآيتين وذكرت له غيرهما وقلت إن الله - عز وجل - قال شاهدين وشاهدا وامرأتين ففيه دليل على ما تتم به الشهادة حتى لا يكون على من أقام الشاهدين يمين لا أنه حرم أن يحكم بأقل منه ومن جاء بشاهد لم يحكم له بشيء حتى يحلف معه فهو حكم غير الحكم بالشاهدين كما يكون أن يدعي الرجل على الرجل الحق فينكل المدعى عليه عن اليمين فيلزمه عندك ما نكل عنه وعندنا إذا حلف المدعي فهو حكم غير شاهد ويمين وشاهدين قال : فإنا ندخل عليكم فيها وفي القسامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { البينة على المدعي } قلت فهذا القول خاص أو عام ؟ قال بل عام قلت فأنت إذا أشد الناس له خلافا قال : وأين ؟ قلت أنت تزعم لو أن قتيلا وجد في محلة أحلفت أهلها خمسين يمينا وغرمتهم الدية وأعطيت ولي الدم بغير بينة وقد زعمت أن قول النبي صلى الله عليه وسلم { البينة على المدعي } عام فلا يعطي أحد إلا ببينة وأحلفت أهل المحلة ولم تبرئهم وقد زعمت أن في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم { واليمين على المدعى عليه } أن المدعى عليه إذا حلف برئ مما ادعي عليه فإن قلت هذا بأن عمر قضى به قلت فمن احتج بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت عنه أولى بالحجة ممن احتج بقضاء غيره فإن قال بل من احتج بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت فقد احتججت بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعمت أن قوله { البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه } عام قال ما هو بعام قلنا فلم امتنعت من أن تقول بما إذا كشفت عنه أعطيت ما يدل على أن عليك أن تقول به ؟ وقلت بما إذا كشفت عنه ووجد عليك خلافه ؟

( قال ) فقد جعلتم اليمين مع الشاهد تامة في شيء ناقصة في غيره وكذلك جعلتم الشاهدين تامين في كل شيء إلا الزنا وجعلتم رجلا وامرأتين تامين في المال ناقصين في الحدود وجعلتم شهادة أهل الذمة تامة بينهم ناقصة بين غيرهم وشهادة المرأة تامة في عيوب النساء ناقصة في غيرها قال واحتج في القسامة بأن قال أعطيتهم بغير بينة قلت فكذلك أعطيت في قسامتك واحتج بأن قال أحلفتهم على ما لا يعلمون قلت فقد يعلمون بظاهر الأخبار ممن يصدقون ولا تقبل شهادتهم وإقرار القاتل عندهم بلا بينة ولا يحكم بادعائهم عليه الإقرار وغير [ ص: 671 ] ذلك قال : العلم ما رأوا بأعينهم أو سمعوا بآذانهم قلت ولا علم ثالث ؟ قال : لا قلت فإذا اشترى ابن خمس عشرة سنة عبدا ولد بالمشرق منذ خمسين ومائة سنة ثم باعه فادعى الذي ابتاعه أنه كان آبقا فكيف تحلفه ؟ قال : على البتة قال يقول لك تظلمني فإن هذا ولد قبلي وببلد غير بلدي وتحلفني على البتة وأنت تعلم أني لا أحيط بأن لم يأبق قط علما ؟ قال يسأل قلت يقول لك فأنت تحلفني على ما تعلم إني لا أبر فيه قال وإذا سألت وسعك أن تحلف قلت أفرجل قتل أبوه فغبى من ساعته فسأل أولى أن يعلم قال : نعم قال بعض من حضره بل من قتل أبوه قلت فقد عبت يمينه على القسامة ونحن لا نأمره أن يحلف إلا بعد العلم والعلم يمكنه واليمين على القسامة سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلت برأيك يحلف على العبد الذي وصفت قال فقد خالف حديثكم ابن المسيب وابن بجيد قلت أفأخذت بحديث سعيد وابن بجيد فتقول اختلفت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فأخذت بأحدها ؟ قال : لا قلت فقد خالفت كل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في القسامة ؟ قال : لا قلت فلم لم تأخذ بحديث ابن المسيب ؟ قال هو منقطع والمتصل أولى أن يؤخذ به والأنصاريون أعلم بحديث صاحبهم من غيرهم قال فكيف لم تأخذ بحديث ابن بجيد ؟ قلت : لا يثبت ثبوت حديث سهل فبهذا صرنا إلى حديث سهل دونه قال : فإن صاحبكم قال لا تجب القسامة إلا بلوث من بينة أو دعوى من ميت ثم وصف اللوث بغير ما وصفت قلت قد رأيتنا تركناه على أصحابنا وصرنا إلى أن نقضي فيه بمثل المعنى الذي قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بشيء في غير معناه قال وأعطيتم بالقسامة في النفس ولم تعطوا بها في الجراح قلت أعطينا بها حيث أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الجراح مخالفة للنفس قلت لأن المجروح قد يتبين من جرحه ويدل على من عمل ذلك ولا يتبين الميت ذلك ؟ قال : نعم قلنا فبهذا لم نعط بها في الجراح كما أعطينا بها في النفس والقضية التي خالفوا بها البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه أنهم أحلفوا أهل المحلة ولم يبرئوهم وإنما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمين موضع براءة وقد كتبنا الحجة في هذا مع غير ذلك مما كتبناه في غير هذا الكتاب وما رأيناهم ادعوا الحجة في شيء إلا تركوه ولا عابوا شيئا إلا دخلوا في مثله أو أكثر منه .

( قال الشافعي ) رضي الله عنه ومن كتاب عمر بن حبيب عن محمد بن إسحاق قال حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن عبد الرحمن بن بجيد بن قبطي أحد بني حارثة قال محمد يعني ابن إبراهيم وأيم الله ما كان سهل بأكثر علما منه ولكنه كان أسن منه قال والله ما هكذا كان الشأن ولكن سهلا أوهم ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم احلفوا على ما لا علم لهم به ولكنه كتب إلى يهود خيبر حين كلمته الأنصار أنه وجد قتيل بين أبياتكم فدوه فكتبوا إليه يحلفون بالله ما قتلوه ولا يعلمون له قاتلا فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده .

( قال الشافعي ) فقال لي قائل : ما يمنعك أن تأخذ بحديث ابن بجيد ؟ قلت لا أعلم ابن بجيد سمع من النبي صلى الله عليه وسلم وإذا لم يكن سمع من النبي صلى الله عليه وسلم فهو مرسل ولسنا ولا إياك نثبت المرسل وقد علمت سهلا صحب النبي صلى الله عليه وسلم وسمع منه وساق الحديث سياقا لا يثبته إلا الإثبات فأخذت به لما وصفت قال فما منعك أن تأخذ بحديث ابن شهاب قلت مرسل والقتيل أنصاري والأنصاريون أولى بالعناية بالعلم به من غيرهم إذا كان كل ثقة وكل عندنا بنعمة الله تعالى ثقة .

التالي السابق


الخدمات العلمية